يعكس لبنان الصورة العميقة لما يحصل ويُخطّط لمستقبل المنطقة، فهو الميزان، أو المؤشّر إذا صحّ التعبير. إذا دارت حرب فيه، وكان لها وظيفة اقليمية. أما إذا فرض السلم على المتحاربين فيه وهو عادة يُفرض، كان له وظيفة معينة قد تطول بحسب الفترة التي يريدها المخططون. فيه الكثير من الحرية والقليل من الكلام الحرّ. فيه الكثير من النصوص الديموقراطية، لكنها توضع كي تُتجاوز عن سابق تصوّر وتصميم وتُتخطى. فهو ملجأ للهاربين من الاضطهاد، لكنه قد يُشكّل أيضاً حقلاً للتصفية الجسدية. شكلت التوقيفات الأخيرة نقلة نوعية في المدى الذي وصلت اليه خصوصاً انها طاولت للمرة الأولى بعض القيادات المعارضة. ووُجهت الى بعضها تهمة التعامل مع العدو الاسرائيلي، وطالت التهمة الصحافة أيضاً. لكن الجديد في هذه التوقيفات هو في الطريقة وفي التوقيت. فهي تمّت في غياب السلطة التنفيذية رئيسها في باكستان، التي اعتبرت ان هناك انقلاباً حدث على الدستور. ومنهم من قال ان العسكرة تسير على قدم وساق، ولا بد من معاقبة المسؤولين عن ذلك. منهم من اعتبرها رداً على زيارة البطرك الماروني صفير الى الشوف التي أسهمت في انهاء العداء بين الموارنة والدروز. ومنهم من وضعها في اطار الخلاف المستمر بين الرئيسين لحود والحريري. هذا عن الفريق المصطف وراء الرئيس الحريري، أما الفريق الموالي للرئيس لحود فإنه يعتبر ان الأمن القومي خصوصاً في هذه المرحلة هو من الأولويات، لذلك تندرج هذه التوقيفات في مجالا درء الخطر قبل وقوعه، مع الاعتراف ببعض الأخطاء التي حصلت من المنفذين وسيعاقبون، بحسب ما صرّح به الوزير الياس المر، معتبراً أيضاً انه لم يتم تجاوز السلطة السياسية، لأن قرارات مجلس الوزراء في هذا الخصوص مأخوذة منذ العامين 1992 و1994 ولا لزوم للعودة الى المجلس في كل مرة. في هذا الاطار يتساءل البعض، من يحكم لبنان؟ ويتساءل البعض الآخر، عما إذا كانت هناك أزمة حكم؟ جواباً عن هذه الأسئلة، لا بد من وضع ما يحصل في لبنان في اطاره الاقليمي، وفي اطاره الداخلي الذي يرتكز في جوهره على خصوصية التركيبة اللبنانية المنتجة للنخبة الحاكمة المناط بها ايجاد المعادلة السحرية التي توفق بين الداخل والخارج تجنّباً للاشتعال. لذلك وبدل ان نقول من يحكم لبنان، علينا التساؤل كيف يُحكم لبنان، الأمر الذي يعيدنا الى أزمة في النظام بدل القول ان هناك أزمة حكم. لكن كيف؟ أيُّ نظام يريده اللبنانيون؟ هل هو النظام الطائفي أم العلماني، الليبرالي الديموقراطي؟ وفي الحالين يبقى السؤال عن المرجعية في حال الخلاف. هل هو الدستور أم الأشخاص وما ينتج عن اتفاقهم من تسويات عادة تكون قصيرة النظر، وعلى حساب المستقبل؟ ففي تجروبة فريدة من نوعها، خرج لبنان بعد الاستقلال وفي جعبته دستور قلما تمّت العودة اليه عند الأزمات أزمات الحكم. أضيف اليه ميثاق عرف بميثاق ال43. لعب الميثاق دور النظام الذي رعى العلاقة بين اللبنانيين، وشكّل في مرحلة ما قبل الحرب الوسيلة الناجعة لنزع فتائل الخلافات بين الشرائح اللبنانية، مع عدم اغفال بعض المطبات خلال تلك المرحلة. إذ يمكن القول انه كان المهرب المخرج لإيجاد التسويات بدل تطبيق الدستور. ويذكر ان الدستور والميثاق كانا واللبنانيون متفقين بينهم، أي انهما كانا الدستور والميثاق النتيجة الطبيعية لواقع وفاقي قائم. لكن تبدّل الظروف الاقليمية، واندلاع الحرب اللبنانية ادّيا الى