الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت منذ خمسة عشر شهراً لم تحقق شيئاً يذكر سياسياً، على رغم الثبات الرائع لشعب يزرح تحت الاحتلال العسكري، شعب اعزل على رأسه قيادة سيئة لكنه لا يزال مشرداً، ويتحدى فظاعات آلة الحرب الاسرائيلية. وفي الولاياتالمتحدة، رددت الحكومة ووسائل الاعلام "المستقلة"، ما عدا استثناءات لا تزيد على اصابع اليد، كلام احدها الآخر بالعزف على وتر العنف والارهاب الفلسطيني، مع تجاهل تام للاحتلال العسكري الاسرائيلي الذي مضى عليه 35 عاماً، ويعتبر الأطول في التاريخ الحديث. ونتيجة ذلك، أدت الادانات الرسمية الاميركية لسلطة ياسر عرفات في اعقاب 11 ايلول بأنها ترعى الارهاب، الى التأكيد بقسوة على الادعاء الشنيع لحكومة شارون بأن اسرائيل هي الضحية وان الفلسطينيين هم المعتدون في الحرب المستمرة منذ اربعة عقود التي خاضها الجيش الاسرائيلي ضد المدنيين والممتلكات والمؤسسات من دون رحمة او تمييز. والنتيجة اليوم هي ان الفلسطينيين يحبسون في 220 غيتو تخضع لسيطرة الجيش، فيما تقوم مروحيات "اباتشي" التي زودتها إياه اميركا ودبابات "ميركافا" وطائرات "إف-16" بحصد الناس والمنازل وبساتين وحقول الزيتون بلا رحمة يومياً. وتعاني المدارس والجامعات بالاضافة الى المتاجر والمؤسسات المدنية شللاً تاماً. وقتل مئات المدنيين الابرياء واصيب عشرات الالاف بجروح. وتتواصل عمليات الاغتيال ضد القادة الفلسطنيين. ويبلغ معدل البطالة والفقر حوالي 50 في المئة. يحدث هذا كله فيما يواصل الجنرال انتوني زيني التحدث برتابة عن "العنف" الفلسطيني مع عرفات البائس الذي لا يستطيع ان يغادر مكتبه في رام الله لأنه محبوس هناك من قبل الدبابات الاسرائيلية، بينما تفر اجهزة الامن التابعة له في حال مزرية وهي تحاول البقاء بعد تدمير مكاتبها ومعسكراتها. وما يزيد الامور سوءاً ان الاسلاميين الفلسطينيين خدموا مباشرة طواحين الدعاية التي لا تكل في اسرائيل وجيشها المتأهب دائماً بتفجيرات انتحارية بربرية على نحو غير مبرر تنفذ بين حين وآخر واجبرت عرفات في النهاية، في منتصف كانون الاول ديسمبر الماضي، على ان يوجّه قواته الامنية المشلولة ضد "حماس" و "الجهاد الاسلامي"، لتقوم باعتقال متطرفين واغلاق مكاتب واطلاق النار احياناً وقتل متظاهرين. ومع كل مطلب يعلنه شارون يسارع عرفات الى تلبيته، حتى عندما لا يكف شارون فيقدم مطلباً آخر ويفتعل حادثاً او يقول فحسب - بدعم اميركي - انه غير راضٍ، وان عرفات يظل ارهابياً "غير ذي شأن" منعه بشكل سادي من حضور قداس اعياد الميلاد في بيت لحم هدفه الرئيسي في الحياة هو قتل اليهود. وفي مواجهة هذه الموجة اللامنطقية من الهجمات الوحشية على الفلسطينيين، وعلى الرجل الذي يعتبر زعيمهم اياً كانت الاحوال، وعلى وجودهم الوطني المهان بالفعل، كان الرد المحير لعرفات هو الاستمرار في المطالبة بعودة الى المفاوضات، كما لو ان حملة شارون الصريحة ضد حتى إمكان التفاوض غير قائمة بالفعل، وكما لو ان فكرة عملية اوسلو للسلام لم تتبخر بالفعل. وما يدهشني هو ان لا أحد، باستثناء عدد ضئيل من الاسرائيليين آخرهم ديفيد غروسمان، يخرج ويقول علناً ان الفلسطينيين يُضطهدون من قبل اسرائيل باعتبارهم "هنودها الحمر". تكشف نظرة اقرب على الواقع الفلسطيني وضعاً مشجعاً اكثر بعض الشيء. فقد اظهرت استطلاعات الرأي الاخيرة ان عرفات وخصومه الاسلاميين الذين يشيرون الى انفسهم بشكل غير منصف بوصفهم "المقاومة" يتقاسمون ما يراوح بين 40 و 45 في المئة من التأييد الشعبي. ويعني هذا ان غالبية صامتة من الفلسطينيين لا توافق السلطة الفلسطينية ثقتها غير المبررة في اوسلو او تؤيد نظامها الفاسد والقمعي الذي لا يخضع لسيطرة القانون ولا تؤيد في