ثماني ساعات هي المدة التي قضاها رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون في أنقرة كانت كافية ليترك لدى المسؤولين الاتراك انطباعاً مختلفاً عما كانوا يعرفونه عنه. فعلى رغم كل ما يقال عن جرائمه وأسلوبه الوحشي في التعامل وعناده، إلا ان مضيفيه الأتراك لم يتوقعوا ابداً ان تصل وقاحته الى تخطي كل حدود الديبلوماسية وتوجيه رسائل التهديد لتركيا علناً، في مؤتمر صحافي عقد داخل مبنى رئاسة الوزراء. بل ان شارون الذي يعلم ان الاتراك ما زالوا يفاخرون بالحكم العثماني الاسلامي الذي احتضن مدينة القدس قرابة خمسة قرون، لم يتردد في ان يقول في وجه رئيس الوزراء التركي بولند اجاويد بأن القدس مدينة يهودية منذ 2000 سنة، ورفض استخدام اسم الحرم الشريف وأصرّ على كلمة "المعبد اليهودي" منكراً امام 65 مليون تركي مسلم قدسية الحرم لدى المسلمين او حقهم فيه. وإن حاول الوفد التركي ان يلتزم حدود الديبلوماسية امام تجاوزات شارون التي ما كادت تنتهي، إلا ان ذلك لم يمنع ان يتحول ذلك المؤتمر الصحافي الى ساحة سجال بين اجاويد وشارون ليعقب كل منهما على كلام الآخر مشيراً الى رفضه له. ولعل اكثر ما اثار شارون دفاع اجاويد عن الرئيس ياسر عرفات اذ رفض اتهام شارون له بالوقوف وراء ما يحدث من اعمال يقول شارون انها ارهابية. هذا الخلاف في الرأي الذي تفجر خلال المؤتمر الصحافي، مهّد له اجاويد عندما بدأ حديثه قائلاً: "ان هدف تركيا واسرائيل واحد وهو السلام، لكن هناك خلافاً بيننا في الأساليب الواجب اتباعها من اجل تحقيقه". فبينما اعلن اجاويد بوضوح موقف تركيا الداعي الى بدء محادثات السلام فوراً ورفع الحصار عن المناطق الفلسطينية، وأضاف عليها الرئيس احمد نجدت سزار بقوله: "ان استدعاء قوة حفظ سلام دولية سيساعد على تهدئة الاوضاع في المنطقة" وجد شارون نفسه وجهاً لوجه مع المطالب الفلسطينية ذاتها ولكن على لسان الأتراك، وكان ردّه عنيفاً، فرفض كل تلك المقترحات وكرر ما قاله سابقاً ان "لا عودة الى المفاوضات قبل وقوف الانتفاضة نهائياً"، وهو ما اعتبره اجاويد امراً غير واقعي. المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم وزير الخارجية اسماعيل جم الذي ذهب الى القاهرة قبل اسبوع من زيارة شارون ليجس نبض الشارع العربي تجاه العلاقات التركية - الاسرائيلية، ادرك بوضوح مدى الحرج الذي وقعت فيه أنقرة وهي تستعد لاستقبال شارون في وقت تشهد فيه الأراضي الفلسطينية حمامات دم ويسقط شهداء بالعشرات. وكأن تركيا تقول للعالم انه ما زال لشارون اصدقاء يلجأ إليهم في الشرق الأوسط، على رغم كل افعاله تلك، الأمر الذي دعا بعض الأوساط العربية باتهام تركيا على انها شريك شارون في جرائمه، خصوصاً مع تزايد التعاون العسكري بين البلدين. واعتقد جم للحظات انه ربما امكن لأنقرة استغلال علاقاتها "الطيبة" مع تل أبيب من اجل تخفيف دائرة العنف او الخروج بموقف اسرائيلي اكثر مرونة من اجل قبول تنفيذ فعلي لاتفاق وقف اطلاق النار وذلك من خلال تجديد الدعوة الى شارون عقد قمة ثلاثية اسرائيلية - فلسطينية - تركية في أنقرة تتخذ من "تقرير ميتشيل" ارضية لها. لكن شارون رفض ذلك ايضاً، وفاجأ أنقرة بعقلية جديدة تشير الى احتمال استخدام اسرائيل علاقاتها تلك "الطيبة" مع أنقرة في شكل مختلف لم يفكر فيه الاتراك من قبل، وذلك عندما اعلن انه يؤمن بضرورة تبادل المصالح والتعاون المتبادل بين الأصدقاء