يمكن النظر إلى قضية "قوم لوط الجدد" والمتهم فيها 52 شخصاً والتي ينظر فيها الآن القضاء في مصر من زوايا عدة كل منها يوصل الى نتائج ودلالات مختلفة عن الأخرى. وبعيداً من الزاوية الجنائية التي يناط بالقضاء المصري حسمها وفقاً للقواعد القانونية المستقرة في هذا البلد وللوقائع التي سيقوم بالتحقق منها، فإن الزاوية الأكثر قدرة على استقراء الجوهر الحقيقي لتلك القضية هي النظر إليها باعتبارها نموذجاً لمعارك العولمة الجديدة في مصر. والعولمة كما هو معروف مفهوم لا يزال مستعصياً على التعريف الدقيق الذي يرضي سواء المستفيدين منها والداعين إليها أو المضارين بها والمعترضين عليها. وكما هو معروف أيضاً فإن للعولمة في كل تعريفاتها المترهلة والقلقة معان عدة بعضها اقتصادي والآخر سياسي والثالث اجتماعي قيمي والرابع إتصالي تكنولوجي، وهي في كل المعاني تشير لدى المتحمسين لها إلى تحول العالم كله نتيجة ترابط المصالح الاقتصادية والبيئية والسياسية إلى مجتمع شبه موحد بفعل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والانتقال ونقل المعلومات يتجه بسرعة كبيرة نحو تبني نموذج واحد تقريباً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقيمي. ومن دون استفاضة طويلة، فحسب دعاة العولمة ومروجيها، فإن هذا المجتمع العالمي شبه الموحد في طريقه إلى التكون أو هكذا يجب أن يكون على شاكلة المجتمعات الغربية كما هي الآن في مرحلتها المسماة بما بعد الحداثة، كما أن تنظيمه على مختلف المحاور سيقوم أو هكذا أيضاً يجب أن يكون وفقاً للرؤية الليبرالية الرأسمالية الغربية بآخر تعديلاتها القائمة اليوم في الواقع والفكر الغربيين بعد أن اجتاحت في طريقها كل الرؤى المخالفة لها وأغلقت وراءها أبواب أي تطور فكري أو واقعي آخر محتمل، فنحن قد وصلنا إلى "نهاية التاريخ". اجتماع وقيم ولكي تتحقق العولمة كاملة وفقاً لهذا التعريف المستخلص من رؤية المتحمسين والمروجين لها وبخاصة في بلدان الغرب، فإن الأكثر أهمية وأولوية الآن في مستوياتها المختلفة إنما هو المستوى الاجتماعي القيمي، أي إعادة صوغ وتشكيل أنماط القيم والبناء الثقافي والتنظيم الاجتماعي في مجتمعات العالم غير الغربية على غرار ما هو سائد حالياً في مجتمعات الغرب ما بعد الحديثة. والحقيقة أن تلك الأهمية والأولوية لا تنفصل عن طبيعة العولمة كما هي مطروحة غرباً باعتبارها المرحلة الأخيرة الحالية من الصراع الحضاري الغربي مع حضارات العالم الأخرى وبخاصة الحضارة العربية الإسلامية. فقد مر هذا الصراع في القرون الثلاثة السابقة بمراحل نوعىة مختلفة لكل منها خصائصها ونتائجها، تمكنت خلالها حضارة الغرب بفعل القوة والتقدم المادىىن اللذين تمتعت بهما منذ عصر النهضة من الاحتفاظ بموقع المهاجم المستمر. وظل منطق الحضارة الغربية الدائم هو الزحف والهجوم على غىرها من الحضارات الأكثر ضعفاً بهدف نهبها أو إخضاعها أو تفكىكها أو استىعابها، إضافة إلى الجنوح نحو الكونىة والعالمىة وإدخال المجتمعات الأخرى قسراً أو اختىاراً ضمن نموذجها ومفاهىمها العامة. وكانت مرحلة الاستكشاف المرتبطة بنشأة علوم الاستشراق الغربية هي الأولى في تلك القرون الثلاثة وذلك بهدف جمع عناصر معرفة الغرب الجدىدة بتفاصيل الحضارة العربية