ما نراه أن الايمان بعقيدة القضاء والقدر في الاسلام هو معين زاخر بالقوى الايجابية التي تستنهض الانسان وتدفعه الى الامام وتمنحه القدرة على مواجهة الدنيا وما فيها من المصائب والشدائد والابتلاءات، ومع ذلك فقد جرى اختزاله من جانب المفاهيم المشاعة المتوارثة عن العقائد والفلسفات الاتكالية القديمة الى مجموعة من المفاهيم التي تميل بالانسان الى التوكل والضعف والدعة والسكون والسلبية والرضوخ للأمر الواقع بدلاً من أن تدفعه الى العمل والتحدي والتصميم والمواجهة، كما هي حقيقة الايمان الصحيح بهذه العقيدة في الاسلام. ومكمن الخطورة في التحول من المفهوم الايجابي لتلك العقيدة الى المفهوم السلبي لها أو العكس يدور حول نقطتين: أولاً، ارتباط المشيئة الانسانية بالمشيئة الإلهية. والسؤال الذي يُطرح حول هذه النقطة هو: هل المشيئة الإلهية هي التي تقرر السلوك الانساني بشكل حتمي ومن ثم تنتفي الإرادة الانسانية وتنعدم الحكمة من التكيف والثواب والعقاب؟ أم أن مشيئة الانسان لها الحرية المطلقة في هذا الوجود؟ وما نذهب اليه هو أن الآيات التي وردت في هذا الموضوع مثل قوله تعالى: "كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة". وقوله تعالى: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً". تقرر حقيقتين: - ان لكل عبد مشيئة يقوم عليها اختياره ويكون ترتيب مسؤوليته عن ذلك الاختيار هو تحقيق لعدل الله سبحانه وتعالى. - ان هذه المشيئة مشروط تحقيقها بتحقق المشيئة الإلهية أولاً، أي أن المشيئة الانسانية لا تتحرك إلا اذا منحتها المشيئة الإلهية هذا الحق في التحرك. بمعنى أن المشيئة الانسانية تتحرك في النطاق الذي تمنحه لها المشيئة الإلهية. وتفسير ذلك ان الانسان قبل أن يصدر الفعل أو يحدد اختياره فإن الارادة الإلهية تسبق ذلك أولاً وهي التي تمنح الانسان إمكان صدور الفعل. ومعنى إمكان صدور الفعل هو ان يرتب الله للإنسان الظروف والوسائل التي يمكنه من خلالها إصدار الفعل أو عدم إصداره. وعلى ذلك فإن الله اذا هيأ للانسان هذا الإمكان فإن أي فعل يصدره يكون ناتجاً عن الإرادة الإلهية أولاً أيا كان هذا الفعل خيراً أم شراً لأنه لو لم يكن منحه هذا الإمكان ما كان ليستطيع ان يصدر أي فعل اصلاً. وعلى هذا لا يكون أي فعل يصدره الانسان إلا بإرادة الله ومشيئته أولاً ثم تأتي بعد ذلك إرادة الانسان ومشيئته. ولكن هذا الإمكان من الظروف والوسائل التي يمنحها الله للإنسان امام أمر معين لا تحتم على الانسان اصدار أي فعل معين او سلوك خاص من خير أو شر بل يكون أمامه بعد امتلاكه لذلك الإمكان ان يصدر اي فعل في أي اتجاه، وبذلك فهو يملك الارادة التامة في أن يختار نوع السلوك الذي يريده لأن هذا الامكان الذي وهبه الله إياه يمنحه المقدرة على اختيار الفعل ولكنه لا يحتم عليه اتجاهاً محدداً لهذا الاختيار. ويكون الانسان بذلك حراً مختاراً في صدور أفعاله، ومن ثم تترتب مسؤوليته عن صدور هذه الأفعال، ويكون حساب الله له على ذلك هو العدل المطلق الذي وصف الله به ذاته جلّت حكمته وقدرته. فالمال على سبيل المثال قد ينفقه الانسان في الحلال أو الحرام، ولكن لا بد أن يتوافر المال أولاً وكذلك هذا الحلال وذاك الحرام حتى تتوافر للانسان إرادة الخيار بينهما. ثانياً: متى يكون وقوع القدر مبطلاً لإرادة الانسان؟ أعتقد أن هذه النقطة بالذات هي أكثر النقاط التباساً في مسألة القضاء والقدر، ليس عند جماهير المسلمين فقط، بل عند بعض علمائهم ومفكريهم ايضاً، لأن الذين يكنهون معنى كون الايمان بالقضاء والقدر لا يبطل الفعل قد يذهبون الى عكس ذلك بالنسبة الى القدر الراجح الوقوع. وهنا تبرز مقولة: "كل شيء نصيب" ذات الدلالة الخاصة على وجوب إبطال الإرادة والاستسلام والخضوع لهذا القدر الراجح. ومكمن الخطورة هنا في ايقاف طاقة الانسان على المثابرة في تغيير الممكن المحتمل الوقوع الى ممكن راجح الوقوع ومن ثم الى امر واقع. وأعظم الانجازات الانسانية الحاسمة في تاريخ الحضارات البشرية جاء من هذا الباب. إنه يجوز لنا أن نقول على الشيء الذي تم فعلاً، أي الشيء الذي تحدد أنه نصيب يجب الاستسلام له. أما الشيء الذي لم يتم فعلاً فإننا لا يجوز لنا أن نسميه نصيباً لأنه لم يتحدد بعد ولا يستطيع أحد إدعاء علمه بما تريده المشيئة الإلهية ومطالبتنا بالاستسلام لهذا العلم. فما دمنا لا ندرك ما الذي تريده المشيئة الإلهية، فعلينا أن نعمل جاهدين لتحقيق ما نريد تحقيقه فقد يكون هذا هو النصيب الذي ستقرره الارادة الإلهية في النهاية. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نتجاوز ذلك الى ما هو أكبر. فإنه إذا كان ما تم فعلاً هو قدر نصيب تحدّد، ولكن من الذي قال إنه قدر نصيب نهائي يجب الاستسلام له وإلا نكون بذلك اعترضنا على الإرادة الإلهية؟!. إن ما تم فعلاً قدر حقيقة ولكن لو كان هناك إمكان ما لتغييره، فإن محاولة تغييره هي قدر ايضاً وما سيترتب على هذه المحاولة قدر ايضاً. ومن ثم فليس هناك ما يحتم علينا قبول ما تم، وليس هناك رادع يمنعنا من محاولة تغييره ما دمنا لا ندرك أن المشيئة الإلهية ارادت استمرار هذا الأمر أم ارادت تغييره وهو ما لا يجوز لأحد ادعاء إدراكه. إن ما تم فعلاً هو نصيب ومحاولة تغييره ما دام هناك إمكان لذلك نصيب وما سيتم نصيب ايضاً وليس هناك أي حتمية توجب الاستسلام لما سيقع أو حتى لما وقع بالفعل ما دام هناك إمكان للتغيير لأن هذا الامكان تنفي وجود القدر النهائي الذي يجب الاستسلام له لأنه لا يكون موجوداً إلا في حال واحدة هي انتفاء أي إمكان لتغييره عند ذلك فقط فإن عدم التسليم له يكون اعتراضاً على المشيئة الإلهية وما علينا في هذه الحال سوى التسليم والرضا بما قسمه الله لنا. وهذا الذي نقوله هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم تحديداً في فتح خيبر، فقد أعطى الراية الى أبي بكر ولكنه لم يستطع فتحها ثم أعطاها الى عمر فلم يستطع فتحها. فأعطاها الى علي ففتحها بإذن الله. كل ذلك بشكل متلاحق من دون أن يفكر الرسول أن عدم فتحها مرتين له دلالات قدرية على ان مشيئة الله لم تأذن بفتحها الآن على الأقل، كما يفكر الكثيرون عند أول انكسار لمساعيهم لتحقيق هدف ما. واذا كان الايمان بمكانة الإرادة البشرية، على رغم ارتباطها بالمشيئة الإلهية، وعلى رغم وقوع القدر غير النهائي له دلالته الايجابية الواضحة في تفعيل العمل الانساني والرقي الحضاري للبشر، فإن الايمان بإحاطة المشيئة الإلهية للفعل الانساني له انعكاساته الايجابية ايضاً على مختلف جوانب حياة الانسان ما دامت لا تعني هذه الاحاطة لديه إبطال إرادته. فهي تمنحه الأمل في أنه ليس وحده في الوجود كما تعفيه من التحسر على ما فات أو الاستعلاء بالانتصار وغير ذلك مما شرحه يطول. * كاتب مصري.