على عكس ما قد يتصوره البعض، لم يعش أبو الوليد بن رشد، في زمن أبي حامد الغزالي، ولم يتجادل معه. كل ما في الأمر انه في كتابه الأشهر "تهافت التهافت" رد مباشرة على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، وعلى الارجح بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من ظهور هذا الكتاب الأخير الذي كان ولا يزال يعتبر اكبر هجوم شنه على الكلام على الفكر العقلاني الفلسفي في تاريخ الحضارة الاسلامية. والحال ان كتاب الغزالي كان من الشهرة والحضور والتأثير في البيئة الفكرية الاسلامية، حيث ان الأمر استدعى من ابن رشد ذلك الرد العنيف والدقيق الذي أورده في "تهافت التهافت". وإبن رشد لم يخف غايته منذ الصفحات الأولى لكتابه، حين نراه يقول تحت عنوان "الغرض من الكتاب": "فإن الغرض في هذا القول ان نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والاقناع، وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان". ولئن كان الغزالي قد اعلن في كتابه انه لم يخض "خوض الممهدين، بل خوض الهادفين المعترضين. ولذلك سميناه تهافت الفلاسفة لا تمهيد الحق"، مضيفاً أنه لم يلتزم "في هذا الكتاب الا تكدير مذهبهم والتغبير في وجوه أدلتهم، بما يبين تهافتهم، ولم نتطرق للذبّ عن مذهب معين"، فإن ابن رشد ينقض دعواه هذه بقوله: "قوله انه ليس يقصد، في هذا الكتاب، نصرة مذهب مخصوص، انما قاله لئلا يُظن به انه يقصد نصرة مذهب الأشعرية". وهكذا يموضع ابن رشد كتابه مرة اخرى، في اطار ذلك الصراع الكبير الذي عرفه الفكر الاسلامي بين علم الكلام الأشعري خاصة وبين الفلسفة العقلانية. في مقدمة حديثة وضعها لطبعة جديدة من "تهافت التهافت" صدرت عن "مركز دراسات الوحدة العربية" ضمن مشروع اعادة اصدار مؤلفات ابن رشد يدحض الدكتور محمد عابد الجابري، تلك الفكرة الشعبية الذائعة التي تقول ان "الغزالي وجه، بكتابه "تهافت الفلاسفة"، ضربة قاضية الى الفلسفة لم تقم لها بعده قائمة"، مؤكداً ان "الكتاب الذي بين ايدينا أي "تهافت التهافت" يقدم ألف دليل على ان الفلسفة في الثقافة العربية عرفت قفزة نوعية، تجاوزت بل قطعت بوعي واصرار مع فلسفة ابن سينا وكلام الغزالي". والحال ان كلام الجابري هذا، ليس سوى اعادة تشديد على المكانة الأساسية التي يحتلها "تهافت التهافت" في تاريخ الفكر الاسلامي. وفي المقدمة نفسها يذكر الجابري أن كتاب "تهافت التهافت" رد مباشر على كتاب الغزالي، وفيه "سلك فيلسوف قرطبة الطريقة نفسها تقريباً التي سلكها في شروحه المطولة على كتب ارسطو: يتتبع الكتاب فقرة فقرة ويقوم بإبداء الرأي"، و"ابن رشد يتدخل تارة في جميع المراحل او جلها ليصحح او يرد وتارة يترك الغزالي حتى ينهي كلامه في القضية موضوع النقاش، ثم يتدخل ليحلل ويصحح. وهو لا يعترف من منطلق مذهبي معين، بل يركز على ما في الدعاوى المطروحة من ضعف منطقي أو مخالفة لما يقول به الفلاسفة ارسطو تحديداً، او لينبه الى ان ما يقوله الغزالي لا يمثل رأي ظاهر النصوص الدينية: القرآن والحديث، وان الأمر يتعلق بتأويل خطأ". على نحو ما فعل الغزالي في "تهافت الفلاسفة" يقسم ابن رشد "تهافت التهافت" الى قسمين الالهيات والطبيعيات يتناول فيهما المسائل العشرين التي تناولها أبو حامد، من مسألة القدم والحدوث الى مسألة الخلود، ثم صدور الكثرة عن الواحد، والاستدلال على وجود صانع العالم، و"في ان الله واحد ونفي الكثرة في ذاته" ثم "الصفات: هل هي عين الذات ام غيرها؟" ومسألة الوحدانية ثم "الوجود والماهية في الذات الالهية، والتنزيه والتجسيم، ثم "الصانع ام الدهر؟". وبعد ذلك تأتي ثلاث مسائل تحت عنوان "في العلم الالهي": العلم بالكليات هل يعقل الأول ذاته؟ ثم العلم بالجزئيات. ثم تأتي "مسألة طاعة السماء" و"الغرض المحرك للسماء" و"اللوح المحفوظ ونفوس السماوات" قبل ان ينتقل ابو الوليد الى مسائل الطبيعيات فيبحث في "السببية" ثم "روحانية النفس ومسألة الخلود" و"مسألة فناء النفوس البشرية" وأخيراً "البعث: للنفوس ام لها وللاجساد". اذا كان الغزالي يتساءل في خاتمة كتابه عما اذا كان الفلاسفة الذين يتحدث عنهم كافرين ويقول: فإن قال قائل: قد فصلتم مذاهب هؤلاء افتقطعون القول بكفرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم؟ فإنه يجيب: "تكفيرهم لا بد منه في ثلاث مسائل احدها مسألة قدم العالم، والثانية قولهم ان الله لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الاشخاص، والثالثة في انكارهم بعث الاجساد وحشرها" لأن هذه المسائل الثلاث لا تلائم الاسلام بوجه ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء". في المقابل يرى ابن رشد ان "دين الفلاسفة انما يقوم أصلاً على الإيمان بوجود الله وعبادته" وان مذهب السببية الذي ينقضه ابو حامد وينفيه، انما هو المذهب الذي يوصل الى معرفة الله، ومعرفة خلقه معرفة واقعية. اما بالنسبة الى الكثير من المسائل المتعلقة بالتصورات الشعبية للدين، فيجب في رأي ابن رشد تفسيرها تفسيراً روحياً لا عقلانياً، لأن الغاية منها، أصلاً، حث الانسان على اتباع سبيل الفضيلة. فالانسان يبدأ، دائماً، بأن يعيش معتقدات عامة، قبل ان يعيش حياته الخاصة. ولكن حتى حين يصل الانسان الى هذا المستوى فإنه، بدلاً من ان يستخف بالمعتقدات التي كان يؤمن بها، عليه ان يسعى الى فهمها فهماً صحيحاً. ومن هنا واضح ان القضية الاساسية التي تهيمن على "تهافت التهافت" وكذلك، طبعاً، على "تهافت الفلاسفة"، انما هي قضية العلاقة بين "الدين والمجتمع كما طرحت في التاريخ العربي الاسلامي"، كما يذكرنا الجابري. لم يُعرف تماماً التاريخ الذي كتب فيه ابن رشد كتابه المهم هذا "تهافت التهافت" ولكن من المرجح، بالنظر الى "ما في هذا الكتاب من سعة اطلاع ونضج تفكير" بحسب الباحث الاب يوحنا قمير في كتاب وضعه عن "التهافتين"، لا يمكن نسبة الكتاب الى عهد الشباب، خصوصاً ان "ابن رشد لا يذكره في كتابه "فصل المقال" كما لا يذكره في "مناهج الأدلة" الذي كتبه بعد "فصل المقال" وأنهاه في اشبيلية سنة 1179 1180. وعليه ودائماً بحسب قمير نستبعد تأليف "تهافت التهافت" قبل سنة 1180، وحينها كان ابن رشد في الرابعة والخمسين من عمره". وإبن رشد الذي ولد العام 1126 520ه في قرطبة بالأندلس، تحدّر من اسرة تعمل في الفكر والقضاء. ودرس الفقه والطب والفلسفة وعلم الكلام. وعَّرفه ابن طفيل إلى الخليفة ابي يعقوب يوسف، فشرح ارسطو تنفيذاً لرغبة هذا الأخير. بعد ذلك عين قاضياً، ثم اتهم بالزندقة ونُفي وأحرقت كتبه. وظل منفياً حتى فترة يسيرة قبل وفاته العام 1198 595ه.