الإسلامية، ثم أتت بعد ذلك مرحلة غزو بلدان تلك الحضارة واحتلالها ونهب مواردها خصوصاً أن الاستكشاف أكد مدى تغلغل عوامل الركود والوهن في جنباتها. أما المرحلة الثالثة، أو مرحلة الاستقلال ومحاولات بناء التنمية وفقاً للنموذج الاشتراكي، فقد اتسمت بالسعي الغربي المتواصل لضرب جوهر ذلك الاستقلال ومضمون تلك التنمية. اخضاع الآخر وفي المرحلة الرابعة والأخيرة الحالية، والتي اصطلح على تسمية آخر حلقاتها بالعولمة، بدت الحضارة الغربية ذات الطابع الرأسمالي الليبرالي وقد نجحت في تحقىق الإخضاع السىاسي شبه الكامل لإرادات منافسيها، وفي مقدمهم الحضارة العربية الإسلامية، بالتوازي مع اقتحام اقتصادي واسع للسىطرة على المقومات المادىة لتلك الإرادة. وكان لدخول الغرب إلى ثورته التكنولوجية الكبرى المتمحورة حول الاتصال تأثير حاسم في الوصول إلى جوهر تلك المرحلة الرابعة، أي حلقتها الأخيرة، وهو تفكيك ركائز الخصوصىة العربىة الإسلامىة واستبدالها بأخرى وافدة من الغرب، سواء على الصعيد الرمزي أو القىمي أو الاجتماعي أو الفكري. وإذا كانت الفجوة متزايدة الاتساع بين ذلك الغرب وتلك الحضارة الإسلامية العربية على المحاور كافة ساعدت على تسارع التفكيك والإحلال، فإن الاتجاه نحو "تقليد الغالب" بحسب مقولات ابن خلدون، أي الغرب، من جانب "المغلوب"، أي الحضارة العربية الإسلامية، كان له دور مهم في دعم هذا التسارع. ضمن ذلك الإطار النظري التحليلي يمكن النظر إلى قضية "قوم لوط الجدد" في مصر باعتبارها نموذجاً مثالياً لمعارك العولمة الغربية. فمن ناحية أضحت مفاهيم المثلية الجنسية وممارساتها اليوم واحدة من مستقرات المجتمعات الغربية ما بعد الحديثة، ومكونات الرؤية الليبرالية الرأسمالية خصوصاً في شقها المتعلق بحقوق الإنسان. ويأتي الترويج لمفاهيم المثلية الجنسية وممارساتها في الخطاب الأيديولوجي الغربي المتعلق بحقوق الإنسان ضمن إطار أوسع من الترويج لكل المفاهيم والممارسات التي تلغي كل التمييزات البشرية "الطبيعية" والحضارية والجغرافية، والذي لا يهدف في حقيقته إلى تحقيق "المساواة" بقدر ما يهدف إلى تفكيك ما هو قائم من نظم قيمية وثقافية واجتماعية في مجتمعات الحضارات الأخرى وإحلال النموذج الغربي محلها. وبدا واضحاً منذ مؤتمر القاهرة للسكان العام 1995 أن العالم يشهد صراعاً حقيقياً عميقاً بين ذلك التوجه الغربي العولمي وبين الخصوصيات الحضارية والدينية التي تقاومه بضراوة وتتجاوز أحياناً ما بينها من منافسات تاريخية لتتوحد معاً في تلك المقاومة كما حدث في ذلك المؤتمر عندما اصطفت المؤسسات الدينية الكبرى في العالم، المسيحية والإسلامية واليهودية والبوذية وغيرها، لكي ترفض المشروع الغربي العولمي المقدم للمؤتمر والذي تضمن كل مفردات وقضايا إلغاء التمييزات الطبيعية والخصوصيات الحضارية والدينية المتعلقة بالأسرة وعلاقة الرجل بالمرأة والأطفال والإجهاض والعلاقات المثلية. وفي سعي الغرب إلى فرض نموذجه الاجتماعي القيمي ورؤيته الليبرالية الرأسمالية على كل مجتمعات المعمورة كان لما يسمى بمنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان الدور الأبرز في عمليات التفكيك والإحلال متسارعة الوتيرة على الأصعدة الرمزىة والقىمىة والإجتماعية