نسف المعادلة الوفاقية من جذورها، فالنظام ميثاق 43 الذي كان كفيلاً بتفكيك الألغام أصبح عاجزاً عن مواكبة التحولات، كما أصبحت قواعده لا تصلح للمرحلة الجديدة كأدوات حل. الى هذا يضاف غياب واضعي هذا الميثاق الذين كانوا يشكلون المرجعيات الأساسية في طوائفهم في عملية اتخاذ القرار على الصعيدين الوطني والاقليمي. إذاً أتت الحرب على كل ما يجمع، وأبرزت الخلافات بشكل علني. فهي التي عمّقت خطوط الفصل بين "الفسيفساء اللبنانية"، أو يمكن القول خنادق الفصل، وذلك بدل ان تدمج أكثر فأكثر وتشابك خطوط التماس التي كانت موجودة إبان الصراع العسكري الداخلي. إذاً، تبدو هذه المرحلة مرحلة انتقالية بين الماضي والمستقبل، إذ تتصارع فيها قوى علنية وخفية، داخلية وخارجية، لكنها ستؤدي حتماً في وقت من الأوقات الى ايجاد التوازنات الضرورية للحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي في ظل ذهاب الحرب الى غير رجعة، وبالتالي انتاج نظام جديد الى جانب "دستور الطائف" تكون مهمته على غرار النظام الذي سبقه ميثاق 43. ويذكر، وبخلاف ما حصل في مرحلة ما قبل الحرب، فرض "دستور الطائف" على اللبنانيين وهم منقسمين على كل شيء، بعد ان أدّت الحرب وظيفتها الاقليمية. لكن الذي يأمله اللبنانيون هو ان تحصل هذه المرحلة الانتقالية بأقلّ خسائر ممكنة. يقف لبنان حالياً في قلب الصراع العربي - الإسرائيلي. فهو الجزء الأساسي من استراتيجية المقاومة، لا بل يمكن القول انه رأس الحربة ضد اسرائيل خارج الأراضي المحتلة حيث تدور الانتفاضة. لكنه أي لبنان يخوض حربه ضد اسرائيل، والعرب في مواقفهم من موضوع الصراع منقسمون الى ثلاثة أقسام. الأول، وهو الذي انخرط في المنظومة السلمية وانضم بالتالي الى المنظومة الأمنية الاقليمية برعاية الولاياتالمتحدة مصر، الأردن. الثاني، وهو من تدغدغه أحلام السلام الآتي فيقارب اسرائيل مقاربة خجولة مترددة. أما الثالث فهو الذي بقي على مواقفه من كيفية مقاربة العملية السلمية لبنان وسورية. أما في مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية فكان لبنان دولة خارج اطار الصراع، وذلك عندما كان العرب متفقين على قتال الكيان الصهيوني. شكّلت هزيمة اسرائيل في جنوب لبنان منعطفاً في محطات الحروب العربية - الاسرائيلية. فللمرة الأولى تنسحب اسرائيل من أراض عربية محتلة تحت الضغط العسكري، ومن دون اتفاقات سياسية معينة. وللمرة الأولى تتآكل صورة العسكر الاسرائيلي الردعية، الأمر الذي جعل القيادات الاسرائيلية تدرس الوضع بعمق للاستفادة من الأخطاء، وبالتالي العمل على اجراء التصحيحات اللازمة خصوصاً على صعيد العقيدة القتالية. ويذكر ان عملية التحرير اللبنانية أعطت نموذجاً فاعلاً لمن يرغب في قتال اسرائيل وذلك بعد الهزائم المتكررة، وخير دليل على ذلك تأثير هذا النموذج على انتفاضة الأقصى. فمن جهة يحاول الفلسطيني تطبيق المثال في صراعه ضد الاحتلال، ومن جهة أخرى يحاول شارون عدم جعل هذا النموذج مربحاً كي لا يصبح نمطاً في كيفية التعامل عسكرياً مع اسرائيل فينقلب بذلك قول بن غوريون عن العرب في انهم لا يفهمون إلا لغة القوة، ليصبح "لا تفهم اسرائيل الا لغة القوة". كيف انعكس الانسحاب الاسرائيلي على الواقع اللبناني؟ كان لهذا الانسحاب وقعاً مهماً على الصعيد السياسي. فبعد النصر وهذا طبيعي، بدأت الاهتزازات تصيب التوافق الوطني الذي كان مجمعاً على المقاومة. فهي استطاعت ان توحّد الكل على موقفها لأنها استطاعت ان تترفع عن مستنقعات المشكلات القاتلة، لترسم خطاً استراتيجياً لا يستطيع أحد تخطيه. لكن مرحلة ما بعد التحرير تبدو مختلفة. وهنا لا بد من ان تدخل عملية الحسابات السياسية، في الربح والخسارة. فالمقاومة وبحسب المنطق المعروف سوف تحوّل نصرها العسكري الى نصر سياسي على الصعيد اللبناني. لكن الواقع الحالي يختلف عن هذا التفسير لأن الخوف من هذا المكسب السياسي للمقاومة يأتي من الأفرقاء المنافسين لها، خصوصاً على الصعيد الشيعي. وكما كان متوقعاً رفعت المقاومة سقف اهدافها الى المستوى الاقليمي وترفعت مجدداً عن المستنقع اللبناني الداخلي، من دون اهماله على الصعيد الاجتماعي. وهذا ما يبرّر الخطاب السياسي العقلاني لحزب الله في هذه المرحلة. في هذا الاطار برزت اختلافات على صعيد النخبة الحاكمة في كيفية حكم لبنان، وفي كيفية مقاربة الوضع الاقليمي المستجد، فنجد فريقين. من هما؟ الفريق الأول، يعتقد ان المتغيرات الاقليمية والدولية، تحتم التغيير في الأداء على الصعيد الداخلي. فعلى الساحة الاقليمية تبدو المسيرة السلمية متعثرة، وخير دليل على ذلك وصول شارون الى السلطة، وهو وعد بتركيع الانتفاضة خلال ال100 يوم من تسلمه زمام الحكم. وتبدو الدول العربية في هذا الاطار أكثر تشتتاً من ذي قبل، فهي مع الانتفاضة ولا تملك بدائل لها في حال توقفها أو فشلها، وهي غير مستعدة للحرب، كما صرّح الرئيس حسني مبارك خلال قمة القاهرة الأخيرة. كذلك استبعدت العامل الاقتصادي المتمثل باستعمال النفط وسيلة ضغط. هذا على الصعيد الاقليمي، أم على الصعيد الدولي شكّل مجيء بوش الابن تغييراً في سياسة الولاياتالمتحدة واستراتيجيتها تجاه المنطقة. فالمشكلة الفلسطينية، هي جزء من مشكلات المنطقة وليست الأساس، ويجب النظر اليها من هذا المنظار، فنجد العراق محورياً في تفكير الادارة الجديدة وهي مصرّة على معاقبته. فالادارة الجديدة غير مستعدة لطرح المبادرات على غرار كلنتون، لكنها مستعدة للاسهام إذا أتت هذه المبادرات من الأفرقاء المتنازعين. لذلك يرى هذا الفريق ضرورة وعي النقاط الآتية: 1 - تبني الأممالمتحدة الانسحاب الاسرائيلي وكأنه تطبيق للقرار 425. 2 - تبني هذا الانسحاب من قبل الولاياتالمتحدة، ومن المجموعة الأوروبية. 3 - عجز روسيا ودول شرق آسيا الصين، اليابان عن لعب دور مهم في هذا الإطار يُعاكس ما ترغب به الولاياتالمتحدة. 4 - لا يمكن تبرير أي عمل عسكري في مزارع شبعا بسبب عدم الاعتراف بلبنانيتها من قبل الأممالمتحدة أو القوى الفاعلة. لذلك الخسائر بعد أي عمل عسكري تفوق الأرباح بكثير. 5 - ضرورة التركيز على الديبلوماسية لاسترجاع هذه المزارع، عبر تزويد الأممالمتحدة بالمستندات الرسمية اللازمة. 6 - لا بد من فهم الإشارات المُرسلة الى لبنان من المجتمع الدولي، التي تتمثل مثلاً بخفض عديد اليونيفيل والعمل على تغيير جوهر مهمتها. 7 - قد يكون أيضاً من المفيد إرسال الجيش الى الجنوب. 