ما أحوج أميركا في هذه الأيام الهوجاء الى سياسي حكيم رصين من طراز وزير خارجيتها الأسبق سايروس فانس الذي غيبه الموت هذا الاسبوع. لقد حالفني الحظ عندما كنت سفيراً لسورية في واشنطن أن أعاصر فانس منذ توليه وزارة الخارجية في بداية عام 1977 وحتى استقالته في 28/4/1980، احتجاجاً على مغامرة عسكرية فاشلة لم يشاوره أحد في أمرها وكانت تهدف الى تحرير الرهائن الأميركيين ال53 المحتجزين في سفارتهم في طهران بعيد قيام الثورة الاسلامية الايرانية. وكان الإقدام على تلك المغامرة يتنافى مع أسلوب فانس وتفكيره الذي يعتمد في حل المشكلات مهما بلغت صعوبتها وتعقيداتها على انتهاج طريق المفاوضات الصابرة الهادئة، وكان يرى أن الذين أقنعوا الرئيس جيمي كارتر حينذاك بالقيام بتلك المغامرة الرعناء لا يختلفون في شيء عن أولئك الذين سبق وأقنعوا الرئيس جون كينيدي بتنفيذ عملية خليج الخنازير ضد كوبا عام 1961، التي أخفقت هي الأخرى إخفاقاً ذريعاً وأوقعت بهيبة أميركا هزيمة نكراء. كما كان يرى أن تلك المغامرة لو نجحت لأدت الى بدء تورط أميركي عسكري مماثل للتورط الأميركي في فيتنام الذي كان شاهداً عليه عندما كان نائباً لوزير الدفاع في منتصف الستينات. أقول إن الحظ حالفني وحالف زملائي السفراء العرب في واشنطن في أن نعمل ونتعاون مع سايروس فانس أو "ساي"، كما كان يناديه بتحبب أصدقاؤه والمقربون منه. فمنذ أيامه الأولى في الخارجية فتح أمامنا الأبواب لنجلس إليه مرة بعد مرة سواء بطلب منه أو منا، ليبحث معنا بكل الصدق والصراحة في قضية العرب الأولى قضية الشرق الأوسط بعيداً عن أساليب سلفه هنري كيسنجر الماكيافيلية المخادعة التي كانت تهدف أساساً الى تفريق الصف العربي ومحو كل مكتسبات حرب تشرين وشل سلاح النفط الذي كان العرب قد استعملوه بكل اقتدار. ومنذ جلستنا الأولى مع فانس في 17/1/1977 أشعرنا، نحن الذين كان يختارهم مجلس السفراء العرب ليمثلوه في الاجتماعات معه، انه حرص على أن يلتقي بنا حتى قبل موعد التنصيب الرسمي للرئيس كارتر وتشكيل حكومته الجديدة، وأنه لا يريد أن يكون لقاؤنا الأول معه لقاء بروتوكولياً لمجرد التعارف بل أراده أن يكون اجتماع عمل قبل أن تتسلم الادارة الأميركية الجديدة مسؤولياتها المقبلة. وبالفعل راح على مدى ساعتين يستفهم منا عن وجهة النظر العربية وعما يساور منطقتنا من هموم في صراعها مع اسرائيل. ومنذ تلك الجلسة الأولى أحسسنا أننا أمام رجل دولة منهجي التفكير يحسن الاستماع ويصغي بقلب مفتوح الى ما نعرضه عليه، مما شجعنا على أن نتناوب أنا وزملائي سفراء مصر ولبنان والكويت والسعودية الحديث عن قلق العرب من استمرار تدفق الأسلحة الأميركية على اسرائيل ومساندة أميركا لها في المحافل الدولية، مما يزيد من تعنتها ويدعم احتلالها للأراضي العربية والمضي في انشاء المستعمرات وفي إنكار حقوق الفلسطينيين الوطنية. وعلى رغم أننا في تلك الجلسة الأولى كنا نلجأ من حين لآخر الى الصراحة الجارحة في انتقاد السياسة الأميركية، فإن فانس كان يسجل على ورقة بيده نقاط حديثنا بهدوء واضح مما دلنا الى طريقته في العمل وإلى انها طريقة منهجية تتوخى الدقة والوضوح، إذ أنه بدأ يعلق على ما أثرناه ويراجع تلك الورقة ليرد على النقاط التي عرضناها واحدة واحدة. في حين كان كيسنجر من قبل قد