يتقلب المتابع للأصوات الأدبية الجديدة بين شكوى هذه الأصوات من تجاهل السابقين أو وصايتهم أو استعلائهم، وبين رواج المجاملة او التربيت على الكتف أو دعوى الأشخذ باليد أو التحامل، كذلك استعلاء بعض تلك الأصوات او عجلتها او نرجسيتها او صممها... ولعل ذلك كان بعض ما دفع الروائي والناقد التونسي صلاح الدين بوجاه الى ان يقول في تقديمه لباكورة منيرة الزرقي القصصية "رائحة العنبر" إن تقاليد النشر والتقبل في بلادنا: "غالباً ما تهيئ للكتاب الأول غير ما تهيئ لسواه، حتى لكأنه شاهد حضور لصاحبه داخلاً للساحة الثقافية، حتى لكأنه جامع لسماته وخصائصه التي تميزه، حتى لكأنه الواجهة التي يكون بها الكاتب ونصه الأول... بل وفي احايين كثيرة بها يكون الكاتب ونصه الأول ونصوصه الموالية". كان نصيب مجموعة "رائحة العنبر" من ذلك ان رأى المقدم مكمن القوة فيها: تعدد الأشكال والألوان والبنى السردية، أي كما بيّن بوجاه في موقع سابق من مقدمته عدم التقيد بجنس أدبي بعينه، فمجموعة منيرة الزرقي "وسط بين الخاطرة والحكاية والقصة القصيرة والفصل من السيرة الذاتية". هنا أختلف مع بوجاه على ما ينظم ما سمته الكاتبة بقصص. وإذا كان "تجنيس" الكاتب او الكاتبة للنص ليس فيصلاً، فالمروق على الجنس الأدبي، او المغامرة الابداعية في تجريب الخروج منه، لا يبرر ضفر خاطرة او حكاية او فصلاً من سيرة ذاتية، مع القصة، الا في بعض ما قدم الرواد منذ عشرات السنين، عندما لم تكن تخوم "التجنيس" واضحة، ولم يكن التجريب قد ناوش قدسيتها. أما قصص منيرة الزرقي فلا تبدو مهجوسة بالتجريب خارج ما استقر عليه شأن القصة القصيرة العربية الحداثية. والقصة الوحيدة الموسومة ب"قصيرة جداً" هي الوحيدة التي تجنح الى الخاطرة، مرجّعة العلة الحاكمة في معظم ما ترسل الأصوات الجديدة من "ق. ق. ص." كما راجت التسمية المختصرة في سورية، بكل جدية وبكل سخرية. ولئن كانت قصة "المرافئ بعيدة" مثلاً تبدو ملخصاً لسيرة فوزي منذ نشأته الى علاقته بنصيرة الى باريس الى سرده لذلك على وداد المغرمة باكتشاف عوالم جديدة... فهذه القصة ترجّع شكوى ضعف "اللعب" الشائعة، فمن دون البراعة في "اللعب" في البناء او اللقطة او اللغة او كل ذلك وسواه، لا يستوي عود القصة، وهذا ما يظهر حين يظهر في بعض القصص التي اعتمدت سيرة شخصية ما، مثل حوارية، أو في خواتيم بعض القصص، مثل القصة التي حملت المجموعة عنوانها، ومثل قصة "نوتة"، او في مطالع بعض القصص، مثل المبالغة التي تبدأ بها قصة "مزاريب" والدلالة الصارخة التي ترميها قصة "خيبة" منذ الجملة الأولى، ولعل هاتين القصتين لو ابتدأتا بالفقرة التالية في كل منهما، لكان امرهما أفضل بكثير. بتنقية المجموعة من ذلك، تبدو قصصها الأخرى - كما وصفها صلاح الدين بوجاه بحق - تقاطعاً للشعري مع إيقاع العصر المتهدج الملتبس بإيقاع السرد، كما تبدو "تتألف حيناً وتتدافع حيناً، لكنها تقول نفسها في حالاتها جميعاً". فمنذ القصة الأولى "رائحة العنبر" يلفت التدقيق في التفاصيل وضفرها بلمسة تلوح ببساطتها، مخفية سرها، ما بين يقظة من تروي، وتحرش امرأة بها مومئة الى حبات العنبر المرشوشة على صدرها وذراعها: الشامات، فهل هذا هو إذاً سر الرائحة، ام هو سؤال من تروي لأحمد، وقد ملت من غزله: "ألا تتقن شيئاً آخر غير التغزل بي؟ ألا ترى تفاصيل جسدي؟ لماذا لا تحاول الغوص في أكواني المدهشة؟". وتمضي الأسئلة الى كسر حدود اللغة وإعادة صوغ المعاني، ليقرأ الحبيب حبيبته بوضوح، فيضوع العنبر الذي سيغدو في القصص المتألقة الأخرى حساسية الأنثى وخاصيتها. تلك هي سامية في قصة "ذات لحظة"، "جثة عارية لا يواري سوءتها تراب، جثة عفنة تكتسح رائحتها الآفاق" لأن المرأة هنا - وهي غالباً شابة في قصص الزرقي - مدفوعة الى الطبيب بصدمة من أدار لها الظهر بعدما وهبته عذرتها، وبالخطيب الذي يصدح: "أنا أريد فتاة نقية، صفحة بيضاء أخط عليها الحروف الأولى". لكن المرأة تغادر عيادة الطبيب بلا رتق، لأنها "أرادت ان تكون ذاتها... ذاتها دون رتوش". وتلك هي قصة "أطواق"، ترسم عنق امرأة تحضر مؤتمراً في مدريد، وترفض مراقصة من يدعوها، وفاءً لزوجها، حتى اذا عادت الى بيتها ملأ المكان عطر غريب ودخيل. ومثل هذا الطوق هو طوق المهاجر التونسي الذي امتصت فتوته امرأة، او طوق ذلك الشاعر الذي تمنت المرأة ان تكون جريدته المفضلة، والقهوة التي تهديه قبلة الصباح، فإذا بهذا الذي سكنها يوماً كالأوجاع المزمنة، يغتال ما كان: "إنه أمامها الآن. رجل ناضج يجلس بهدوء. تمثال لا روح فيه. أيكون هذا هو الذي أشعل الحرائق في مدنها الجليدية؟". وتُنوّع قصة "إبرة تثقب ذاكرتي" على هذا اللحن، حيث الساردة التي يغار كل الذين عبروا في حياتها من عشقها للكتابة، تستذكر عهدها مع أحمد، ويصعب عليها ان تصدق انه من الرجال الذين "يهملون قصص الحب الجميلة مثلما يلقون مروحة صينية خففت عنهم حرارة الصيف". فهذا الذي كان حلماً أشعل اضواءها، وجعلها امرأة جديدة، استحال مقصلة تطالب برأسها، وها هو يهتف داعياً الى العودة، ولكن كم من الأقنعة تحتاج هي كي تخفي هذا الخدش العميق؟ تبلغ قصص الحب ذروتها في قصة "نضال" التي جمعت هذه اللبنانية التي حملت القصة اسمها، مع ذلك الطالب التونسي في غربة باريس وتيه ضباب أوروبا. اما قصة "طقوس العشق" فلعلها جاءت قصيدة عشق لامرأة تتطوح من طقس الى طقس: النشوة التجلي الشوق - الحيرة الجنون الذكرى. ومن اللافت ان القصص التي تقدم شخصيات أخرى، لا تبلغ مبلغ القصص السابقة، ما عدا القصة الأخيرة "العمامة". فالمغنية التي تخيب العاصمة حلمها قصة الكأس واللقيطة فاطمة التي تنتحر لأنها تظل بلا نسب قصة فا...، ينال من حضورهما ما يبدو انه مسافة عن الذات، لكأن التألق يقترن بالذات في قصص منيرة الزرقي، وهو ما ترجحه قصة موت الأب أطياف الموت وقصص العهد الجامعي عتمة - ليل... والصبوة في قصة "نوتة" التي اتقد فيها المجاز وسادة بلون قوس قزح جراب دمع... كما اتقد في قصة "طيف أخضر" ومنها عيناه شجيرتا نعنع وعلى النقيض من الفظاظة التقليدية في قصص اخرى، كالقول "امتطي فرس الذكرى" أو "يوغل بي حصان الفكر". ولئن كان اجتماع ذلك في لغة القصص يذكر بما سبق من التباين بين ضعف "اللعب" ووفرته، أو يذكر بما سبق من "تنقية المجموعة" فالأهم هو عنبر الأنثى الذي يتضوع من معظم قصص منيرة الزرقي: وإذا بحنان أمام الفنان الذي عشقت، وهو يقف على حدود الخط الرفيع بين الصداقة والحب، رجلاً سكن الغياب، وملّ من فينا، وتاق الى الصحراء قصة اللوحة الأخيرة، وإذا بطيف يتخايل لهذا المتنقل في اسطنبول من مطعم الميلاديز الى متحف السرايا الى النزل الى المكتبة، حتى يستقر الطيف على غلاف كتاب "قصة العمامة". ولا فرق إذاً في حساسية الأنثى وخاصيتها، عندم ينتظم اللعب، بين قصة عن رجل وقصة عن امرأة، بين فضاء اسطنبول او باريس أو مدريد، وفضاء تونس او طبرقة. لا فرق بين ساعية الى العمل، يقايضها ذلك الكهل بالعلاقة لقاء تدبير العمل قصة خيبة وبين الصحافية التي تجري حواراً مع كاتب يئس من الكتابة قصة حوارية او الطالبة الجامعية التي تلتقي استاذها الذي يئس من التدريس. ففي نفحات الأسى بخاصة، وفي فورة "اللعب" حد الانتظام بعامة، تتطامن في مجموعة "رائحة العنبر" قصص، لتبقى القصص التي تلوح بها منيرة الزرقي، ليس فقط كشاهد على الدخول المتميز الى الساحة الثقافية، بل على وعد هذا الدخول. * كاتب سوري.