8 - لا بد من شكر المقاومة وتعليق وسام على صدرها، لكن بعد ان "تشحّم" بندقيتها وتضعها في المخزن، وتلتفت الى العمل السياسي البحت. ويتألف هذا الفريق من الرئيس الحريري، النائب جنبلاط والكثير من الزعماء المسيحيين. الفريق الثاني: يعتقد ان الانسحاب الاسرائيلي القسري من الجنوب اللبناني هو بداية الطريق وليس نهايته. ويُُخطئ من يعتقد ان العامل الاسرائيلي خرج نهائياً من المسرح اللبناني، فإسرائيل كانت وتبقى مؤثرة على الساحة اللبنانية. فهي خاضت حرب ال1948 وهناك اتفاق الهدنة معها. وكان لإسرائيل مشروعها الخاص في ما خصّ لبنان في الخمسينات، حين أراد بن غوريون اقامة "كيان مسيحي" على حدوده الشمالية، لكن اعتراض موشي شاريت جعله يغيّر رأيه. وفي العام 1967 لم يدخل لبنان الحرب، لكن اسرائيل احتلّت مزارع شبعا. في ال1968 هاجمت اسرائيل مطار بيروت ودمّرت 12 طائرة من الأسطول الجوّي اللبناني المدني. وقامت في العام 1973 بعملية فردان واغتالت ثلاثة زعماء فلسطينيين. في العام 1978 كانت عملية الليطاني التي انتجت القرار الشهير 425. وفي العام 1982، اجتاح العدو أول عاصمة عربية؟ أخرج هذا الاجتياح منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، دمّر البنية التحتية للبنان، وأدى الى مجازر صبرا وشاتيلا، وأنتج قيام الشريط الحدودي. في العام 1993 كانت عملية تصفية الحسابات، تبعتها عملية "عناقيد الغضب" في العام 1996، هذا عدا العمليات المتفرقة التي استهدفت البنى التحتية. ويبدو الفريق الثاني يتألف من الرئيس لحود، حزب الله، وكل الأحزاب المؤيدة لسورية ومن بعض الزعماء المسيحيين. أما الرئيس بري فهو في المنطقة الرمادية، كونه جنوبياً لا يمكن له الخروج من المعادلة، خصوصاً عند الاستحقاق السياسي لأي مكسب عسكري. إذاً اسرائيل موجودة، والصراع لم ينته بعد ولا بد لنا من النظر الى هذا الوضع من منظار اقليمي ومن خلال ثلاثة سيناريوات محتملة وهي: الممتاز، المستقر، والسيئ. فماذا عنهم؟ - السيناريو الممتاز Best Case Scenario، وفيه يعمُّ السلام المنطقة، وتطبّق اسرائيل قرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها القرارين 242 و338، فتنسحب الى حدود 1967، وتترك الجولان. تعطي القدسالشرقيةللفلسطينيين عاصمة لهم وتعترف بحق العودة، وتنسحب من الحدود اللبنانية حتى الخطوط الدولية المعترف بها. وعلى الصعيد الاقليمي، يُؤهل نظام صدام أو يستبدل سلمياً، وترفع الولاياتالمتحدة عقوباتها عن ايران، وتعمل على حل المشكلة الكردية، وتسعى المنظمات الدولية الى إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، خصوصاً النووي الاسرائيلي، وتنفتح المنطقة على بعضها، وتتجه الى التشابه بالمجموعة الأوروبية. هل هذا السيناريو ممكن؟ بالطبع ممكن على الورق، وفي عقول الحالمين. - السيناريو المستقر Status quo، وفيه تستمر الحال كما هي وهو المرجح في كلا منطقة الشرق الأوسط. الأميركيون لا يتدخلون، ولا يسمحون لأحد بالتدخل إلا من ضمن خطتهم المرسومة. فهم بعيدون عن المشكلة ومنغمسون فيها في الآن. قابلوا زعماء المنطقة كلها باستثناء عرفات، لكن مبادراتهم تصبُّ كلها في مصلحة شارون. يسوّقون شارون ويحمونه متذرعين بضرب الارهاب الفلسطيني الذي يؤسس الى إرهاب يتعدّى المنطقة. يتبعون سياسة اعلامية مطابقة للإعلام الصهيوني، الذي يقوم على استراتيجية "مسخ الآخر" Demonizing the other. فتجعل من عرفات القاتل الارهابي، الكذاب، المعادي للسلام، السفاح الذي يرسل اولاده كي يُقتلوا، الأمر الذي يبرر قتله، وبالتالي قتل شعبه والقضية وذلك من دون عذاب للضمير. ألا يُصنع الرأي العام صناعة؟ كل هذا والعرب لا يزالون في مربّع الصراع الأول، إذ يُعتمد الشعار وسيلة للصراع. تعتمد الولاياتالمتحدة في هذا السيناريو "سياسة الاحتواء السياسي للعنف" Political Containment. فهي تريد المحافظة على الستاتيكو ولن تسمح بتدهور العنف الى درجة تهدد الاستقرار الاقليمي، السيناريو السيئ لتندلع حرباً أقل ما يستعمل فيها الصواريخ البالستية التقليدية. لذلك نلاحظ التدخل المباشر لإدارة بوش مباشرة أو بالواسطة، عند كل مفترق أمني قد يهدّد باشتعال المنطقة. فتأتي المبادرات السياسية الخجولة التي تعمل على الشكل من دون الجوهر، وتهدف الى دسّ بعض الحياة في "الجيفة السلمية". فكان "تقرير ميتشل"، و"مخطط تينيت"، والمبادرة المصرية - الأردنية، والمبادرة الالمانية، وآخرها مبادرة أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك عند زيارته لواشنطن. الهدف من هذا الاحتواء الوصول الى "إعياء الأفرقاء" خصوصاً الطرف الفلسطيني كونه الأضعف، بانهاكه اقتصادياً، وضرب بناه التحتية، وقتل قادته الميدانيين والسياسيين ليسلم بالأمر الواقع. قد يتساءل البعض كيف قبول الأمر الواقع مع شارون؟ فيأتي الجواب، من قال مع شارون؟ لكن شارن يبقى أفضل القياديين الاسرائيليين المؤهلين لضرب الشعب الفلسطيني وبالتالي قضيتهم، ويأتي الحل مع خلفه. وقد يتساءل البعض، هل يملك شارون مخططاً جاهزاً ينفذه؟ وهل يملك عرفات مخططاً مضاداً؟ لكن سخرية القدر تبدو في مضمون ما يطرح في بعض المبادرات. إذ كيف يُطرح مثلاً مدة سبعة أيام من دون اطلاق نار كي تستمر العملية السلمية؟ كيف يمكن تناسي ابعاد الصراع الايديولوجية، الدينية والقومية؟ كيف يمكن للأمهات أن ينسين أولادهن، أما على الصعيد الاقليمي فالستاتيكو مطلوب أيضاً على الصعيد الأميركي عبر المحافظة على الاستراتيجية مع تغيير بسيط في التكتيك. أو بطريقة أخرى "احتواء العراق بطريقة ووسائل أخرى". كيف تبدو الصورة في المنطقة، وأين لبنان منها؟ - تبدو مصر الدولة العربية الأكبر، أكثر بُعداً من ذي قبل عن التأثير في ما يحدث في فلسطين. فهي داخل العملية السلمية، وهي جزء أساسي من الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهي في وضع اقتصادي لا يوحي بالثقة: بطالة مستشرية، نمو لا يمكن له استيعاب زيادة السكان، أكثر من 150 ألف شركة هي قيد الإفلاس. وهناك اغراءات اميركية ببيعها 100 دبابة MI-AI ابرامز مع جهاز كومبيوتر ضخم متقدّم للسلاح الجوي المصري، عدا المساعدات الاقتصادية السنوية التي تصل الى ما يقارب 1.5 بليون دولار سنوياً. وهناك أيضاً ضغوط تركية واغراءات في الوقت نفسه لمصر، كالوعد بمد انبوب للغاز بين البلدين. أما الأردن فهو قلق على مصيره، ويخاف من شارون في حال غيّر رأيه بأن الأردن هو "دولة فلسطين". ولا يبدو ان "اتفاق وادي عربة" جلب راحة البال الأمنية والاقتصادية لهذا البلد. ولا يبدو أيضاً ان التقارب مع العراق اسهم في جلب العملة الصعبة، على غرار ما يحصل مع سورية ومصر. فهو أقفل حدوده منعاً للهجرة الفلسطينية الى الداخل الأردني. تظهر سورية مستفردة في هذه الصورة الكبرى. فهي تحاول تعديل موازين القوى في المنطقة، عبر مبادرات كثيرة منها: السعي الى تحديث سلاحها، بالتعاون مع روسيا وكوريا الشمالية. كما ان هذه المقاربة صعبة نسبياً نظراً لما للولايات المتحدة من تأثير في هذه المسائل. وتحاول أيضاً السعي الى توافق عربي، وهذا أيضاً يصطدم بعقبات ويعود الى اختلاف الأجندة السياسية بين البلدان العربية. وأخيراً وليس آخراً، تحاول العودة