تتجه الانظار اليوم الى مدينة دربان في جنوب افريقيا، اذ تعقد الأممالمتحدة مؤتمرها العالمي لمناهضة العنصرية، وكل انواع التمييز والكراهية ورُهاب الأجانب عند الشعوب لغاية أيلول سبتمبر المقبل. ينعقد المؤتمر، بمقاطعة اميركية - اسرائىلية، بعد تعاظم الاتجاهات العنصرية في مجتمعات عدة، وجنوحها الى العنف للتعبير عن تلك الممارسات اللاإنسانية التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء، لاستخلاص الدروس، والمساعدة على نهج طريق جديد ضد العنصرية في المستقبل، ولإيجاد قاعدة مشتركة بين الدول لمكافحة كل اشكال التمييز والتعصب وكره الغير وانعدام التسامح. وكانت دولة جنوب افريقيا استعدت لاستقبال اكثر من 40 رئيس دولة، وقرابة 21 ألف مندوب حكومي من 194 بلداً طلبوا المشاركة في اعمال المؤتمر. وستحضر اكثر من 3 آلاف منظمة غير حكومية، وما يزيد عن 400 إعلامي سيغطون أعماله، ويُنظم المؤتمر على غرار مؤتمرات القمة العالمية، التي عقدتها الأممالمتحدة في السنوات العشر الماضية، كمؤتمر الأرض البيئة وحقوق الانسان، والسكان، والمرأة، والتنمية الاجتماعية. جاءت دعوة الأممالمتحدة لعقد المؤتمر، ليصدر عنه اعلان دولي، يهدف الى معالجة العنصرية ومكافحة آثارها، بعد ان استكملت الدورة التحضيرية التي امتدت منذ العام الماضي، اذ عقدت مؤتمرات اقليمية في عدد من دول العالم، يضاف اليها تجارب ثلاثة عقود زمنية من عمل الأممالمتحدة، لمحاربة العنصرية، لتتكامل كل النتائج والعبر في تهيئة الأجواء الملائمة، لمستلزمات تحضير جدول الأعمال، ومسودة الصيغة النهائية للإعلان العالمي ضد العنصرية ومكافحة اشكال التمييز، من خلال مناقشة كل القضايا التي تهم الشعوب المكتوية بنار العنصرية، وبشاعة صورها في الرق والاستعباد الى "الابرتايد" ثم التطهير القومي والعرقي والطائفي. وكذلك ما يترتب من الآثار العنصرية للعولمة الهادفة الى تهميش الناتج عن تطورات الاقتصاد الكوني، والتمييز ضد المرأة، وغيرها من القضايا التي تؤرق الانسانية، وراح ضحيتها الملايين من البشر، ودمرت جماعات بشرية وأفراداً، وأنهكت دولاً قادتها الى حروب داخلية - اهلية، قيّدت تحررها وأوقفت تنميتها، وجعلتها تابعة لسياسات الدول الأخرى. يهدف المؤتمر الى طرح بديل من العنصرية، لتتعامل معه الشعوب ويأتي في صوغ اعلان عمل يتضمن توصيات محددة وعملية، توجه الحكومات والمجتمع المدني، في كيفية جعل القرن الجاري خالياً من امراض العنصرية، والبديل هو في اشاعة تقاليد التسامح، وتحيق اكبر مقدار ممكن من التجانس والسلم الأهلي، والاندماج للجاليات والأفراد المهمّشين اجتماعياً، وخصوصاً في مجتمعات لا تزال تعشعش فيها عقد التفوق والنقاء العرقي والتمييز العنصري والديني والطائفي. ويتجه الاعلان الى نقد سياسات الاتجاهات السائدة في بعض المجتمعات، الداعية الى اظهار التعارض والتصادم بين الحضارات والثقافات الانسانية، ودعوتها الى امتلاك نظرة الاعتراف بالاسهام التاريخي والاجتماعي والثقافي لجميع شعوب العالم، المتسم بالاحترام والتسامح والتفاهم المتبادل، والإيمان في اثراء التنوع الحضاري في تشكيل التراث المشترك للإنسانية. ويستعد المؤتمر الى تشكيل قاعدة متينة لتحالف مدني عالمي، يقوم على مناصرة حق الشعوب في التنمية، وفي ارساء أسس الديموقراطية وحقوق الانسان، ويسعى التحالف المدني الى عولمة العدالة، وتعميق التضامن بين الشعوب في مواجهة عولمة القهر الاقتصادي والسياسي في وقت يتنامى شبح العنصرية ويتسع بصورة متزايدة، كنتيجة لممارسات وتقاليد التيارات الاجتماعية المنغلقة، والمتصفة بعلو موجة كره الأجانب والغير، وعدم اتساع تلك المجتمعات