والفكرىة. وتوضح حالة "قوم لوط الجدد" في مصر ذلك الدور بصورة مثالية، حيث من ناحية يشير تأمل وتحليل حملات ودعاية منظمات وجمعيات المثليين في العالم الغربي خلال الشهور الستة الأخيرة على الأقل، وبخاصة على شبكة "الإنترنت" مدى التكثيف الذي حظيت به مصر فيها. وهدفت تلك الحملات إلى تحقيق أهداف عدة، من أبرزها تقديم هذا البلد باعتباره موطناً لنسب عالية من المثليين الذين يعانون من "اضطهاد" الدولة والمجتمع والدين والقيم السائدة، وكذلك ربط مجموعات المثليين القليلة في هذا البلد بالشبكات العالمية الغربية المثلية وتقديم كل صور الدعم والمساندة لهم، وأخيراً ترويج مفاهيم وممارسات المثلية الجنسية على أوسع نطاق بين الشرائح الاجتماعية المصرية القادرة مادياً وتعليمياً على التعامل مع شبكة المعلومات العالمية. من ناحية ثانية فقد لعبت أيضاً منظمات حقوق الإنسان الغربية دوراً يصعب تجاهله في تحقيق الأهداف نفسها بطريق آخر وخطاب مختلف، وهو الأمر الذي وضح تماماً عند بدء محاكمة "قوم لوط الجدد" في ما صدر عن تلك المنظمات من بيانات وتقارير وحملات إعلامية للتنديد بتلك المحاكمة وب"القيود والتضييقات" التي أشاعت أن المجتمع والدولة في مصر يضعونها على تمتع الإنسان المصري بحقوقه الأساسية بما فيها "حق" المثلية الجنسية. ووضح ذلك أكثر في الأزمة التي نشبت بين بعض منظمات حقوق الإنسان المصرية وبين المنظمات الدولية المماثلة ومؤسسات التمويل التي تغذيها حول مطالبة الأخيرة للمنظمات المصرية باتخاذ موقف علني مؤيد لما تسميه "حقوق قوم لوط الجدد" الإنسانية، ورفض معظم قادة المنظمات المصرية السقوط في تلك الهاوية. من ناحية أخرى يبدو واضحاً على الصعيد الواقعي العملي أن الجماعات المثلية في المجتمعات الغربية أضحت واحدة من أبرز القوى الاجتماعية السياسية ذات الوزن المتزايد في التأثير على صنع السياسات الداخلية والخارجية في تلك المجتمعات، وتكفي في هذا المجال التذكير بدورها في الانتخابات الرئاسية الأميركية وبخاصة انتخاب الرئيس السابق بيل كلينتون. ولا شك أن التوافق بين توجهات تلك الجماعات ومعظم الحكومات الغربية في ما يخص الترويج لمفاهيم وممارسات إلغاء كل التمييزات البشرية "الطبيعية" والحضارية والجغرافية في مجتمعات الحضارات الأخرى وإحلال النموذج الغربي محلها، دعم السياسات الخارجية لتلك الحكومات في ما يتعلق بهذه القضايا. وفي ما يخص الحالة المصرية، يبدو ذلك التأثير حاسماً في المذكرة التي وقّع عليها خمسة وثلاثون من أعضاء الكونغرس لمطالبة الحكومة المصرية بالتراجع عن محاكمة "قوم لوط الجدد" والتلويح بقطع المعونة الأميركية عن مصر إذا رفضت حكومتها الاستجابة لهذا المطلب. وتتضح قوة تلك الجماعات المثلية عند تذكر أن التلويح بقطع المعونة الأميركية عن مصر من جانب أعضاء الكونغرس كان يطرح فقط في مواقف التوتر الشديدة في علاقات البلدين، والتي كان معظمها ذا صلة بالصراع العربي الإسرائيلي، وبعضها القليل متعلقاً بأزمات ذات علاقة بمواضيع الأقباط المصريين، وبعضها الأقل مرتبطاً بموضوع الديموقراطية، وبخاصة إذا مست مصالح أو ممثلين لمصالح أميركية في مصر كما هو الحال في قضية الدكتور سعدالدين إبراهيم. تقليد الغالب وكما سبق القول فقد ترافق ذلك الهجوم