الى عمقها الاستراتيجي المتمثل بالعراق، الذي يشكل الهاجس الأكبر لإسرائيل، كونه خاض تقريباً واسهم في كل الحروب ضد الكيان الصهيوني. وهو البلد الأول الذي استعمل الصواريخ البالستية لضرب تل أبيب، الأمر الذي فرض على قادة اسرائيل العمل وبسرعة على تعديل العقيدة الأمنية، فأنشأت لهذا الأمر قيادة خاصة دعيت بHome Front Command مهمتها الدفاع السلبي عن الداخل. كذلك أنشأت قيادة ثانية للبعد الاستراتيجي دعيت بStrategic Forces Command مهمتها التعامل مع خطر اسلحة الدمار الشامل الموجودة في دول المحيط. لكن الضغوط كبيرة على سورية، فهي جزء أساسي من سياسة كولن باول والمتمثلة بالعقوبات الذكية. ويعود هذا الأمر الى رفض سورية الاسهام في هذه السياسة. ويقال ان رد الرئيس بشار الأسد على كولن باول عندما طلب منه اقفال انبوب النفط مع العراق بما معناه: "نريد تكبير سعة هذا الانبوب بدل اقفاله". لذلك تبدو الحركة الديبلوماسية السورية تصبّ في هذا الاطار. إذ زار رئيس الوزراء السوري العراق، كما زار نائب الرئيس العراقي سورية". وزار الرئيس الأسد الكويت لطمأنتها على ان التنسيق مع العراق ليس موجهاً ضدها. إن لبنان ورقة مهمة في الاستراتيجية السورية لتعديل موازين القوى، فهو قسم مهم من الجبهة الشرقية. وهو الذي خاض حربه التحريرية ضد العدو الاسرائيلي. وهو يُشكّل عاملاً ردعياً ضد أي تحرك اسرائيلي مضاد لسورية. وهذا ما يبرّر مثلاً رد حزب الله على ضرب الرادار السوري بضرب الرادار الاسرائيلي بسرعة، وذلك بهدف ابقاء اللعبة بينه وبين اسرائيل، التي تحاول نقلها الى الملعب السوري. إذاً وفي ظل الاقتناع باستمرار "الستاتيكو"، إذ يُنحر الشعب الفلسطيني بموافقة أميركية، ويستمر الضغط على المعارضين لهذا الوضع خصوصاً سورية. لذلك تحاول دمشق تجميع الأوراق التي تساعدها على الصمود، وآخرها محاولة استعادة أبو عمار. لذلك يُخطئ من يعتقد انه يمكن للبنان اللعب منفرداً في هذا الوضع. فالتفرد قد يكون مكلفاً جداً، ولا بد من الاستفادة من أخطاء الماضي. وقد يقال هنا وعلى سبيل المزاح: "أميركا تحب لبنان، لكنها مُغرمة بسورية"، والمقصود بهذا الكلام ان سورية مهمة للولايات المتحدة في المنطقة، لكنها أي أميركا قد تتخلى عن لبنان عند أول منعطف. ويعود السبب الى الأهداف الأميركية في المنطقة التي بدأت تظهر تدريجياً، وهي تقوم على ركنين أساسيين: الأول، اقامة الأحلاف الاقليمية، وتشكل اسرائيل، ومصر، وتركيا والأردن مركز الثقل. الثاني، الاحتفاظ بقوى عملانية منتشرة في الاقاليم كالقوى الموجودة في الخليج. ويقال في هذا المجال ان الولاياتالمتحدة ترث حالياً الرجل المريض السلطنة العثمانية في ما مضى. ما المطلوب في هذه المرحلة لبنانياً؟ - وعي دقة المرحلة، استشراف المستقبل والعمل على تدعيم الداخل تحسباً لأي طارئ. وذلك من خلال اتباع الاستراتيجية التي تقوم على قاعدتي التمايز والتجانس. التمايز على الصعيد اللبناني الذي يؤسِّس ويسعى الى بناء وطن جديد عماده المؤسسات العصرية، والقضاء النزيه، والشفافية على صعيد المحاسبة، مع عدم اغفال اهمية الموارد البشرية التي تكاد تنفد عبر الهجرة. أما التجانس فلا بد ان يأتي من ضمن الاستراتيجية الاقليمية التي اتفق اللبنانيون والسوريون عليها لمجابهة المرحلة المقبلة التي يمكن ان تجرّ الويلات على الكل إذ لم تُدرس بحكمة. * كاتب لبناني، وعميد ركن متقاعد.