عوّدنا وعوّد المسؤولين العرب الذين كان يلتقيهم على أن يقحم المزاح والنكات في حديثه المراوغ ليغطي أضاليله ويتهرب من اعطاء الأجوبة الواضحة الدقيقة. ولفت نظرنا ان فانس لا يحب أن يخوض في متاهات الأخذ والرد للدفاع عن بعض نقاطه، وأحسسنا بأنه حين يكون مقتنعاً بوجهة نظر أحدنا فإنه كان يكتفي بالابتسام وهز الرأس. وأذكر انه فعل ذلك عندما قابلته في 25/7/1977 على أثر زيارة مناحيم بيغن لواشنطن وأشرت الى تصريحاته الاستفزازية التي كان يلح فيها على النواحي الدينية والذكريات اليهودية في كل أحاديثه ولقاءاته مع كارتر والمسؤولين الأميركيين، مما جعلهم وكأنهم أمام درس مستمر في التاريخ يلقى عليهم طوال الوقت. بل ان حتى والدة كارتر لم تنج من ذلك الدرس حين عرّفها الرئيس الى بيغن الذي قال لها بقلة ذوق متناهية "كم تشبهين أمي التي قتلها الألمان عام 1942"! ولا شك أن فانس كان التعبير الأمين للنهج الذي أطلقه كارتر في سنته الأولى، فهذا الرئيس كان ظاهرة فريدة في الحياة السياسية الأميركية، إذ أنه أتى من المجهول، وحين بدأ حملته الانتخابية في بلدته الجنوبية الصغيرة لم يكن يعرفه أحد، ولكنه استطاع بالصبر والمثابرة والانفتاح على الناس وإلهاب خيالهم بشعارات جديدة أن يشق الصفوف بسرعة ويتخطى صعاباً كثيرة سقط أمامها جميع منافسيه من عتاة الحزبين الديموقراطي والجمهوري جميعاً. كما أنه كان أتى على غير المألوف من خارج التركيبات السياسية الواشنطنية وبنى حملته على أنه سيكون رئيساً جيداً ومختلفاً لأنه آت من خارج هذه التركيبات، وراح يفصح عن أفكار جديدة لم تألفها أسماع الأميركيين من قبل وذلك من أجل ان يؤكد شعاره الانتخابي القائل: "زعامة جديدة ذات رؤية أميركية جديدة". وكان أهم ما نادى به، بالنسبة الى قضية الشرق الأوسط، هو وجوب اقامة وطن للفلسطينيين وكان ذلك في 17 آذار مارس 1977 أي قبل أن يمر شهران فقط على بدء ولايته، وبذلك اقتحم أحد "التابويات" التي كان يستحيل حينذاك على مسؤول أميركي أن يقترب منها، وراح يقول ما لا يقال: الوطن الفلسطيني، الانسحاب الاسرائيلي، الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين... مما أهاج اسرائيل ويهودها الأميركيين ولا سيما حين التفّ كارتر من وراء ظهر هؤلاء جميعاً وأصدر في شهر تشرين الأول اكتوبر 1977 البيان الشهير المشترك مع الاتحاد السوفياتي، وكأنه كان ينسف المقولة الاسرائيلية بأن اسرائيل هي قاعدة لإيقاف المد السوفياتي في المنطقة وذلك لتأمين استمرار تدفق المساعدات المالية والعسكرية لها. كان فانس واحداً مما كان يسمى "ثلاثية روكفلر" التي جاء منها كارتر وبريجينسكي ومونديل وبراون وكوانت وغيرهم في الادارة الجديدة، والذين انطلقوا في رؤيتهم الشرق الأوسطية من تقرير "معهد بروكينغز" الشهير الصادر عام 1975 الذي وضع قاعدة مفصلة لحل مشكلة الشرق الأوسط بشكل يتجاوز القرارين 242 و338. ولكن تطلعات كارتر الطموحة في ما يتعلق بهذه المشكلة وبغيرها من القضايا الداخلية والدولية لم يتوفر لها أن تترجم الى واقع لأن الضغوط والعراقيل كانت تترصده من كل جانب، ولا سيما من الكونغرس والدهليزيات الاسرائيلية والجماعات اليهودية. كما أن تراجعه عن بعض الأفكار الجريئة التي نادى بها في خطاب آذار 1977 عن الشرق الأوسط أثار انتقاد