من غير المقبول علميًّا اختزال الليبرالية في إطار أو نموذج واحد هو النموذج الرأسمالي السائد في الولاياتالمتحدة ودول الغرب. الليبرالية قدمت ولا زالت تقدم نماذج عديدة مختلفة كانت بمثابة التعبير عن الشعور بالحاجة إلى تصحيح ما وقعت فيه الليبرالية الرأسمالية من أخطاء فادحة على صعيدي المنهج والممارسة.هناك مثلاً نموذج الليبرالية الاشتراكية القائم في الدول الاسكندنافية. وهي تجربة جد مهمة تمكنت المجتمعات الاسكندنافية بفضلها، من وضع حلول للكثير من المشكلات التي ظهرت في الغرب كالاحتكار، واستنزاف طاقات الفرد، وسيطرة الحس الاستهلاكي على المجتمع، وسوء توزيع الثروة الذي تسبب في تعميق الفجوة بين الطبقات. وفي العالم الثالث قدمت الهند نموذجًا لليبرالية المتصالحة مع إرثها الحضاري الذي يعود إلى آلاف السنين. وقد كان المهاتما غاندي الذي يعد أحد أبرز الرموز الفكرية التي أعادت إلى النزعة الروحية اعتبارها، هو مؤسس هذا التيار الذي جمع باقتدار بين كل من العمق الروحي، ونزعة الاستقلال، والحداثة بكل متطلباتها. وفي العقد الأخير ظهر حزب العدالة والتنمية في تركيا ليقدم نموذجًا جديدًا لليبرالية، يمكن أن نطلق عليها: الليبرالية الإسلامية. وهو النموذج الذي حل إشكالية القطيعة بين الإسلام كمنظومة قيمية وحياتية شاملة، وبين الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان التي تنطلق من المبدأ القائل بأن الإنسان هو مركز الكون، وبأن حرية الفرد هي حق مقدس لا يمكن الاعتداء عليه، استنادا إلى أية مبررات أيديولوجية.النموذج التركي أعاد البلاد إلى محيطها الإسلامي، وعزز الشعور بالهوية، واستلهم القيم الإسلامية، واستطاع أن يخرج بقراءة جديدة للإسلام تمكن على إثرها من استيعاب الليبرالية كفلسفة وممارسة. ولعل هذا ما يفسر القفزة النوعية التي حققتها الديمقراطية التركية بقيادة هذا الحزب الذي نجح في إدخال تعديلات دستورية تحتوي على العديد من الضمانات اللازمة لتعزيز الديمقراطية ولصيانة نهجها. هذه المؤشرات جميعًا تدل على أن النسخة الغربية لليبرالية، أو بمعنى آخر الليبرالية الرأسمالية، تمر بأزمة حقيقية أفقدتها مصداقيتها خصوصًا فيما يتعلق بنهجها الاستعماري في الخارج، وبنزعتها الاستهلاكية القائمة على الاستغلال والاحتكار، وسوء توزيع الثروة، وعدم تكافؤ الفرص في الداخل. لقد ولّى زمن الانبهار بالغرب، وانتهى بريق الليبرالية الرأسمالية في كل مكان ما عدا عندنا نحن!