"هناك اثنتا عشرة شخصية رئيسة في مسرحية "الملك لير"، ست منها خيرة وعادلة، وست منها شريرة وظالمة. هذا التقسيم منطقي وتجريدي كما في المسرحيات الأخلاقية القديمة، غير ان "الملك لير" مسرحية أخلاقية، يتحطم الجميع في نهايتها: الفضلاء مع الرذلاء، الظالمون مع المظلومين، المعذَّبون مع المعذَّبين. والتحلل يستمر الى أن يخلو المسرح بالمرّة. ولكن قبل أن يتم ذلك، يجب اقتلاع الشخصيات كلها من مراكزها الاجتماعية وجرها الى المهانة الأخيرة. عليها أن تبلغ الحضيض. وليس هذا السقوط مجرد أمثولة فلسفية... السقوط هو في الوقت نفسه، مادي وروحي، جسدي واجتماعي". ربما كان الناقد البولندي يان كوت، عبر هذا المقطع المأخوذ من كتابه "شكسبير معاصرنا" الذي ترجمه جبرا ابراهيم جبرا الى العربية، أفضل من أدرك المعنى العميق لمسرحية "الملك لير". فهو حين يتابع قائلاً: "في البدء كان هناك ملك ذو بلاط ووزراء. بعد ذلك ليس هناك إلا شحاذون أربعة هائمون في الفلاة، تتناوشهم الرياح الغضبى والأمطار الهامية. والسقوط قد يكون بطيئاً أو فجائياً: للملك لير أولاً حاشية من مئة رجل. ثم خمسين. ثم رجل واحد فقط"، إنما يعبر بهذا البعد الهندسي عن واحد من أروع المصائر وأكثرها واقعية في تاريخ الأدب والفكر. ومع هذا علينا أن نشير هنا الى أن مسرحية "الملك لير" لم تلق الاجماع الذي لقيته مسرحية أخرى لشكسبير هي "هاملت" مثلاً. وحسبنا أن نذكر هنا ان تولستوي كان يعتبرها قمة في الركاكة والتفاهة. وكثيرون كانوا يرون انها مجرد ميلودراما، لا تصلح للتعبير عن واقع الحياة وواقع النفوس البشرية. غير اهن هذا لا ينقص من قيمة هذا العمل، الذي من الواضح أن شكسبير كتبه في مرحلة متقدمة من حياته، وانه وضع فيه من ذاته الكثير، وربما أكثر مما وضع في أية مسرحية أخرى من مسرحياته. فلئن كان يصح دائماً أن يقال ان "هاملت" هو كل واحد منا، فإن من الأصح أن يقال ان "لير" هو - بعد كل شيء - ويليام شكسبير. ولكن من هو الملك لير هذا؟ في هذه المسرحية التي ينقلنا فيها الكاتب المسرحي الكبير الى عمق أعماق النفس الانسانية، ليس الملك لير سوى الانسان في لحظة انعطافية من حياته. هو ملك أول الأمر، لكنه ملك بلغ من القوة والجبروت ما يجعله واثقاً من أن في امكانه ان يفرض الخير على البشر. صحيح انه، كما يطالعنا أول الأمر، انسان مثل كل الناس، من ناحية السلوك والاخلاق: متسلط، أناني وواثق من قوته. وهو إذ يقرر ذات يوم أن يقسم المملكة بين بناته الثلاث، لا يفعل هذا إلا انطلاقاً من ثقته بتلك القوة، وبأنه، حتى لو ذهب ملكه - لبناته - وصار خارج الحكم، سيظل صاحب الكلمة الفصل. وهو في هذا يضع نفسه موضع امتحان، ستقول لنا المسرحية انه يسقط فيه في النهاية، جارّاً العالم كله معه الى الشر والخراب، في تضافر خلاق - أبدع شكسبير وصفه - بين عتوّ الانسان وعتوّ عناصر الطبيعة. في خضم هذا كله، تفقد البراءة معناها ويعم الشر كما في "ماكبث". الامتحان الأول هو ذاك الذي يجريه الملك لير بين بناته الثلاث: غونريل، ريغان وكورديليا، وسؤاله بسيط: ان من تحب الوالد أكثر، تحصل على حصة أكبر من أراضي المملكة، غونريل وريغان تروحان فور طرح السؤال تطنبان في الحديث عن حبهما الغامر للير، بينما لا تجد كورديليا ما تقوله سوى انها تحب اباها بمقدار ما يدعوها الواجب الى