تنتخب الأرجنتين اليوم رئيساً جديداً هو الرابع المعين لحكمها في أقل من أسبوعين، بعدما أطاحت الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها البلاد الرؤساء الثلاثة السابقين وأدخلتتها في احدى أكبر أزمات الافلاس التي شهدها العالم. وتحولت النقمة الشعبية التي عاشها قرابة 35 مليون أرجنتيني ممن انهارت قيمة مدخراتهم وقدراتهم الشرائية إلى سخط مباشر موجه ضد الطبقة السياسية بمختلف أحزابها وتنظيماتها. وتحولت الشوارع مسرحاً لحملات احتجاج عارمة استخدم فيها السكان الأواني المنزلية للقرع عليها واظهار سخطهم أمام منازل السياسيين. ومن شأن الأزمة الحالية أن تدفع عشرة آلاف أرجنتيني كل يوم إلى النزول دون مستوى الفقر. وتعتبر أصعب من أي أزمة اقتصادية عرفتها في السابق، بما فيها عجزها عن الوفاء بديونها عام 1982. ويبلغ حجم الدين العام الذي يرزح ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية تحت وطأته 2،171 بليون دولار، وتبلغ حصة الدين الخارجي 134،132 بليون دولار، منها 25 بليوناً ديوناً تعود لمؤسسات دولية، و5،92 بليوناً سندات حكومية مصدّرة بالعملات الصعبة. وكانت الأرجنتين نفذت إبان عهد الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم خطة لانقاذ البلاد من الركود الاقتصادي، وفقاً لاتفاق مع صندوق النقد الدولي نص على دولرة الاحتياط في البنك المركزي وربط قيمة البيزو الأرجنتيني بالدولار الأميركي، وبيع الموجودات الحكومية وتخصيصها، واعتماد اللامركزية الادارية وتطبيق سياسات اقتصادية أكثر ليبرالية. لكن الدين العام تضاعف أكثر من مرتين في مدى عقد واحد، فزاد من 8،80 بليون دولار عام 1991 إلى أكثر من 171 بليوناً حالياً. ودفع هذا الوضع الشارع الأرجنتيني الى اتهام الأحزاب السياسية بالمسؤولية عن سياسات الهدر والفساد التي أدت إلى تفاقم الوضع المعيشي، من دون أن يوفر ذلك الرئيس السابق منعم على رغم نجاحه في مضاعفة اجمالي الناتج القومي من 141 بليون دولار عام 1991 إلى قرابة 283 بليون دولار عام 1999، وفي توسيع قاعدة الطبقة المتوسطة التي كانت المتضرر الأول من الانهيار الأخير. وكانت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تدهورت منذ عام 1998 إذ ارتفعت البطالة من 13 في المئة إلى 18 في المئة حالياً، في حين بقي معدل النمو الاقتصادي أدنى من الصفر. ولم تنجح القروض الدولية والاستدانة من الداخل بسندات مرتبطة بالدولار، في انقاذ الاقتصاد الأرجنتيني الذي عانى من أزمة الانهيار الاقتصادي التي عرفتها المكسيك عام 1994 ومن تداعيات الأزمة المالية الكبيرة التي عرفها العالم خلال 1997، وجارتها البرازيل خصوصاً. ووجه رئيس مجلس النواب ادواردو كامانيو دعوة إلى الجمعية التشريعية التي تضم مجلسي النواب والشيوخ للاجتماع بعد ظهر اليوم وانتخاب رئيس جديد للبلاد يتولى اتمام المهلة القانونية التي كان يفترض بالرئيس الراديكالي المنتخب فرناندو دي لاروا انهائها عام 2003، لو لم يضطر الى الاستقالة في 20 الشهر الماضي، عقب اضطرابات عنيفة قادت اليها قراراته القاضية بتقييد سحب الودائع بالدولار من المصارف وحصرها بألف دولار لكل مودع. ولم يلبث نائبه أدولوفو رودريغيس سا الذي تولى الحكم مكانه أن استقال أول من أمس بعد استشراء الاضطرابات وعجزه عن تأمين تأييد حكام الولايات البيرونيين الأربعة عشر المنتمين لحزب الرئيس منعم من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية. وأعقب استقالته إعلان استقالة الرئيس الموقت لمجلس الشيوخ رامون بويرتا الذي كان كلفه تولي انتقال الرئاسة. وكان رودريغيس سا الذي استقالت حكومته أيضاً والذي أعلن وقف تسديد الأرجنتين ديونها الخارجية الضخمة، حمل في رسالة استقالته على السياسيين "الفاسدين" الذين أوصلوا البلاد إلى هذه الأزمة الأخيرة، لا سيما من حزب العدالة البيروني، ما عزز موجة السخط التي تعم البلاد. وبين الحلول التي اقترحها الرئيس المستقيل اعتماد عملة جديدة اسمها الأرجنتينو سيتم اصدارها لحفظ مصالح المودعين. إلا أن هذه الخطوة اصطدمت بكون البلاد تفتقد الى الورق اللازم لطبع العملة الجديدة، وهو ما دفع الى تكليف البرازيل المجاورة القيام بطبعها. ومن غير المعروف حتى الآن حجم الانعكاسات التي ستتركها هذه الأزمة على الاقتصاد العالمي والمؤسسات المصرفية الدولية في ظل الركود العالمي المتفاقم، إلا أن المحللين يعتبرون أن مشاكل الأرجنتين ستؤدي الى موجة صدمة ستعاني منها الاقتصادات في أميركا اللاتينية ولا سيما البرازيلوالمكسيك اللتين ترتبطان بالاقتصاد الأميركي مباشرة، مشيرين إلى انهيارات تشبه لعبة الدومينو، وتمتد الى بقية الأسواق الدولية في أوروبا والشرق الأقصى. ويرغب البيرونيون في استخدام الفراغ الحالي من أجل التعجيل بعودتهم الى السلطة، وهم يريدون بدلاً من انتخاب رئيس يحكم حتى عام 2003، تحديد منتصف شباط فبراير أو الثالث من آذار مارس موعداً لانتخابات رئاسية عامة تتيح فوزهم في الانتخابات. إلا أن الجدل الساخن الدائر في الأرجنتين والفصام الذي تم بين الشعب وحكامه لا يعد بجولة رابحة للبيرونيين ولا لمعارضيهم الراديكاليين، بل ربما بأزمة تطيح توازن هذا البلد اللاتيني.