تتبنى منظمات المجتمع المدني العربية المعنية بقضايا حقوق الإنسان والديموقراطية منظوراً مفاده أن العنصرية والتمييز العنصري والهيمنة الأجنبية المتواصلة، هي الأساس وراء معاناة الفلسطينيين الممتدة. وقد شعرت هذه المنظمات بالارتياح حين لاقى منظورها هذا قبولاً في إعلان مؤتمر ديربان الأول الصادر عن المنظمات الأهلية، بحيث جرى تعريف الشعب الفلسطيني كأحد ضحايا العنصرية والتمييز العنصري. غير أن هذه الفرحة لم تكتمل لأن «مقررات المؤتمر» خلت من إدانة الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ولم تشر إلى مسؤولية إسرائيل صراحة عن مأساة التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني. يقول محسن عوض أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان: «في مقررات ديربان الأول جرى انتزاع قلب الوثيقة، التي أعدتها 3500 منظمة حقوقية غير حكومية، المتمثل في إدانة الصهيونية وإسرائيل من ناحية وإدانة عمليات الإبادة والاسترقاق والعبودية التي خضعت لها شعوب أفريقيا من ناحية أخرى...». القصد أن ديربان الرسمي الأول قد انحرف بشدة لجهة إعلانه ومقرراته عن المأمولات والتطلعات الفلسطينية والعربية الحكومية عموماً وغير الحكومية خصوصاً. فعلاوة على تجاوزه فكرة التشهير بالعنصرية الصهيونية الإسرائيلية، ايديولوجية وسلوكاً، فإنه لم يتضمن أية خطوات لكيفية معالجة ظاهرة العنصرية والتمييز العنصري في إطار القضية الفلسطينية.. كما أنه كرر على نحو ممل لغة الأممالمتحدة وخطابها التقليدي فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين وعملية التسوية. المدهش أن المقاربة الفلسطينية والعربية في ديربان الأول لنموذج العنصرية والتمييز العنصري في سياقه الصهيوني الإسرائيلي/ الفلسطيني، لم تحد قيد شعرة عن المعايير والمواثيق المعتمدة عالمياً ودولياً لحقوق الإنسان الأساسية. ولو أن قوى حقوقية قانونية غير فلسطينية ولا عربية هي التي تولّت عرض هذا النموذج بأقصى درجات الموضوعية والنزاهة، لانتهت بدفوعها إلى ما انتهت إليه تلك المقاربة. لكن الأمر أن المؤتمرين في ديربان وقعوا فريسة السياسة والتسيس والانحيازات المسبقة، هذا الداء المزمن المعطل لسيرورة الحقوق والقوانين في كثير من المواضع والقضايا والمناسبات. فيومذاك مارست الولاياتالمتحدة ومحازبوها ضغوطاً جبارة لأجل استبعاد الصهيونية ودولتها إسرائيل من دائرة الإدانة، وصولاً إلى التنكر للمؤتمر والاستخفاف بفعالياته برمتها. ولم يكن المشاركون على قدر واحد من طاقة الصلابة والتحمل.. ففيما استعصت قوى المجتمع المدني العربي والمؤتلفين حولها من قارات أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية واعتصمت بحبال القانون والاستقامة الحقوقية، تمكنت الضغوط من رقاب آخرين، بما في ذلك ماري روبنسون مفوضة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، التي رفضت تسلم وثيقة المنظمات غير الحكومية لتجريمها، الزائد بنظرها، لإسرائيل. استطردنا إلى ذلك كله لنقول إن جماعة الحقوقيين والقانونيين من الفلسطينيين والعرب تقف اليوم، على مشارف ديربان الثاني ومراجعاته وكشف حساباته، في المربعات ذاتها.. وقد نذهب إلى أن هذه الجماعة تواجه واقعاً أكثر انسداداً من البارحة، بما يجعلها فريسة أزمة كبيرة.. فالسنوات الثمانية الماضية حملت كل ما يمكن تصوره من آيات العنصرية والتمييز العنصري