في سجون العالم يقبع أكثر من نصف مليون طفل خلف القضبان. معظمهم ارتكب جنحاً بسيطة قبل أن تطبق الأصفاد على معصميه الطريين، لكن قلة منهم تخرّج، بعد انهاء فترة العقوبة، الى حياة مطهّرة من الذنوب والخطايا بحسب ما يُرتجى أصلاً من سجون الأحداث. ما يحصل في الغالب هو العكس تماماً، لأن هذه السجون في أكثرية بلدان العالم، تبدو المكان الأنسب لتخريج المجرمين، وكأنما تتعمد بقوانينها العشوائية تجريد "ضيوفها العابرين" من أثمن ما منحتهم اياه سنّة الحياة: الأمل والبراءة. في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، عرضت محطة بي بي سي البريطانية شريطاً وثائقياً مذهلاً كشف النقاب عن أخطاء فادحة يرتكبها "الراشدون الحكماء" بحق أطفال أخذهم القدر على حين غرّة ودفع بهم الى نقطة اللاعودة. وأثار عرض الفيلم الذي حمل عنوان "أطفال خلف القضبان" ردود فعل عنيفة خصوصاً في انكلترا لأنه تعرّض للنظام القضائي البريطاني في ما يتعلق بسجون أو اصلاحيات الأحداث، باعتبارها تجرّ الأطفال جراً الى الاجرام بدلاً من انقاذهم من براثينه. وكانت الأوساط البريطانية شهدت منذ أشهر قليلة ردود فعل مماثلة على أثر قيام عدد من الصحف والمجلات المحلية بنشر مقالات وتحقيقات تفضح ممارسات عنيفة ضرب مبرح واهانات متواصلة الخ تمارس ضد الأحداث في الاصلاحيات البريطانية. ينظر بول 9 أعوام الى الكاميرا بعينين حزينتين ويقول: "لا أنوي التورط بعد اليوم في مشكلات مع الشرطة. فالأمر لا يستحق كل العناء الذي أتكبّده". وعندما تسأله المخرجة عن سبب وجوده في السجن، يجيب متلعثماً: "سبق لي أن ارتكبت "أربعة أخطاء صغيرة" كان آخرها سرقة مجموعة من مضارب الغولف وبطاقات بوكيمون، وحكم عليّ بعقوبة أربعة أشهر لست أدري كم تبقّى لي منها...". وبول يعاني مرض الديسلكسيا عسر القراءة والفهم، ما جعله فريسة سهلة للمستأسدين من زملائه في السجن كما كان في المدرسة. تنتقل الكاميرا الى داني 12 عاماً، زميل بول في الزنزانة نفسها ولكنه يبدو أكثر عدائية. أودع داني السجن بتهمة سرقة مبلغ خمسة دولارات من محفظة والدته، وسبق له أن أمضى عقوبة سبعة أشهر خلف القضبان بتهمة سرقة دراجة هوائية من أحد زملائه في المدرسة: "لا يهمني إذا عدت مراراً الى هذا المكان البائس. فالحياة التي أعيشها "في الخارج" ليست أفضل حالاً". ويلقي داني المسؤولية على والديه كونهما لم يؤمنا له منزلاً دافئاً يقصيه عن المشكلات والمتاعب. فالأم تعاني انهياراً عصبياً شبه دائم والأب أدمن الكحول حتى تحوّل الى وحش كاسر يزرع الرعب في نفوس أفراد العائلة. ويعاني داني اضطراباً نفسياً حاداً بحسب ما يؤكد أطباؤه. القلق بادٍ على تعابير وجهه والسيجارة تكاد لا تفارق أصابعه أدمن التدخين في السابعة من عمره. في الواقع، تشير الاحصائيات الى ان غالبية الأحداث في السجون والاصلاحيات البريطانية يعانون اضطرابات نفسية خطرة قد تكون لدى بعض السجناء السبب الرئيس وراء ارتكاب الجنح ولدى بعضهم الآخر نتيجة للسجن نفسه. في الجانب الآخر من العالم، وتحديداً في أحد مراكز الاحتجاز المنغولية، يتململ تسينغونجاف 9 أعوام في زاويته الضيقة مترقباً بفارغ صبر صدور الحكم عليه. بخلاف قرينيه البريطانيين، يتكلم ببلاغة واضحة ولكنه، مثلهما، يبدو متشائماً من مصيره، وفي نظراته ذلك