للجميع، واقتسام رفاهيتها وثرواتها، وغالباً ما تستخدم لغايات سياسية، ولأغراض الهيمنة. وتعد العنصرية مناقضة لكونية حقوق الانسان، لأنها تقوم اساساً على تفضيل انسان على آخر لسبب تمييزي كاللون او العرق او الجنس او الطائفة. ان تحقيق التماسك في المجتمعات التي تستضيف غير مواطنيها، يتم عبر الإيمان بالقيم الانسانية، والمتضمنة تقليل الكره للأجنبي واستيعابه، والتقبل الصادق للتنوع والاختلاط الثقافي كسمة حضارية، ومسؤولية الأجانب في الانخراط بالنسيج الاجتماعي لتلك المجتمعات، لمنع اي فرصة لتهميشهم، على رغم سلبية سياسات الدول المستضيفة، حيال قضايا شعوب المجموعات الأجنبية المهاجرة، خصوصاً التي لم تجد غير الفرار والهجرة وسيلة للنجاة بحياتها. ظهرت تباينات شديدة اثناء بحث الموضوعات التي ستناقش في دربان، داخل أروقة مؤتمرات التحضير الحكومية وغير الحكومية، بين بعض دول الاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا بزعامة اميركا كطرف، وبقية دول العالم كطرف آخر، ابرزها في ما يخص افريقيا مثل: قضية التعويضات عن فترة الرق والاستعباد والتطهير العرقي التي اجريت وقائعها منذ القرن السابع عشر حتى نهاية القرن العشرين بصوَر وأشكال مختلفة، راح ضحيتها تهجير اكثر من 20 مليون افريقي الى اميركيا ومقتل اكثر من 140 مليون آخرين. وذهبت بعض الوفود بطلب اعادة ما نهب من افريقيا خلال الحقبة الاستعمارية، ولقيت هذه الدعوات رفضاً قوياً من جانب الطرف الذي تتزعمه اميركا، التي نفّذت تهديدها بمقاطعة المؤتمر، في حال استمرار مطالبة الحكومات الافريقية بالتعويضات عن تجارة العبيد عبر الأطلسي. وطرح الأميركيون من اصل افريقي، ان توجه المطالبة بالتعويضات الى الدول العربية ايضاً، باعتبارها مسؤولة عن تجارة الرقيق في الزمن الماضي. وتعتزم بعض المنظمات العربية المطالبة بتعويضات للفلسطينيين من جراء الممارسات العنصرية الاسرائيلية على حد سواء مع الأفارقة. ويسود اعتقاد بأن تسوية لحل هذه المعضلة يجرى التباحث حولها، على اساس تقديم معونات تنموية، والمساعدة في النهوض باقتصادات الدول الأفريقية. وكما تباينت مواقف ووجهات نظر الدول الافريقية في المؤتمر التحضيري في دكار، حيال الصراعات الاثنية، والحروب الأهلية والدور الغربي في تأجيجها، وبطء التنمية الاقتصادية بسبب مديونية الدول الافريقية، وعيش معظم شعوبها تحت مستوى الفقر، وتفشي وباء الإيدز، ومعارضة الشركات المتعددة الجنسية انتاج الأدوية بالسعر المخفض في البلدان الافريقية. ويذكر انه لم تتم الاشارة الى القضية الفلسطينية في "اعلان دكار" الذي عُقد مطلع العام الجاري، والخاص بدول افريقيا ومنظماتها. ويعود السبب الى الدور الأميركي الفاعل في منع اثارة الوضع الفلسطيني، وعدم التنسيق بين وفود الدول والمنظمات العربية المشاركة. لكن الدول الآسيوية طرحت قضاياها المتعددة التي جاءت في اعلان المؤتمر الاقليمي التحضيري، لدول آسيا ومنظماتها المنعقد في طهران في منتصف شباط فبراير الماضي، حين ورد في الاعلان، وصف الصهيونية، بأنها نوع من انواع العنصرية، وجريمة ضد الانسانية، ومساواة معاملة اسرائيل للفلسطينيين بالمحارق النازية لليهود. وأكد الاعلان اعتبار الاحتلال الأجنبي المستند على المستوطنات، وقوانينه المبنية على اساس التمييز العنصري، يتعارض تماماً مع اهداف ومبادئ ميثاق الأممالمتحدة، ويشكل خرقاً خطيراً لحقوق الانسان الدولية والقانون الانساني، وهو نوع جديد من الفصل العنصري، وجريمة ضد الانسانية، وتهديد خطير للسلام والأمن الدوليين. وبعد ان أصرّت الوفود العربية والاسلامية، على تبني طرح بند مساواة الصهيونية بالعنصرية، اعلنت