كأساس لتلك العلاقة. وأضاف على ذلك جملة استفزازية قائلاً: "ان لدى تركيا بعض المشكلات التي يمكن ان نسهم في حلها لو طلب منا ذلك، ولكننا نتوقع في المقابل ان تساعدنا أنقرة في استعادة الهدوء والأمن الى المنطقة". ويقصد ممارسة الضغوط على عرفات لوقف الانتفاضة ويربط ذلك كشرط اولي لمساعدة تركيا في حل مشكلاتها السياسية والمالية من خلال اللوبي اليهودي في الكونغرس الأميركي. أي ان التعاون العسكري والأمني بين أنقرة وتل أبيب قد لا يكون كافياً بعد الآن لحث اسرائيل اللوبي اليهودي في الكونغرس الأميركي على مساعدة تركيا والوقوف الى جانبها ضد اللوبي اليوناني والأرمني هناك، وإنما اصبح مطلوباً من أنقرة اضافة الى ذلك ان تكون امتداد سياسياً او ظلاً لسياسات شارون في المنطقة، وهذا ما لم يخطر ببال أنقرة ابداً عندما اعلنت عن بداية تعاون واسع مع تل أبيب عام 1996. في المقابل، لا شك في ان تل أبيب، بل وحتى بعض الأوساط الداخلية التركية، فوجئت بهذا الموقف السياسي التركي الذي أعلنه اجاويد وذلك على رغم كل المحاولات الاسرائيلية لتوطيد العلاقات بين تركيا واسرائيل، ولإقناع المسؤولين الأتراك ان مصير البلدين ومصالحهما واحدة، وأن كل دولة منهما هي الصديق الوحيد للأخرى في الشرق الأوسط. ولعل هذا الخلاف الذي بدا واضحاً في وجهتي النظر الاسرائيلية والتركية حول الاوضاع في الاراضي الفلسطينية المحتلة ومستقبل عملية السلام، كان السبب في زخم الزيارات الاسرائيلية الى أنقرة خلال العام الجاري التي بدأها وزير الخارجية شمعون بيريز وتبعه وزير الدفاع بن أليعيزر وتبعه ايضاً قائد الاركان شاوول موفاز، وليس تعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين كما كان يروّج الجانب الاسرائيلي مستنداً بذلك على المناورات العسكرية البحرية والجوية التي اجراها مع القوات التركية خلال الصيف الجاري، علماً ان تلك المناورات أعد لها وتم الاتفاق عليها منذ زمن طويل يعود الى شتاء العام الماضي. ذلك ان اسرائيل ظنت انه من خلال تلويحها للجيش التركي بقدرتها على اقناع واشنطن للموافقة على مشروع تصنيع صاروخ آروII الاسرائيلي - الأميركي المضاد للصواريخ في تركيا ونقل اسراره التكنولوجية اليها، وهو الأمر الذي كان يسعى من اجله العسكر في تركيا منذ زمن، ظنت اسرائيل ان المؤسسة العسكرية قد تضغط على الحكومة التركية لمسايرة اسرائيل سياسياً. لكن الحسابات الاسرائيلية اخطأت، ذلك ان القيادة الجديدة للجيش التركي عملت على تصفية ما يمكن ان يسمى باللوبي اليهودي داخل الجيش وأحالتهم على التقاعد وعلى رأسهم الجنرال شفيق بير مهندس التعاون العسكري التركي - الاسرائيلي، وذلك بعد ان اكتشفت بعض التجاوزات في عمليات المناقصات الممنوحة لاسرائيل ومبالغة تلك في اسعارها. ولكن طالما امتنعت اوروبا عن بيع تركيا اسلحة بحجة ملف حقوق الانسان في تركيا، وطالما امتنعت اميركا ايضاً عن مشاركة تركيا بعض المعلومات التكنولوجية للأسلحة التي تريد بيعها اياها، وطالما ان تركيا عضو في "الاطلسي" ولا تستطيع شراء اسلحة من الصين أو روسيا أو كوريا الشمالية، فإن اسرائيل ستبقى الخيار الوحيد والأمثل كمصدر للأسلحة والتكنولوجيا الحزبية لتركيا، ولكن مع فارق اختلاف المعاملة اثناء عقد الصفقات بين أنقرة وتل أبيب حالياً عما كانت عليه قبل أربع سنوات، ومثال ذلك السجال الطويل الذي شهدته صفقة تحديث دبابات ام60 التركية التي كسبتها