الوقت نفسه عنف "حماس". ورد عرفات، بدهائه المعهود في التكتيك، بتفويض الدكتور ساري نسيبه، احد وجهاء القدس ورئىس جامعة القدس والشخصية المعروفة في "فتح"، بالقاء كلمات تمثل بالون اختبار، ملمحة الى انه لو كانت اسرائيل الطف قليلاً فإن الفلسطينيين قد يتخلوا عن حقهم في العودة. وبالاضافة الى ذلك، وقّع عدد كبير من الشخصيات الفلسطينية التي تعد قريبة من السلطة او، على نحو اكثر دقة، لم تكن ابداً مستقلة عن السلطة على بيانات او قاموا بجولات مع نشطاء سلام اسرائيليين موجودين خارج السلطة او، بخلاف ذلك، يبدون عاجزين ومفتقرين ايضاً الى الصدقية. ويُفترض لهذه المناورات المحبطة ان تبيّن للعالم ان الفلسطينيين مستعدون للكف عن القتال بأي ثمن، وحتى للتكيف مع الاحتلال العسكري. فعرفات لم يهزم بعد بقدر ما يتعلق الامر بحماسه الذي لا يكل للبقاء في السلطة. ومع ذلك، على مسافة بعض الشيء من هذا كله، يبرز ببطء تيار قومي علماني جديد. ومن المبكر تماماً ان يعتبر هذا التيار حزباً او كتلة، لكنه في الوقت الحاضر مجموعة واضحة للعيان تتمتع باستقلال حقيقي ومكانة شعبية. وهي تعد في صفوفها الدكتور حيدر عبد الشافي والدكتور مصطفى البرغوثي لا ينبغي ان يُخلط بينه وبين قريبه عن بعد، الناشط في "فتح" مروان البرغوثي، الى جانب ابراهيم الدقاق والبروفسور زياد ابو عمر والبروفسور احمد حرب والبروفسور علي الجرباوي والبروفسور فؤاد المغربي، وعضوا المجلس التشريعي راوية الشوا وكمال الشرافي، والكتاب حسن خضر ومحمود درويش ورجاء شحاده وريما الطرزي وغسان الخطيب ونصير عاروري وإيليا زريق وكاتب هذه السطور. وفي منتصف كانون الاول ديسمبر الماضي، صدر بيان يحمل تواقيع هذه الشخصيات وحظي بتغطية واسعة في وسائل الاعلام العربية والاوروبية لم يُشر اليه في الولاياتالمتحدة. ودعا البيان الفلسطينيين الى توحيد صفوفهم والمقاومة والانهاء غير المشروط للاحتلال العسكري الاسرائيلي، بينما لزم الصمت على نحو متعمد بشأن العودة الى اوسلو. ونحن نعتقد بأن التفاوض من اجل تحسين في الاحتلال مساوٍ لإطالة أمده. فلا يمكن للسلام ان يتحقق إلاّ بعد ان ينتهي الاحتلال. وتركز اكثر مقاطع الاعلان جرأة على الحاجة الى تحسين الوضع الفلسطيني الداخلي، وقبل كل شيء تعزيز الديموقراطية، و "تصحيح" عملية اتخاذ القرار التي تخضع كلياً لسيطرة عرفات ورجاله، وتأكيد الحاجة لاستعادة سيادة القانون ووجود قضاء مستقل، ومنع اساءة استعمال الاموال العامة، وترسيخ وظائف المؤسسات العامة لاعطاء كل مواطن الثقة في تلك المؤسسات التي صمّمت خصيصاً للخدمة العامة. ويدعو المطلب الاخير والحاسم الى اجراء انتخابات برلمانية جديدة. واياً كانت الطريقة التي فُسّر بها هذا الاعلان، فإن تبني كثرة كهذه من الشخصيات المستقلة البارزة، التي يستند معظمها الى تأييد منظمات صحية وتعليمية ومهنية وعمالية، فإن هذه الامور لم تغب عن بال غيرهم من الفلسطينيين الذين اعتبروه اقوى نقد لاذع حتى الآن لنظام عرفات او عن بال العسكريين الاسرائيليين. بالاضافة الى ذلك، في الوقت الذي سارعت فيه السلطة الى اطاعة شارون وبوش باعتقال المشتبه فيهم المعتادين من الاسلاميين، اُطلقت "حركة تضامن عالمية" لاعنفية من قبل الدكتور مصطفى البرغوثي، وضمّت حوالي 550 مراقباً اوروبياً العديد منهم اعضاء في البرلمان الاوروبي جاؤوا عن طريق الجو على نفقتهم الخاصة. ورافقتهم مجموعة تمتاز بانضباط جيد من الفلسطينيين الشباب الذين ساهموا الى جانب الاوروبيين في عرقلة حركة الجنود والمستوطنين الاسرائيليين، ومنعوا في الوقت نفسه قذف الحجارة او اطلاق النار من الجانب الفلسطيني. وأدى هذا بشكل فاعل الى اقصاء السلطة والاسلاميين، وفرض جعل الاحتلال الاسرائيلي ذاته في مركز