} استغلت حكومة آرييل شارون موضوع ضبط سفينة الأسلحة الى حده الأقصى، لتعطيل مهمة المبعوث الاميركي انتوني زيني. واستفادت تل أبيب من "الضوء الأخضر" الذي ارسلته ادارة جورج بوش بربط موضوع السفينة بالسلطة الفلسطينية لتعاود شن حربها التدميرية ضد المدن والقرى بذريعة محاربة "الارهاب". كيف حصل الأمر ولماذا نجحت اسرائيل في ترتيب سياستها بالتوازن مع الهجوم الاميركي من كشمير الى فلسطين؟ هنا بعض جوانب القصة. لم تنجح جهود القيادة الفلسطينية في اضفاء الصيغة الشرعية على عملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي على رغم ما تجيزه وثائق الأممالمتحدة وغيرها من المحافل الدولية للشعوب بمقاومة الاحتلال وحق تقرير مصيرها. فالمقاومة الفلسطينية المسلحة خلال حقبة "الحرب الباردة" كانت شرعية بالنسبة الى المعسكر الشرقي بينما كانت حركة ارهابية بالنسبة الى الغرب. وبعد حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي، تحولت نظرة الغرب نحو القضية الفلسطينية وأصبحت اكثر دعماً لها. ويعود الفضل بذلك للانتفاضة الأولى والتغييرات الإقليمية والدولية التي شهدتها تلك الفترة، ولكن خلال العام الماضي عادت الحركات الفلسطينية لتظهر من جديد على خانة "المنظمات الإرهابية" في القوائم الغربية، خصوصاً عندما قرر الفلسطينيون معاودة النشاط المسلح. يعتقد غالبية الخبراء ان مرد هذا الموقف السلبي للغرب يعود لنشاط اللوبي الصهيوني وحملاته الديبلوماسية والإعلامية ضد الفلسطينيين. إلا ان الهيئات العربية تقوم ايضاً بحملات إعلامية وديبلوماسية شبه متواصلة لحشد الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، لكن سبل مخاطبة السياسيين والقيادات والرأي العام الغربي لم تكن ناجحة من الناحية العربية. فاللوبي الصهيوني اظهر إدراكاً اكبر للفلسفة السياسية لدى الغرب التي لها تعريف خاص لحركات التحرر وحرب العصابات. هذا في حين كانت الهيئات العربية تحاور الغرب ضمن المنطق العربي لحرب العصابات التحريرية. فما هي قواعد اللعبة والفلسفة السياسية - العسكرية لدى الغرب لحرب العصابات التحريرية؟ حرب العصابات لم يعر غالبية الاستراتيجيين والمؤرخين العسكريين في الغرب والذين ظهروا بين الحروب النابليونية والحرب العالمية الأولى اهتماماً كبيراً لحرب العصابات في كتاباتهم. ففي حين اكتفى الاستراتيجي الفرنسي البارون هنري دي جوميني بالإشارة لها في فصل واحد، لم يعرها الاستراتيجي البروسي كارل فون كلاوزوفيز اي اهتمام. واتفق كلاهما على أن حرب العصابات هي "حرب قذرة" لا تليق بالجنود والضباط "النبلاء" وتتعارض مع قواعد الحرب التقليدية. وساد هذا الاعتقاد الفكر العسكري الغربي طوال الحقبة التي كانت فيها جيوشهم محتلة ومستعمرة لمناطق كثيرة في العالم. وتغير هذا الوضع عندما وجدت الدول الغربية نفسها تحت الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، إذ لعب رجال المقاومة في كل من فرنسا ويوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي ودول جنوب شرق آسيا وأنحاء اخرى من اوروبا دوراً اساسياً في إنهاك قوات المحور ودحرها. ودفع هذا الأمر الكثير من الاستراتيجيين والمؤرخين الغربيين الى إعادة النظر بتعريفهم لحرب العصابات وأهميتها. وشهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية ظهور مفكرين واستراتيجيين عسكريين قاموا بوضع نظريات وقواعد اصبحت جزءاً من الفلسفة والقوانين الغربية للعلاقات الدولية والحرب. ومن اهم النظريات التي وضعت حول اخلاقيات الحرب واستحوذت على الفكر الغربي الحديث كانت نظرية "الحروب العادلة وغير العادلة" للفيلسوف والكاتب الأميركي مايكل والزر. وتدرس نظرية والزر في المعاهد السياسية والعسكرية الغربية كافة وتقدم كبديل عن نظرية الفيلسوف الإيطالي ماكيافيللي والقائمة على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة". وتأثر بنظرية والزر الكثير من القادة الغربيين امثال الرئيسين جورج بوش الأب والابن، إذ استشهدا بأقواله في بعض خطاباتهم. ولكن كيف يتعاطي والزر، الذي تعكس نظرياته الى حد كبير الفكر الغربي والقانون الدولي الحديث، مع حرب العصابات التحريرية اليوم؟ يجد والزر مشكلة في تبرير عملية قام بها رجال المقاومة الفرنسية متنكرين بزي فلاحين ضد دورية للقوات النازية في فرنساالمحتلة. ففي حين ان الاحتلال عمل غير شرعي وحق مقاومة المحتل امر شرعي، إلا ان التخفي بزي مدني ينزع عن العملية طابع العملية العسكرية ويجعلها اقرب لعملية اغتيال او جريمة قتل. فضمن الفكر الغربي، يجب على الطرفين المتحاربين ان يعرفا قواتهما العسكرية للطرف الآخر بواسطة الزي العسكري من اجل تمييزهم عن المدنيين. ولذلك لا يعتبر القانون الدولي الجنود الذين يقبض عليهم متخفين بزي مدني خلف خطوط العدو جواسيس اسرى حرب ويحاكمون كمجرمين. ويشار الى أن ضمن هذا التعريف، من يطلق عليهم "فرق المستعربين" في الجيش الإسرائيلي، الذين يتخفون في زي مدني خلال قيامهم بمهمات ضد الفلسطينيين، هي فرق غير شرعية ولا يتوجب على الفلسطينيين معاملتهم كأسرى حرب عند القبض عليهم، وحسب والزر فإن واجب القوات المحتلة ان تؤمن كل متطلبات ومستلزمات المعيشة الأساسية، مثل الكهرباء والماء والمواد الغذائية والأمن، لسكان الأرض المحتلة. كما انه من حق سكان الأراضي المحتلة ان يرفضوا المحتل وأن يقاوموه. ولكن سبل الرفض والمقاومة هذه يجب ان تكون ضمن قواعد محددة، بحسب الفكر الغربي. فأين المقاومة الفلسطينية وحزب الله من قواعد اللعبة الاستراتيجية الغربية؟ قواعد اللعبة يجيز الفكر الغربي للجيش المحتل الدفاع عن نفسه ضد رجال المقاومة. فهذا الجيش احتل هذه الأرض نتيجة حرب او خلاف تحول الى نزاع عسكري بين البلدين، وفي حال إسرائيل فهي دولة معترف بحدودها دولياً تعرضت لتهديدات وهجمات عربية نتجت عنها حروب خرجت منها القوات الإسرائيلية منتصرة. وسبل مقاومة الاحتلال يجب ان تحظى بالدعم المطلق لسكان الأراضي المحتلة، فإن كان خيار الكفاح المسلح هو الطاغي، فيجب ان تخضع العمليات العسكرية لقواعد الحرب من حيث تمييز الأهداف المدنية عن العسكرية وارتداء المقاومين للزي العسكري. فخلال "الحرب الباردة" كانت عمليات التنظيمات الفلسطينية خارج إسرائيل وفي اوروبا تحديداً تدخل القضية الفلسطينية ضمن خانة الإرهاب وترفع عنها صبغة الحرب التحريرية كونها تهدد امن دولة لا علاقة مباشرة لها بالاحتلال. كما كانت عمليات الفدائيين من الأراضي العربية، وتحديداً لبنان والأردن، غير شرعية حسب الفكر الغربي كونها تأتي من دول ذات سيادة وموقعة على اتفاقات هدنة مع إسرائيل. وبقيت العمليات الفدائية في الداخل التي كانت اهدافها مدنية بالنسبة الى الغرب ومنفذيها كانوا يرتدون زياً مدنياً. وجاءت اخيراً الانتفاضة الشعبية إذ وللمرة الأولى شعرت إسرائيل بالعجز إذ لم يستطع اللوبي الصهيوني الدفاع عنها. فهي كانت حركة تحريرية مطابقة للتعريف الغربي إذ كانت حركة شعبية تمثلت بعصيان مدني شامل يرفض التعامل مع الاحتلال بكل اشكاله وهناك تظاهرات تخللتها اشتباكات استخدم فيها الفلسطينيون الحجارة كسلاح وحيد ضد البنادق الإسرائيلية. حينها تحول الرأي العالمي في الغرب ضد اسرائيل وتمكنت الحملات الإعلامية الغربية من اثارة الشارع الإسرائيلي ضد حكومته، وكانت المفاوضات في "مؤتمر مدريد". اما انتفاضة الأقصى، او الانتفاضة الثانية، فهي وحسب اعتقاد بعض المحللين فشلت او على طريق الفشل بسبب عدة عوامل. فهي