العرب. وإذا كنا اليوم نشهد ترويجاً لما يطلق عليه "صراع الحضارات" فإنه لمن السخرية بمكان أن يتذكر المرء أن مثل تلك النغمة ترددت في واشنطن قبل خمسة وعشرين عاماً. فقد كنا نبين باستمرار للمسؤولين الأميركيين الذين نحاورهم أن العلاقة بين عالمنا وعالمهم ليست بالضرورة علاقة تصادمية، وانما يمكن أن تكون علاقة تعاون وتبادل على أساس المساواة وأنه ليست كل صرخة تحرر في بلادنا تعني عداء لمطلق أهل الغرب ولحضارتهم ولانجازاتهم العلمية والفنية والثقافية بل تعني العداء لممارسات السياسات الغربية بالذات. وكنا نرى أن هذا التوضيح كان أساسياً من أجل ألا يقع ما وقع فيه الشارع الأميركي بل كادت تقع فيه وزارة الخارجية الأميركية نفسها حين اعتبر حجز الرهائن الأميركيين في طهران يوم 4/11/1979 عملاً اسلامياً ضد اميركا، فقد قامت تظاهرات في واشنطن ضد عملية الاحتجاز، لكن الذي حدث ان هذه التظاهرات استهدفت مسجد واشنطن وليس السفارة الايرانية وبذلك تداخل في ذهن المتظاهرين - جهلاً أو عمداً - الاسلام وما جرى في طهران. وفي يوم 21/11 استدعى الوزير فانس سفراء الدول الاسلامية وطلب منهم أن يساعدوا في اطلاق الرهائن. وهنا اعتذر اذ أروي ما قلته للوزير فانس في ذلك الاجتماع. قلت: "انني أخشى يا سيادة الوزير أن نكون الآن نرى في الوزارة تكراراً لما شاهدناه في شوارع واشنطن حيث رأى المتظاهرون في ما جرى في طهران عملاً دينياً، في حين أنكم تعلمون حق العلم انه لا يخرج عن كونه ردة فعل سياسية ضد سياسة الولاياتالمتحدة وممارساتها، وكما أنه ليس لمسجد واشنطن علاقة بهذا العمل السياسي كذلك لا نرى ما يبرر استدعاءنا لمجرد أننا سفراء دول تدين بالإسلام. فالمشكلة هي مشكلة سياسية بينكم وبين إيران وليس للدين أي دخل فيها". وهنا فكر السيد فانس قليلاً وسألني: "وماذا تقترح إذاً؟" قلت: "اقترح أن تستدعي بقية سفراء دول العالم المعتمدين في واشنطن وتطلب منهم أيضاً ما طلبته منا وبذلك تكون قد عالجت موضوعاً سياسياً مع جميع السفراء المعتمدين لا مع سفراء الدول الاسلامية وحدهم". وتشاور الوزير مع مساعده السيد هارولد ساوندرز الذي وافق على رأيي فأقر الوزير الاقتراح وتم استدعاء بقية السفراء في مساء اليوم نفسه. وحين كتب إليّ الوزير فانس في 6/12/1979 مهنئاً بحلول القرن الرابع الهجري شدد على ما بين أميركا حكومة وشعباً من علاقات عميقة مع الاسلام وقيمه الدينية والانسانية، كما أكد احترام الشعب الأميركي للتراث الاسلامي. وفي ردي على رسالته شكرته على الاستجابة لاقتراحي خلال اجتماعنا به يوم 21/11 المشار إليه، وأضفت أن التاريخ يقدم لنا أمثلة كثيرة على التطرف الذي يمارس باسم الدين، وذكّرته بأن الحملات الصليبية التي تعرضت لها منطقتنا في الماضي كانت تهدف أساساً الى السيطرة السياسية تحت ستار الدين وأن المسيحية منها براء. كما أننا نشهد في أيامنا الحاضرة ما توقعه اسرائيل من آلام وأذى بالأرض العربية وبشعبها باسم الدين والتوراة. هذه بعض من ذكريات عشتها في فترة ولاية الراحل سايروس فانس الذي يغيب عن أميركا في وقت تحتاج الى من هو مثله ليخاطب العالم بلغة العقل السليم والمنطق الهادئ، لا بلغة رعاة البقر التي تعتمد التهديد والوعيد والصراخ في البراري الذي سيرتد كما الصدى على مطلقيه. * سفير سوري سابق.