الانتباه. وحدث هذا كله بينما كانت الولاياتالمتحدة تمارس الفيتو ضد قرار في مجلس الامن يفوض مجموعة دولية من مراقبين غير مسلحين مهمة التمركز بين الجيش الاسرائيلي والمدنيين الفلسطينيين العزل. كانت أول نتيجة لهذا التحرك ان الاسرائيليين قاموا في 3 كانون الثاني يناير الجاري، اثر مؤتمر صحافي عقده البرغوثي مع حوالي عشرين اوروبياً في القدسالشرقية، باعتقاله واحتجازه والتحقيق معه مرتين، وتهشيم ركبته باعقاب البنادق واصابته بجروح في رأسه، بذريعة انه كان يفسد النظام وانه كان دخل القدس بشكل غير شرعي على رغم انه ولد فيها ويملك اذناً طبياً بدخولها. ولم تحل أي من هذه الاجراءات دون ان يواصل ومؤيدوه الكفاح اللاعنفي الذي سيتحكم، حسب اعتقادي، بتوجيه الانتفاضة التي جرت عسكرتها على نحو مفرط بالفعل، وتركيز وجهتها وطنياً على انهاء الاحتلال والمستوطنات، وقيادة كفاح الفلسطينيين في اتجاه اقامة الدولة وتحقيق السلام. ويثير شخص مثل البرغوثي، كفلسطيني يمتاز برباطة جأش وعقلانية ومكانة محترمة، مخاوف اسرائيل اكثر مما يثيره المتطرفون الاسلاميون الملتحون الذي يتوق شارون لعرضهم على نحو مضلل بوصفهم التجسيد للخطر الارهابي الذي يهدد اسرائيل. وكل ما يفعلوه هو اعتقاله، وهو مثال على سياسة شارون المفلسة. اذاً اين هو اليسار الاسرائيلي والاميركي الذي يسارع الى ادانة "العنف" بينما لا يقول أي كلمة بشأن الاحتلال المخزي والاجرامي ذاته؟ أقترح بشكل جدي ان ينضموا الى نشطاء شجعان مثل جيف هالبر ولويزا مورغانتيني عند المتاريس حرفياً ومجازياً، جنباً الى جنب مع هذه المبادرة الفلسطينية العلمانية الجديدة الكبيرة، والشروع بالاحتجاج على الوسائل العسكرية الاسرائيلية التي تدعم بشكل مباشر من قبل دافعي الضرائب وعلى صمتهم الذي يشترى بثمن باهظ. فبعدما امضوا سنة وهم يلوون ايديهم المتشابكة ويشكون من غياب حركة سلام فلسطينية منذ متى يتحمل شعب محتل عسكرياً المسؤولية عن انشاء حركة سلام؟، يقع على عاتق دعاة السلام المزعومين الذين يستطيعون ان يؤثروا فعلاً على الجيش الاسرائيلي واجب سياسي واضح بان يشرعوا فوراً بتنظيم حركة ضد الاحتلال، بشكل غير مشروط ومن دون فرض مطالب غير لائقة على الفلسطينيين المثقلين أصلاً. بعضهم فعل ذلك. فقد رفض مئات عدة من جنود الاحتياط الاسرائيليين اداء الخدمة العسكرية في الاراضي المحتلة، وواصل طيف بأكمله من الصحافيين والنشطاء والاكاديميين والكتاب من ضمنهم اميرة هاس وجدعون ليفي وديفيد غروسمان وايلان بابي وداني رابينوفيتش واوري افنيري الهجوم بثبات على العبث الاجرامي لحملة شارون ضد الشعب الفلسطيني. وينبغي ان تكون هناك حركة مماثلة في الولاياتالمتحدة حيث تسود على نحو مفرط نزعة التواطؤ في الجريمة والتأييد الصاخب لاسرائيل، باستثناء عدد ضئيل من الاصوات اليهودية التي تعلن غضبها على الاحتلال العسكري الاسرائيلي. لقد نجح اللوبي لاسرائيلي موقتاً في مطابقة الحرب ضد بن لادن مع الهجوم الشرس والموحد الذي يشنه شارون على عرفات وشعبه. وللأسف فان الجالية الاميركية - العربية صغيرة الحجم وتجد نفسها محاصرة الى حد كبير اذ تحاول ان تتحاشى شباك وزير العدل الاميركي اشكروفت والتمييز العنصري وكبح الحريات المدنية هناك. المطلوب اذاً، كمهمة ملحة تماماً، التنسيق بين الجماعات العلمانية المختلفة التي تؤيد الفلسطينيين، الشعب الذي يشكل تشتته الجغرافي حتى اكثر من اعمال السلب الاسرائيلية العقبة الرئيسية التي تعترض مجرد وجوده. ان انهاء الاحتلال وكل ما ارتبط به هو مسألة ملحة وواضحة بما فيه الكفاية. فلنفعل ذلك الآن. ولا ينبغي ان يتردد المثقفون العرب بالانضمام فعلاً الى هذه الحركة. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.