الغربي العولمي للتفكيك والإحلال مع الاتجاه نحو "تقليد الغالب"، أي الغرب، من جانب "المغلوب"، أي الحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يبدو واضح التأثير في قضية "قوم لوط الجدد" في مصر. فتأمل الخصائص الاجتماعية والثقافية لعدد كبير من المتهمين في تلك القضية وما هو معلن عن مسارات حيواتهم يشير إلى دخول غالبيتهم إلى ذلك العالم المرفوض والمحرم دينياً واجتماعياً وثقافياً في مصر كبلد عربي إسلامي، من بوابة الاقتناع الذهني وليس الحاجة الغريزية التي دفعت بهم إلى ذلك الشذوذ عن الطبيعة البشرية السوية. وتتأكد تلك النتيجة عند تأمل ما نشره بعض هؤلاء وتحليله من رسائل ومواضيع عن أنفسهم وأصدقائهم في مواقع المنظمات والجمعيات المثلية خلال الستة شهور الأخيرة على شبكة "الإنترنت". والحقيقة أن التفرقة بين الاقتناع الذهني والحاجة الغريزية في الدفع نحو الشذوذ الجنسي تعد مهمة للغاية، إذ أنها تحدد بدقة الفوارق بين التأثر بالعولمة الغربية و"تقليد الغالب" في ذلك التوجه، وبين الاضطرار المرفوض بكل المعاني الدينية والأخلاقية له تحت وطأة عوامل اجتماعية واقتصادية تحول دون تلبية الحاجة الغريزية بصورتها السوية. فكل المجتمعات البشرية وبخاصة المتخلفة والفقيرة عرفت بدرجات متنوعة ولفترات موقتة ظواهر الشذوذ هذه وكانت غالبيتها الساحقة بسبب صعوبة الحصول على الشروط المادية والاقتصادية الضرورية لممارسة الحاجة الغريزية في صورتها الطبيعية السوية. ويختلف الحال تماماً في المجتمعات الغربية المتقدمة ما بعد الحديثة، حيث يتم التوجه إلى الممارسات المثلية الشاذة بفعل الاقتناع الذهني الناتج في معظم الأحوال عن توافر كل الشروط المادية والاقتصادية الكافية، ليس فقط لإشباع الحاجات الغريزية بصورة طبيعية سوية بل وللبحث بعد ذلك عن خلق حاجات جديدة وصور شاذة غير طبيعية لتلبية كل تلك الحاجات. المثلية والعولمة ويبدو واضحاً أن كلاً من الهجوم الغربي العولمي للتفكيك والإحلال مع الاتجاه نحو "تقليد الغالب" سواء على ذلك الصعيد عموماً أو في ما يخص قضية "قوم لوط الجدد" في مصر، يدفعان نحو إعادة صوغ وتعظيم التوجه نحو المثلية الجنسية لتصبح اقتناعاً ذهنياً ثابتاً وليس مجرد اضطرار موقت لتلبية الحاجات الغريزية البشرية، عند شعوب مختلف الحضارات الأخرى. ولا شك أن الدفع نحو ذلك يمثل جزءاً أصيلاً من العولمة التي هي محاولة لإعادة صوغ المجتمع العالمي كله ليكون على شاكلة المجتمعات الغربية كما هي الآن في مرحلتها ما بعد الحديثة، وإعادة تنظيمه على مختلف المحاور وفقاً للرؤية الليبرالية الرأسمالية الغربية كما هي اليوم في الواقع الغربي وفكره. ونحو تحقيق ذلك الجزء الأصيل من العولمة الغربية تتعدد الوسائل والسبل والمسالك من شبكة "الإنترنت" الى المحطات الفضائية التلفزيونية إلى السياحة ذات الطابع المثلي إلى منظمات المجتمع المدني المثلية وحقوق الإنسان الغربية، وقبل كل ذلك شعارات الليبرالية الرأسمالية الغربية التي تبدو بريئة ومثالية مثل المساواة ورفض التمييز وحقوق الإنسان والأقليات ومؤاخاة البشر وغيرها من شعارات هي في معظمها مقولات حق لا يريد بها الغرب وأصدقاؤه ومقلدوه في بلادنا وحضاراتنا المختلفة المتمايزة سوى الباطل. * كاتب مصري.