المزيج الآسر نفسه من اليأس والبراءة والخوف. يروي ان أحد أصدقائه سرق جهازاً خلوياً وألصق به التهمة أمام رجال الشرطة: "أشعر كأنني سأختنق في هذا المكان. كم أتمنى لو يطلقون سراحي في وقت قريب، لكن رفيقاً لي في الزنزانة قال ان التهمة ثبتت عليّ وسأقضي عقوبة بالسجن لا تقل عن ثلاثة أعوام وقد تصل الى ثمانية". قد يكون الفارق واضحاً بين أوضاع سجون الأحداث البريطانية والمنغولية. فبول، على سبيل المثال، يتشارك ورفيق واحد زنزانة لا بأس بحالها، وهي مزودة سريرين نظيفين يغطيهما حرامان قطنيان أنيقيان، في حين يقبع تسينغونجاف مع عشرة آخرين في زنزانة ضيقة، يفترشون الأرض ولا يجدون ما يقيهم قرّ البرد. غير ان القاسم المشترك بين الأطفال السجناء في البلدين يتمثل في أحوالهم النفسية المغرقة في متاهة اليأس والكآبة، وقد أضحوا أسرى نظام قضائي غاشم من المرجح ان يقودهم بلا رحمة الى عالم الجريمة. واليوم، يتجاوز عدد الأحداث تحت 18 عاماً في سجون العالم نصف مليون سجين، ارتكب معظمهم جنحاً بسيطة ولكن في صورة مكرورة. في السجون البريطانية وحدها قرابة 3500 طفل سجين وهي النسبة الأكبر في جميع البلدان الأوروبية. وعلى رغم ذلك، يحاول المجتمع البريطاني غضّ الطرف عن مصير هؤلاء، لا بل ان عدداً كبيراً من البريطانيين يحسب ان سجون الأحداث غير موجودة أصلاً، علماً ان عددها اليوم يبلغ اقصاه كما تشير كايت بلوويث في سياق تعليقها على "أطفال خلف القضبان". استغرق التحضير لانجاز الشريط المذكور 14 شهراً تابع خلالها المخرجان أوضاع الأحداث في سجون عدد من البلدان في أنحاء العالم. وسبق للثنائي ان أنجز أفلاماً وثائقية عدّة تناولت قضية اساءة معاملة الأطفال داخل بريطانيا وخارجها. وعام 1995 نال شريط "الغرف الآيلة للموت" جائزة أفضل فيلم وثائقي وعرض للأوضاع البائسة في المياتم الصينية. وعام 1997، قدم الثنائي فيلم "براءة مفقودة" عن استغلال الأطفال واساءة معاملتهم في العالم. وفي عام 1999، انجز فيلم "نظرات طفل" لمحطة بي بي سي أيضاً، وعرض للفقر المدقع الذي يعيشه عدد كبير من أطفال بريطانيا إذ يتحولون نتيجته الى عالم الجريمة. لكن بلوويث تؤكد ان انجاز "أطفال خلف القضبان" كان الأكثر صعوبة في مسيرتها الفنية، وقد ترك في نفسها أثراً كبيراً: "لن يسهل عليّ نسيان عيون الأطفال السجناء وهم يتساءلون ببراءة عن موعد اطلاقهم. عندما نتكلم على الفقر أو اساءة معاملة الأطفال، تكون الأمور إما بيضاً أو سوداً. أما لدى الكلام على أطفال ارتكبوا جنحاً، فنلحظ تبايناً واضحاً في الآراء. بعضهم يؤكد ضرورة سجنهم ليتعلموا انهم أخطأوا ويجب ان يدفعوا ثمن أخطائهم، وبعضهم الآخر يصر على ضرورة عدم معاملة الأحداث معاملة المجرمين، خصوصاً ان معظمهم يعاني اضطرابات نفسية وليس مسؤولاً مباشراً عن أخطائه، وبالتالي ينبغي ان نمد لهم يد العون بدل ان ندفعهم دفعاً الى بؤرة الجريمة". زار المخرجان وحدات احتجاز خاصة واصلاحيات للأحداث ومعسكرات تدريب وسجوناً في بلدان مختلفة كالولايات المتحدةوالبرازيل والفيليبين. قابلا أطفالاً سجناء وصوّرا حياتهم اليومية بعيداً من أعين الحرّاس، فتبيّن لهما أن قلّة من الدول تنتهج الأسلوب المناسب في تعاطيها مع السجناء الأحداث. ولعل الخطأ البديهي الذي يرتكب بحق هؤلاء هو عدم التفريق بين