واشنطن مقاطعتها المؤتمر، وهذا ما حمل وزير الخارجية الاميركية كولن باول على التدخل، وحثّ الأممالمتحدة على منع مناقشة مساواة الصهيونية بالعنصرية، وساند مجلس النواب الأميركي موقف الحكومة في قرار حصل على 408 اصوات في مقابل ثلاثة، وجاء في القرار، ما يشير الى استغلال بعض الدول للمؤتمر في "إحياء الفكرة المشينة التي تثير الشقاق وتساوي بين الصهيونية والعنصرية ... وستقوض اهداف المؤتمر وغاياته". وذكرت المفوضة العليا لحقوق الانسان ماري روبنسون القضية المثيرة للجدل، في شكل آخر، وجاء في افتتاحها للمؤتمر التحضيري في جنيف في مطلع آب اغسطس لاصدار مشروع جدول الاعمال ومسودة الوثيقة الختامية "من غير المفيد على الاطلاق الانسياق وراء متاهات الماضي او السقوط في مطبات الاتهامات والاتهامات المضادة". وذكرت في كلمتها ايضاً "لقد فات وقت صياغة المواقف. ونحن الآن في مرحلة نحتاج فيها الى بدء الوصول لاتفاقات". وأجريت محاولات للتسوية من بعض الدول تسم الصهيونية بالصفة الاستعمارية وليس العنصرية، كنوع من الترضية. ومن خلافات المؤتمر التحضيري الاخير في جنيف، الصياغة اللغوية للوثيقة النهائية، التي كتبت بلغة الخطاب السياسي وليست بلغة حقوقية. وفي حال عدم توصل الاجتماع الى اتفاق حول مشروع جدول اعمال المؤتمر الواسع والشامل للمشكلات المراد بحثها، فسوف تناقش كل القضايا الخلافية وغيرها، في داخل الكثير من ورش عمل، لتتوصل في النهاية الى نتيجة تحظى بموافقة الاكثرية. ويسود اعتقاد بأن اعمال المؤتمر سوف يكتب لها النجاح، حتى بعد مقاطعة اميركا واسرائيل، بسبب الجهود الجارية لبناء تحالف قوي من دول ومنظمات غير حكومية، يحافظ على قوة تدفق التيار المتنامي، والشعور العالمي المناهض للسياسات الاميركية، كما عبّرت عنه احداث جنوى الاخيرة، وهزيمة اميركا في عدم انتخابها في عضوية لجنة حقوق الانسان الدولية، ومعارضتها لاتفاق كيوتو الخاص بخفض حرارة الأرض، وليقوم التحالف المنشود بمنع فرض ارادة اميركا لوضع جدول اعمال يناسب مصالحها، كما اعتادت، لتمرير مشاريعها، ولهذا الغرض بعثت بأحد نوابها، المعروف بتأييده القوي لإسرائيل الى جنيف، لتكثيف الاتصالات وحشد المعارضة لمنع وضع بند تساوي الصهيونية بالعنصرية على جدول اعمال المؤتمر. ولا يمارس مشاركتها في تغطية نفقات المؤتمر ضغطاً يذكر، لأن موازنة المؤتمر البالغة 6 ملايين دولار تم جمع اكثر من 80 في المئة منها، وحصة اميركا لا تزيد عن 600 الف دولار. ويحتمل ان تلجأ واشنطن كما فعلت في مؤتمرات التحضير، الى تمويل اشتراك عدد من المنظمات غير الحكومية، لتبني وجهات نظرها، وتأكيد عجز المؤتمر عن التوصل الى نتيجة نهائية من دون مشاركتها. لكن الدلائل تشير الى عدم نجاحها في مسعاها لعرقلة اعمال المؤتمر، وستؤدي مقاطعتها الى تعاظم التيار الدولي المعارض للتوجهات الاميركية، وهو ما يولد ضغطاً عليها بضرورة مراجعة مواقفها الدولية، ازاء قضايا الشعوب. قضايا المؤتمر أدرجت في اجندة المؤتمر الهموم الآسيوية، قضايا العمالة الوافدة، وما يتصل بذلك من تعصب ومن فقدانهم لحقوقهم، وإدخال العمالة في انساق اجتماعية وثقافية معادية لهم، على اساس من الشعور بالدونية اتجاههم، وكذلك تضمنت اضطهاد الأقليات القومية والطائفية، ومشكلات المنبوذين والداليت بالهند، وعمليات التهجير والإبعاد القسري عن الوطن، باعتبارها جريمة ضد الانسانية، والعقوبات الاقتصادية ايضاً. في حين بحث المؤتمر التحضيري في ستراسبورغ، الأمور التي تشغل تفكير اوروبا وأميركا الشمالية، كمشكلات الاتجار بالنساء الرقيق الأبيض والأطفال، والعمالة المهاجرة، والاعتداءات العنصرية، والتخويف