كي لا نبالغ، لسنا نحن العرب اكثر ايماناً بالخرافة من غيرنا من شعوب العالم. فالخرافة اسوة بالعقل قسمة عادلة بين البشر، اذ لم يتخلف شعب عن الهوس بالتنبؤات وحسابات المستقبل الاعتباطية، وليس سراً ان اميركا واحدة من البلاد التي تحتوي على اكبر تجمعات المختلين وهواة الخرافة في العالم. وربما كان الإعجاب بالعرافين والترويج للسحرة هو الموضة الدارجة في السينما والبرامج التلفزيونية والمجتمع سواء الراقي منه أو الأقل رقياً أو الأكثر عقلانية. اعترف بداية انه تروقني هذه التسليات، فالتنجيم لعبتي العابثة والمفضلة في بعض الأحيان، بسبب ان غواياتها المثيرة تجد صدى داخلياً. وغالباً ما استهوتني اساليب وطرق "التبصير" من القراءة في الكف والفنجان الى الضرب بالرمل والمندل، ولعل الأكثر إثارة حقاً ما له علاقة بالفراسة وعلم قراءة الجسد والوجه تحديداً. يبدو لي الدخول الى عوالم التنجيم نعمة حقيقية لما فيه من تلبية نفسية الى شحنات من الأمل والدفع نحو المستقبل حتى لو كان موهوماً. والمفارقة ان التنجيم عادة ما يجنح نحو الماضي اكثر من المستقبل، ومتعته تتجلى في الإصغاء لكلمات يخيل الينا أنها تعبر عن عالم آخر غير محسوس، تختزله أشياء بسيطة: خربشات القهوة أو حصى مبعثرة، أو أوراق رسمت عليها رموز غامضة... الخ، ثم الابتسامة التي ترتسم على وجه المنجمين ونظنها ملتبسة، وعلى الأخص تلك الصادرة من النساء العرافات اللواتي يمتلكن وسائل أكثر جاذبية في الدعوة والطلب، كذلك في تلاوة لازمة معينة عند فتح "الفال"، تلاوة تبدو كأنها فتح لغوي مبطن باحتمالات غالبيتها مطمئنة. العرافة التي صادفتها هذه المرة كانت مختلفة، لم تكن غجرية أو زرية الملبس، بل شابة جميلة، ناعمة الملامح، رشيقة القوام، أنيسة المظهر. قالت بأنها تلقت علوم العرافة في اليونان، وكما دار بخلدي، حسب أحدث تقنيات البلف والتخريف. وكان لبساطة ملبسها وحركاتها هدوء ملامحها، دور كبير في تعزيز لهفتي لسماعها. وهكذا، على رقعة من القماش الأبيض فردت العرافة الساحرة أوراقاً مقلوبة، وطلبت مني سحب ورقتين على ان أترك أمر انتقائهما للاشعور، وبشرط التركيز على موضوع معين في ذهني، مما يجعل الورقتين، حسب قولها، اكثر قابلية للتعبير عما في خاطري. وما ان قلبتهما وراحت تفك رموزهما، التي هي رموزي، حتى بدأت تعدد لي ما حصل وما جرى، ما يدور في افكاري وما أطلبه من الآخرين وأتمناه. ورحت معها لكن في متاحة الافكار والاشخاص والمشاريع المعلقة، مع تساؤل عصف بي ولم يفارقني: هل لدى هذه المرأة القدرة على معرفة تمنياتي ومشاعري والتنبؤ بمصائري الشخصية، أم انني استجبت لها لأنني أسبغت عليها المواصفات المألوفة من أنها لا بد ان تقول لي أشياء حقيقية أو تمسني؟! أنا أيضاً يجب ألا أبالغ فيما توهمته. مما لا شك فيه ان العرافة كانت تقرأ في أوراقها صفات عامة تنطبق علي، وهي في الواقع تنطبق على غيري بصرف النظر عن الزمان والمكان. إلا ان لا شعوري راح يترجم كلماتها ويضيّق معانيها العامة وفق مقاييس افكاري الخاصة جداً ووفق رغباتي، وكدت للحظات أؤمن بما تقوله أو بما أتخيله من وعود، بل حتى انني تمنيت لو ان لحظات ايماني بالغيب تدوم. وما كادت العرافة تلملم أوراقها وتسحب الرقعة البيضاء حتى انتابني شعور بضرورة تبرير سقوطي في بؤرة الخرافة، ولو لنفسي على الأقل، إن لم يكن لهؤلاء الذين كانوا معي وترقبوا باستهجان فضولي الى مزيد من التنبؤات حول الكثير مما كان يؤرقني، وبدا لهم تصرفي متخلفاً جداً، وبالتالي كأنني على الضد من مظهر متحضر اسعى اليه، أو أنني كنت أتخفى على سخف حقيقتي. وهنا لا بد لنا من طرح بعض الأسئلة: هل الطموح لمظهر حضاري وتفكير عقلاني يلغي وجود تخلف أصيل متجذر في العقل، أو ان محاولة الهروب من الإقرار بالتخلف الذاتي تنفي مشروعية ذلك التخلف أو أحقيته بالعيش؟ إذا قسمنا العقل الى أجزاء، ألا يبدو الإبقاء على جزء خرافي متبلور، ضرورة لمواجهة أجزاء غير قابلة للتبلور تحتمي بعقلانية نسبية أو مبتدعة؟ هل من المنطق إلغاء أو تجاهل جزء موجود حتى لو كان مشوهاً أو غير صالح للتداول؟! أليس مقياس الذكاء القدرة على التلاؤم مع المحيط وايجاد صلات وصل مع اتجاهات وتيارات سواء المتخلفة منها أو المتقدمة، الغيبية أو العلمية؟ اذا نظفنا التفكير من المستنقعات الموبؤة بالخرافة واعطينا المساحة الأكبر للعقلانية، فهل سيكون هناك فهم حقيقي للواقع؟ أم سيكون هناك تنظير فوقي مكتفٍ بنفسه، لا يعترف بالانتماء للتفكير الجمعي المتخلف في بعض مناحيه، لصالح الالتحاق بمغامرة المنطق التقدمي، الذي لن يقل، في هذه الحالة، خرافة عن المنطق المتخلف، وكأنما الخرافة والعقلانية ترتبطان بعلاقة عضوية احداهما تدعم الأخرى، بذات الدرجة التي قد تلغي احداهما الأخرى. فالخرافة التي ابتدعت اميركا كدولة جبارة هي ذاتها الخرافة االتي خرقت ذلك الجبروت بسلسلة تفجيرات مذهلة استهدفت رموز القوة العالمية وقد تابعها العالم كواحد من مشاهد افلام الكوارث الاميركية. فعندما يفرض المنطق العقلاني مبدأ السيادة المطلقة في مجتمع ما، لا بد من خرافة توطد أو تدحض منطقه هذا: السيادة المطلقة للعقل. وربما اذا توقفنا عند نموذج أقرب منا كجمال باشا السفاح، الذي وجد ان تدعيم سيادة حكومة الاتحاديين لا تكون الا بتشديد سياسة البطش والارهاب وتفعيلها تحت دواعي خرافة انقاذ الرجل المريض، وتحت ظل الدستور العثماني الاتحادي الذي كان محض خرافة ايضاً، جاءت بعد الاستبداد المزمن للسلطنة التي طال احتضارها. لم ينظر تاريخنا السوري الحديث الى جمال باشا أكثر من كونه سفاحاً قتل زهرة المثقفين الشوام. وأبى تاريخنا الوطني إلحاق أية صفة ايجابية بجمال باشا علماً ان تياراً شعبياً قوياً في تلك الفترة اعتبره منقذ الاسلام من الفرنسيين والانكليز. ففي ذلك الحين كان ما أقدم عليه المثقفون الشوام مخاطرة كبرى "خرافية" في ظل حكومة مستبدة تحاسب على التفكير وليس فقط على التعبير. فالشهداء الذين علقنا ذكراهم نياشين على صدر الوطن والوطنية لم يكونوا بنظر الاتحاديين المتمردين على النظام الاتحادي سوى حفنة من الخونة تعاملوا مع دول الحلفاء لتقويض الدولة العثمانية الاسلامية، والعمل على قيام "الدولة العربية". ألم تكن المناداة بالاستقلال خرافة في ظل قمع وإرهاب القومية الطورانية؟ ألم يصبح الاستقلال والحرية اليوم هو المنطق والعقلانية، بينما تتراجع أفكار الاجماع والشمولية نحو اللامنطق واللاعقلانية؟ من هنا قد يكون الاعتراف بخرافة جزء صغير من العقل ضرورة لمنح التخلف العام من حولنا شيئاً من الشرعية، تسهّل فهمه والتعاطي معه كأمر واقع، تغييره محكوم بواقع تبدلات يفرضها التطور العام. على مستوى آخر يشكل المنطق الخرافي نزهة جميلة خارج رقابة العقل، يحرره ولو الى حين من قيود المنطق الواعي المتوجه غالباً نحو آفاق سوداوية تعمق الحاجة الى التفكير المنفلت، الحر والتنبؤي، السباق والقافز من الماضي الى المستقبل، المتجاهل للحاضر. فإذا كانت الخرافة أخطاء العقل أو ناجمة عن ضموره، أليست مساحاتها الحرة والمنفلتة هي التي حملت مفاتيح ووعود المستقبل العلمي، ألم تسبق الخرافة الانسان الى سطح القمر وتتجاوزه في وضع توصيفات لا نهائية للانسان الآلي، وتحرضه بمفاهيم لم يرض عنها زمانها، الى الاستقلال والحرية وحقوق الانسان؟ وعلى رغم ما يكتنف الخرافة والعقلانية من تلازم فثمة فارق بينهما، فالأولى تفاؤلية تمني بالوعود الكبيرة والكثيرة المرتكنة الى لا واقعيتها واستحالة حدوثها، أما العقلانية فغالباً ما تجر التفكير بتثاقل مرهق نحو الحسابات الأكيدة والدقيقة والمسدودة. أليست العقلانية نفسها هي التي جرت أوروبا الى حربين عالميتين ليس فيهما ذرة من العقلانية؟! بينما تختفي الخرافة بحياة أكثر رخاء وعدالة وتبشر هواة الخلود بالاستنساخ وتغلب المخابر الطبية على الأمراض المستعصية، يلاحظ على المنطق العلمي، على رغم ما يمثله من فتوحات واعجاز، انه يبشر بالكوارث البيئية والبيولوجية من أسلحة الدمار الشامل وشح المياه وثقب الأوزون وحتى انبثاق الايدز من مخابر جندت لخير البشرية. حيال التشاؤمية المفرطة لمنطق التطور المتسارع تبقى الخرافة العزاء الوحيد القادر على حلحلة لجام العقل. ومهما كان ثمن التفكير الخرافي باهظاً، كما هي العادة، فإن متعته نادرة، كونه أولاً وأخيراً محض لحظات يبثها المستقبل الآتي لا محالة، المشرق احياناً المظلم احياناً أخرى، لكنه وبفعل الخرافة يحمل الأمل غالباً.