الأطفال منهم والمراهقين. فعلى رغم أن حالاً من السوداوية تتملك جميع السجناء ما دون سن الرشد، إلاّ أن الأطفال منهم يميلون الى الحزن واليأس في حين يبدو المراهقون أكثر غلياناً بثورة داخلية وغيظ مكبوت، ما يستدعي ضرورة التعامل مع كل شريحة بالطرق الملائمة لأوضاعها النفسية المعقدة. في بريطانيا مثلاً، تصور الكاميرا سام، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تنقلت طوال حياتها بين مياتم عدة ومنازل لإيواء الأحداث قبل أن تحط رحالها في الاصلاحية. تتسم طباع سام بعدائية فائقة ولا تتوانى عن ضرب أحد رفاقها السجناء الذي يصغرها بستة أعوام بمجرد انه طلب منها تنحية كرسيها من طريقه. وعندما تدرك ان الكاميرا صوّرتها وهي تنقضّ بشراسة على رفيقها، تحاول تبرير طباعها بالقول: "أكره نفسي لأنني أفقد السيطرة على أعصابي وأعجز عن التحكم بهرموناتي ومشاعري. انها شخصيتي وأود لو أستطيع تغيير طباعي وكبت غضبي، لكن المرء لا يتغيّر بكبسة زر". على رغم اتقادها بغضب داخلي عارم، يبدو واضحاً ان سام تعاني، هي الأخرى، كآبة شديدة. يتملكها اليأس والخيبة ولا تتوقع ان يحمل لها الغد ولو بصيصاً من الأمل. ما يعانيه النظام القضائي العالمي من خلل واضح بات معروفاً من الجميع في ما يتعلق بسجون الكبار ينسحب أيضاً على سجون الأحداث التي تفتقر بغالبيتها الى نظم وقوانين خاصة تمنع تحوّلها الى مرتع خصب لبذور الفساد والجريمة. ففي مانيلا عاصمة الفيليبين مثلاً، يقضي أحد الأطفال ويدعى أوجين 10 أعوام عقوبة بالسجن لجريمة لم يرتكبها. بصوت مخنوق، يستعيد أمام الكامير مشهداً لن ينساه في حياته، واصفاً كيف انقض عليه رجال الشرطة في منتصف الليل مصوّبين اليه اسلحتهم الثقيلة ليقتادوه الى المخفر بتهمة اغتصاب شابة في الحادية والعشرين من عمرها. وبعد التحقيق، تبيّن ان الشابة كانت تحاول ابتزاز عائلته وان ادعاءاتها كاذبة. وعلى رغم مرور عشرة أشهر على اسقاط التهمة عنه، لا يزال قابعاً في السجن الاحتياطي، متقوقعاً في زنزانة ضيقة مع سبعين صبياً غيره: "اضعت الكثير من الوقت. كان ينبغي أن أكون اليوم على مقاعد الدراسة في السنة الأولى من المرحلة الثانوية". يصمت أوجين لحظات ليسترد أنفاسه ويمسح دموعه قبل أن يتابع: "أشعر أنني سأصاب بالجنون. لا شيء أقوم به طوال الوقت سوى التفكير بحالي. في السجن يتحجّر عقلنا وقلبنا في آن. يختفي الخوف من نفوسنا وتختلط الأمور علينا فنعجز عن التمييز بين الخطأ والصواب ولا نكترث إذا عدنا مراراً الى هذا المكان البائس". وهذه النقطة تحديداً تختصر الغاية التي توخاها المخرجان البريطانيان من شريطهما، أي تحذير الدول والمجتمعات من مغبة سوء أوضاع سجون الأحداث التي تلقّن الأطفال "الدروس" على نحو خاطئ، ما يسهّل عليهم سلوك سبيل الرذيلة. في أحد سجون ساو باولو في البرازيل، تصور الكاميرا خوليو 14 عاماً وهو يتناقش مع صبية من عمره محاولاً افهامهم الطريقة الأمثل لادلائهم بشهاداتهم قبل مثولهم أمام القاضي. خوليو أدمن المخدرات في سن مبكرة وله صولات وجولات مع رجال الشرطة وخبرة واسعة في كيفية التحايل على القوانين وكأنه محام بارع انفق حياته بين أروقة المحاكم. ثم تنتقل الصورة الى معسكر للتدريب في ولاية تكساس الأميركية حيث يصل باولو 15 عاماً مكبل اليدين والرجلين ليبدأ أول