من الاسلام والمسلمين اسلاموفوبيا، وعمليات طلب اللجوء من دول الجنوب، وحركة الروما المستمرة الغجر وعدم استقرارهم، وعقدة التفوق والتفرد العنصري والديني، ونمو الجاليات الوافدة، وغيرها. لكن قضايا السكان الأصليين الهنود الحمر، والفقر المدقع، وظاهرة اطفال الشوارع، استحوذت على اهتمام دول اميركا الجنوبية ومنظماتها، في مؤتمرها التحضيري المنعقد في سانتياغو، اضافة الى تعاظم مديونية دولها، وما ينتج عن تجارة المخدرات بكل تفرعاتها من ويلات، واستمرار الحروب والصدامات المسلحة بين حركات المعارضة وأنظمة الحكم، وما تخلفه من دمار ومآسٍ، وإفرازات سيطرة الاحتكارات العالمية على النتاج الوطني، وما يماثلها من تعقيدات دفعت منظمات القارة ودولها الى بلورتها ضمن اولويات اميركا الجنوبية. نشطت المنظمات العربية غير الحكومية للاستعدادات التحضيرية للمؤتمر، اكثر من دولها، باعتبارها الأداة الاكثر فاعلية في المجتمع، ولأنها تمثل نبض الشارع، وليست لها حدود في التعبير وبصوت عال عن معاناة الانسان وتطلعاته، فعقدت ثلاثة مؤتمرات تحضيرية لبلورة رؤيتها في القضايا التي ستثار في المؤتمر. فعقدت مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، مؤتمراً في مطلع السنة الجارية، لمناقشة موقف الاسلام من العنصرية، ونجحت جهود المنظمات الاسلامية في اوروبا، في ادراج موضوع التخويف من الاسلام والمسلمين اسلاموفوبيا ضمن جدول اعمال المؤتمر، كنوع من العنصرية ضد المسلمين. ونظمت "المنظمة العربية لحقوق الانسان" في عمان في شهر شباط فبراير الماضي، مؤتمراً لمناقشة الهموم والمشكلات العربية، لتضمينها في جدول اعمال المؤتمر العالمي، وكذلك سبل التنسيق بين المنظمات التي ستحضر دربان، وشكلت لجنة لتنسيق اعمال وجهود المنظمات الثلاثين التي شاركت في المؤتمر وعبّرت عنه في "اعلان عمان". واختتم في القاهرة في اواسط تموز يوليو الماضي، المؤتمر الدولي الرابع لحركة حقوق الانسان في العالم العربي، الذي نظمه "مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان"، المؤتمر الاقليمي العربي التحضيري للمؤتمر العالمي ضد العنصرية، وتحت شعار "معاً للقضاء على آخر النظم العنصرية"، صدر عنه في اختتام اعماله ما اطلق عليه ب"اعلان القاهرة لمناهضة العنصرية"، حاوياً لمجمل القضايا التي تسعى المنظمات العربية وحلفاؤها، لطرحها في دربان. وافتتح الاعلان ب"اعتبار الاستعمار والفقر والسياسات الاقتصادية في ظل هيمنة نظام القطب الواحد مصدراً اساسياً للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب"، وورد فيه ايضاً "مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته تجاه تصفية آخر معاقل العنصرية ونظام الفصل العنصري الذي تكرسه دولة اسرائيل". ويعقد المنظمون الآمال على التوصل الى اعلان يعالج التفاوت المريع والقائم بين المجموعات البشرية، من ضحايا العنصرية وآفاتها، فملايين من البشر يعيشون تحت مستوى الفقر، ولم يجر تحرك فعلي وعمل جاد لتطوير اوضاعهم، مكتفية بالرهان الخاسر على الزمن، لحل القضايا الملحّة والعالقة عند الشعوب النامية، كما هي الحال في ازمات الوضع الافريقي، وممارسات العنجهية الصهيونية ضد الفلسطينيين، ودوامة العنف في دول البلقان وإرلندا الخ. ان مجرد اصدار وصايا وقيم اخلاقية عالمية، تدعو الى معالجة آفات ونتائج السياسات العنصرية غير كافٍ، ما لم ترافقه آلية دولية لها قوة تأثير مباشر، تحد من مضار وسلبيات تلك السياسات اللاإنسانية، وإلا سنضيف الى الصكوك الدولية اعلاناً آخر، ربما لا يجسر الفجوة الهائلة بين التشريع القانوني الانساني، وعيش الشعوب المر. * كاتب عراقي.