ذلك. طبعاً يغضب لير ازاء هذا الجواب الذي يجده غير معبر عن أي حب، ويحرم كورديليا من حصتها التي يوزعها بين شقيقتيها. عند هذا المستوى من العمل نجد أنفسنا كما لو أننا نطالع ما يشبه حكاية سندريلا. غير أن القلبة "المسرحية" تبدأ هنا، إذ ما إن يتخلى لير عن الملك لابنتيه، حتى تطرده هاتان وتحرمانه من كل ما يملك. طبعاً لسنا في حاجة هنا الى سرد الأحداث التفصيلية التي يعرفها كل من قرأ أو شاهد هذه المسرحية. حسبنا أن نشير الى أنه تبدأ هنا رحلة الهبوط الى الجحيم. فلير، في الامتحان الذي أجراه، وكله أمل في أن يخرج مظفراً واثقاً من امتحان بناته، الذي لم يكن أصلاً سوى امتحان لقوته هو ولجبروته، تبدى في ضعفه العميق. لأنه في الوقت الذي زال فيه عن كتفيه رداء الملك، زالت الغشاوة عن عينيه ورأى الحقيقة. حقيقة النوازع البشرية وحقيقة الطمع. وما الأحداث الباقية، والتي ستؤدي في النهاية الى موت لير وموت الشخصيات الأساسية، بما فيها الطيبة كورديليا، ما هذه الأحداث سوى سلسلة الهبوط الى القعر. وهذا ما يؤكده يان كوت الذي يصف المسرحية بأن "موضوعها موضوع تفسخ العالم وسقوطه. فهذه المسرحية التي "تُستهل كالتاريخيات، بتقسيم المملكة وتنازل الملك عن العرش" تختتم أيضاً كالتاريخيات ب"الاعلان عن ملك جديد". وبين المقدمة والخاتمة تقع حرب أهلية، كما يحدث عادة في هذا النمط من المسرحيات. ولكن العالم هنا لا يعود كما كان "لا يرأب صدعه، أو تشفى جراحه. ليس في الملك لير فتى شديد العزم اسمه فونتنبراس يتسنم عرش الدنمارك كما في "هاملت" أو رجل بارد الأعصاب اسمه أوكتافيوس يجعل نفسه القيصر الجديد كما في "يوليوس قيصر"..." في كل واحدة من المسرحيات التاريخية العظيمة هناك في النهاية ملك/ شاب/ منقذ يدعو الآخرين الى تتويجه. لكن هذا لا يحدث هنا، لأن الكل مات أو قتل. و"كان غلوستر محقاً حين قال: هذا العالم العظيم سوف يأكل نفسه حتى العدم". وواضح ان "الذين بقوا على قيد الحياة: ادغار وآلباني وكنت، ما عادوا إلا من حطام الطبيعة، كالملك لير نفسه". عندما كتب شكسبير مسرحية "الملك لير" بين 1605 و1606، أي قبل رحيله بعشر سنوات، كان في احادية والأربعين من عمره. وهو بناها على أساس قراءته لنصوص عدة تحدثت عن مأساة ذلك الملك - الذي يبدو انه لم يكن له، في الأساس، وجود تاريخي -، ومن آخر النصوص التي كتبت حول "لير" مسرحية نشرت العام 1605 بعنوان "تاريخ الملك لير المأسوي"، وفيها استعاد كاتبها تلك الحكاية المعروفة منذ القرن الثاني عشر، وكان بوكاشيو الايطالي استخدمها بدوره. ان ما يجدر ذكره هنا هو ان اختيار شكسبير لهذه الحكاية يحولها مسرحية، شعرية نثرية، في خمسة فصول، لم يكن منفصلاً عن مجريات حياته الشخصية، وضلوعه في لعبة السلطة، من حول العرش البريطاني وصراع النبلاء... ومن الواضح ان لحظة كتابة "الملك لير" كانت بالنسبة الى شكسبير لحظة زهدت وكشف لخواء كل سلطة وزوال كل جبروت على مذبح الطبيعة البشرية وتطلعاتها وأطماعها. وهذا ما يجعل منها واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير وعظاً في بعدها الأخلاقي. ولا سيما حين تقول لنا المسرحية في النهاية "ان كل ما يميز الانسان - من لقب أو مكانة اجتماعية، أو حتى اسم - يضيع. لا حاجة للأسماء بعد. لقد أمسى كل امرئ ظلاً لنفسه، انساناً لا غير".