الصهيونية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، هذا من دون الحديث عن الانتهاكات التي اقترفتها دوائر غربية، رسمية وغير رسمية، بحق عوالم الآخرين ولا سيما من العرب والمسلمين على إثر أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، من تشويه للصورة الجمعية وكراهية للأجانب والمختلفين حتى وإن كانوا من المواطنين المتجنسين، هبوطاً إلى درك إزدراء الأديان والتعدي على حرمة الأنبياء والمرسلين. ومع ذلك، فإن هذه المسافة الزمنية ذاتها شهدت أعلى مستويات التبجح، بل وشن الحروب وتقويض دول ذات سيادة بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة القهر والتمييز العنصري!. يفترض من مشهد كهذا أن يبشر بمراجعة سهلة لما جرى بعد وثائق ديربان الأول، إذ يستطيع المشاركون العدول أن يقيموا الحجة على فشل هذه الوثائق وما تحويه من شعارات وديباجات ومقررات في الارتقاء بقيم التسامح وبسط فضائل حقوق الإنسان وزحزحة العنصرية والتمييز العنصري عن مواقعهما في طول الخريطة العالمية وعرضها. وتبدو إمكانية البرهنة على هذا الفشل أكبر فيما يخص الحالة الفلسطينية حيث حصاد سياسات التمييز والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي مارستها إسرائيل في غزة مازال ساخناً، والشهادات حوله تتوالى من كل حدب وصوب. لكن مصدر الانسداد المتوقع على ما تقول الشواهد أن القوى التي أفشلت ديربان الأول وسفهت أحلام وثائقه ومقرراته عملياً، ما زالت عاكفة على تبجحها وتسييسها للقضايا الحقوقية. وثمة ما يؤشر إلى إنها حشدت كل ما تملك إيمانها من أدوات في معرض التهديد والوعيد، قاصدة إلى تحويل ديربان الثاني إلى «مكلمة» جوفاء عوضاً عن كونه «محكمة» لمحاسبة المارقين والأشقياء. ففي الاجتماع التحضيري العربي لمراجعة ديربان (القاهرة 19-28 آذار/مارس 2009) ذكر عصام يونس مدير مركز الميزان الفلسطيني لحقوق الإنسان -العائد توا من سويسرا- أن إسرائيل حجزت في فنادق جنيف، حيث سيعقد ديربان الثاني بين 20 و24 نيسان (إبريل)، لأكثر من خمسة آلاف شخص، تم تجنديهم للعمل لصالحها أثناء المؤتمر!. ومن المعلوم أن الولاياتالمتحدة وكندا ودولا أوروبية أخرى، علاوة علي إسرائيل، أنذرت بمقاطعة المؤتمر من الأصل إن لم يستبعد من شواغله البحث في قضايا بعينها، أبرزها العنصرية والتمييز العنصري الصهيوني الإسرائيلي وازدراء الأديان. وللإنصاف، يلمس المتابع من ناحية أخرى أن المنظمات المدنية الفلسطينية والعربية الموصولة بمجابهة هاتين القضيتين ونحوهما، تنظيراً وتوثيقاً وتبياناً للمخاطر والتداعيات، على إدراك عميق بأبعاد الجولة الحقوقية المغموسة بالسياسة التي تنتظرهم في ديربان الثاني. ومن دلائل ذلك، اللقاءات التمهيدية الواسعة النطاق التي تعتمل داخل هذه المنظمات وفي ما بينها، وعمليات التنسيق والتشبيك التي تضطلع بها مع القوى المناظرة في مختلف الدول. بين يدي مداولات القاهرة التحضيرية أجمع الخبراء العرب على أن مؤتمرات المراجعة المعنية بالقضايا الحقوقية ذات الطبيعة الإنسانية، العالمية، كالتي تخص المرأة والمهاجرين والحريات الدينية والعنصرية والتمييز العنصري أهم بكثير من المؤتمرات الأصلية الأولية أو المؤسسة. وهم رأوا أن عوامل نجاح المرافعات والدعاوى العربية في جولة ديربان المقبلة تتعلق بالمصداقية في الطرح والحرفية في المعالجة والدأب على المتابعة والأخذ بمنهجية النفس الطويل. * كاتب فلسطيني.