يوم له في عقوبة مدتها ستة أشهر. يقف متأهباً أمام حارس متجهم بزيه الكاكي فيصرخ هذا الأخير بأعلى صوته: "لا تتحرك قبل أن أشير لك بذلك... من الآن فصاعداً أنت ملك لهذا المعسكر، يحق لنا ان نفعل بك ما نشاء". "حاضر سيدي" يجيب باولو وكأنه مجنّد في الأسطول البحري، ويهرع الى الزنزانة المعدَّة له فيما يجري الحارس في أثره من غير ان يتوقف عن الصراخ. واللافت ان هذا الأسلوب الذي قد يبدو نافراً في سياق الكلام على الطفولة والبراءة، أثبت فاعليته في حالات عدة. فعندما عاد المخرجان وودز وبلوويث لزيارة باولو بعد مرور بضعة أشهر، تملكتهما الدهشة لرؤيته في ذروة التفاؤل: "أفدت كثيراً من نظام المعسكر الصارم وكنت أحسب ان وجودي هنا سيكون مضيعة للوقت. لم يبق لي سوى بضعة أيام وأشعر برضى كبير عن نفسي. تعلّمت أموراً كثيرة أهمها كيفية ضبط النفس والتفكير بسرعة وبطريقة سليمة". "هذه النتائج الايجابية، يقول وودز، لا تتوصل اليها غالبية سجون الأحداث في العالم. ففي بريطانيا مثلاً، تسجل الاحصاءات عودة 84 في المئة من الأحداث الى السجون بعد مرور أقل من عامين على خروجهم منها. وهذا الأمر ينسحب أيضاً على المراكز الخاصة التي تقدم لمرتكبي الجنح الدعم المعنوي اللازم تحت اشراف أطباء نفسيين". ويبدو ان العامل الأهم في نجاح تجربة المعسكرات الأميركية هو متابعة السجناء بعد اطلاقهم، إذ يتولى الاخصائيون مراقبة مرتكبي الجنح عن كثب ويبقون على اتصال بهم وبأفراد عائلاتهم وبمدارسهم. ومن العوامل المهمة أيضاً في عودة الأحداث الى الصراط المستقيم، كيفية استقبال المجتمع لهم بعد عودتهم الى الحرية ومدى جهوزيته لتقبّل وضعهم الجديد. وفي هذا السياق، يؤكد المخرجان البريطانيان ان اصلاحيات الأحداث في تركيا هي أكثر سجون العالم "فاعلية" ومثالاً ينبغي الاحتذاء به. فالسجناء الأحداث الأتراك يتم احتجازهم في فضاءات واسعة بلا جدران أو حراس. ولهم حرية التجول بحسب رغبتهم. فالغاية من وجودهم ليست العقاب انما مساعدتهم الى العودة الى المجتمع كمواطنين عاديين. وهذا الأسلوب الذي يبدو طوباوياً، أثبت فاعليته، فهو أشبه بمدرسة داخلية يغادرها السجناء يومياً للذهاب الى المدرسة أو العمل ويعودون اليها في المساء لتلقي النصائح والإرشادات. والقوانين التركية تفرض على المؤسسات الكبرى ان يشكل مرتكبو الجنح السابقون نسبة 5 في المئة من القوة العاملة لديها. ويتولى المسؤولون عن الاصلاحيات التفتيش عن وظائف تتلقف الأحداث لدى خروجهم من السجن. وتشير الاحصاءات الى ان مرتكبي الجنح الذين يمارسون عملاً هم أقل عرضة من غيرهم لتكرار اخطائهم السابقة، وتبين ان نسبة الأحداث الذين يعودون الى الاصلاحيات التركية أكثر من مرة لا تتجاوز 3 في المئة، وهذه النسبة أقل بكثير مما تحققه غالبية سجون الأحداث في العالم، وخصوصاً في بريطانيا حيث يعمل المجتمع على نبذ المذنبين واقصائهم عن مجرى الحياة اليومية العادية. ينتهي شريط "اطفال خلف القضبان" بمشهد بول، سارق مضارب الغولف وبطاقات البوكيمون، وهو يستعد لإطلاقه. على ملامحه أمائر القلق والخوف. بعد لحظات، يصل والداه لاصطحابه بعدما اعادا ترتيب غرفته وابتاعا له دراجة جديدة. أما هو فيعترف للكاميرا بأنه يؤثر البقاء داخل السجن حيث يشعر بالأمان، فهو يخشى كثيراً ما ينتظره في الخارج.