ليست كسابقتها، إذ ان الفلسطينيين يستخدمون هذه المرة الأسلحة النارية الخفيفة والمتوسطة ومدافع الهاون. ويظهر الفلسطينيون احياناً بالزي المدني وهم يطلقون النار على الجنود، مما يعطي إسرائيل، وحسب الفكر العسكري الغربي، الحق بالدفاع عن نفسها مستخدمة شتى انواع الأسلحة. ولما كانت السلطة الفلسطينية منتخبة بطريقة شرعية من الشعب الفلسطيني، فهي الممثل الوحيد للفلسطينيين في العالم. وعندما تدين السلطة العمليات الانتحارية والهجمات الفدائية ضد الإسرائيليين، فهي بذلك تنزع الغطاء السياسي والشرعي عن عمليات المقاومة التي ينفذها بعض التنظيمات الفلسطينية مثل "حماس" و"الجهاد" وحتى "فتح"، وتدعم الاتهامات الإسرائيلية لهذه التنظيمات بأنها ارهابية. وكان اجدى بالسلطة الفلسطينية ان تمنع العمليات العسكرية واستخدام السلاح من اراضيها منذ اليوم الأول وأن تبقيها حركة عصيان مدني وانتفاضة حجارة كسابقتها لتحقيق هدفها، او على الأقل لا تدين تلك العمليات بعد وقوعها. حزب الله وانتفاضة الأقصى يذكر ان عمليات المقاومة في لبنان لم تكن كشبيهتها في فلسطين اليوم. فالمقاومة التي قادها حزب الله في جنوبلبنان كانت بطريقة متعمدة او غير متعمدة متطابقة الى حد كبير مع الفكر العسكري الغربي. فقد كان حزب الله يحظى بالغطاء السياسي للحكومة اللبنانية التي تبنته داخلياً وخارجياً كحركة مقاومة. كما ان مقاتلي المقاومة كانوا يظهرون على شاشات التلفزة مرتدين زياً عسكرياً ويهاجمون اهدافاً عسكرية إسرائيلية على ارض لبنان محتلة. كما استطاع حزب الله ان يثبت للرأي العام الدولي ان قصفه للأهداف المدنية في شمال اسرائيل كان رد فعل لغارات إسرائيل ضد المدنيين. وما التوصل الى تفاهم نيسان ابريل وتمثيل فرنساوالولاياتالمتحدة في لجنة مراقبة وقف اطلاق النار المنبثقة عن تفاهم نيسان سوى دليل على اعتراف الفكر العسكري الغربي بحزب الله كحركة تحرر. لذلك فشل اللوبي الصهيوني بتشويه صورة حزب الله في الخارج خلال فترة المقاومة ما تسبب بفقدان دعم الرأي العام الدولي والشارع الإسرائيلي لاحتلال القوات لجنوبلبنان. لذلك عند مقارنة حزب الله في جنوبلبنان بالمقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة اليوم تظهر الفوارق الآتية: 1- لا تحظى بعض التنظيمات الأكثر نشاطاً عسكرياً ضد الاحتلال، مثل "حماس" و"الجهاد"، بغطاء سياسي من السلطة. فهذه الحركات رفضت المشاركة بالسلطة كما ان القيادة ادانت معظم عملياتها. 2- لم يحصر الفلسطينيون عملياتهم بالأهداف العسكرية داخل الأراضي المحتلة وكانوا في غالبية الأحيان يتنكرون بالزي المدني. 3- كان المسلحون الفلسطينيون يرافقون رشقة الحجارة ويطلقون النار من خلفهم مما يشرّع بنظر الغرب رد الفعل الإسرائيلي العنيف. لعل اهم ما افتقدته، ولا تزال تفتقده، انتفاضة الأقصى هو استراتيجية واضحة من قبل السلطة الفلسطينية. وأي استراتيجية يجري تبنيها يجب ان تلحظ كسب الرأي العام الغربي، وتحديداً الأميركي. ولتحقيق ذلك تجب دراسة كل الخطوات لتتناسب مع الفكر السياسي والعسكري في الغرب لتحظى بالدعم الإعلامي وبالتجاوب الديبلوماسي معها. قد لا تتفق المبادئ العربية مع تلك الغربية، لكن كون العالم اصبح احادي القطب لصالح الولاياتالمتحدة وكون الدول العربية مشتتة ولا تملك التفوق العسكري ضد إسرائيل، فلا خيار امامها سوى تفهم الفلسفة السياسية - العسكرية الغربية من اجل التناغم معها وتجنيدها لخدمة القضايا العربية ولتقليص دور اللوبي الصهيوني قدر الإمكان. فالإعلام هو السلطة الرابعة فعلاً وقولاً على المستوى الدولي. ولكسبه على العرب مخاطبته ضمن المفهوم الغربي للسياسة وقواعد الحرب. * كاتب لبناني. مؤسسة انيغما للتحليل العسكري، دبي.