اسرائيل، ولكن بعد مناقشات طويلة أدت الى اجبار الجانب الاسرائيلي تقديم تنزيلات وتسهيلات مالية لتركيا من اجل اتمام الصفقة، ما يعني ان قرار منح اسرائيل تلك الصفقة كان قراراً عسكرياً وتجارياً وليس سياسياً. ناهيك عن إلغاء القيادة العسكرية الحالية بعض الصفقات العسكرية مع اسرائيل مثل شراء قمر اصطناعي لأغراض التجسس والبحث عن بديل أرخص. ولعل ما جعل ايضاً العلاقات الاسرائيلية - التركية تسير في منحى جديد يستدعي من تل أبيب بذل جهد اضافي من اجل العودة به الى حاله السابقة، هو التحسن الذي طرأ على العلاقات التركية - العربية خلال العامين الماضيين، والتحسن الذي طرأ ايضاً على علاقات أنقرةبطهران. إذ لا شك في ان احدى اقوى الحجج التي كانت في يد اللوبي الذي دفع بتركيا الى انشاء علاقات خاصة ومميزة مع تل أبيب عام 1996، كانت سوء علاقات تركيا بجيرانها في الجنوب والشرق، وذلك اعتماداً على تقارير المخابرات التي كانت تؤكد دعم تلك الدول لحزب العمال الكردستاني لوجستياً ما جعلها - اي دول جوار تركيا - وبطريق غير مباشر مصدراً للخطر على الأمن القومي التركي. ولكن الآن ومع هذا التعاون الواسع في كل المجالات بين سورية وتركيا الذي يتضمن ايضاً توقيع اتفاق تعاون في مجال التدريب العسكري المشترك، ومع تبادل الزيارات على مستوى الوزراء بين طهرانوأنقرة وزيادة التعاون التجاري بينهما، والانفتاح التركي اقتصادياً على العراق، بدأت نظرة القلق التركية تتبدد تدريجاً ازاء هذه الدول، لتحل محلها نظرة الى تعاون واسع على كل الأصعدة، وخصوصاً التعاون الأمني بحيث تتضمن أنقرة حماية حدودها الجنوبية، وقطع الدعم الخارجي للنشاطات الكردية الانفصالية او الجماعات الراديكالية الدينية، وهي النشاطات التي تتصدر قائمة التهديد الداخلي التي أعدها مجلس الأمن القومي التركي. والآن، ومع زيادة التعاون العربي - التركي في مجال الحفاظ على الأمن وتعزيز التعاون الاقتصادي، فإن كل المؤسسات السياسية والعسكرية التركية تشهد نقاشاً جدياً حول مستقبل علاقات أنقرة بتل أبيب، خصوصاً مع تضاؤل فرص تحقيق السلام في الشرق الأوسط بسبب سياسات شارون التصعيدية، وهو ما عبّر عنه ايضاً رئيس الوزراء التركي اجاويد عندما قال لشارون انه كلما تضاءلت فرص السلام كلما اصبحت العلاقات التركية - الاسرائيلية في موقف حرج في المنطقة. ولا شك في ان المعطيات المذكورة تقوض ما بيد اللوبي الذي يدافع عن تطوير علاقات تركيا مع اسرائيل داخل المؤسسات السياسية والعسكرية التركية، وتفسح في المجال اكثر لفرض الرأي الآخر الذي ينادي بممارسة سياسة اكثر اتزاناً. وإنه من الخطأ الظن بأن تركيا تسعى الى قطع علاقاتها مع اسرائيل او اتخاذ خطوات راديكالية في علاقاتها معها على خلفية ما حصل من تحسن في علاقاتها مع العرب، ذلك لأن تل أبيب، وبحسب ما جاء في تهديدات شارون، تستطيع إيذاء أنقرة او على الأقل التأثير سلباً على علاقاتها بواشنطن. وشهدت تركيا مثالاً على ذلك الشتاء الماضي، إذ على اثر تصويت تركيا مع قرار الأممالمتحدة الذي دان اسرائيل لاستخدامها العنف الزائد ضد الفلسطينيين في كانون الاول ديسمبر الماضي، اثار اللوبي اليهودي مسألة مذابح الأرمن وسلّم القضية للوبي الأرمني في الكونغرس ورفض بعد ذلك الوقوف الى جانب تركيا حتى تدخّل الرئيس الأميركي بيل كلينتون ونجح في اللحظة الأخيرة في تأجيل تصويت الكونغرس على مشروع اعتراف بمذابح الأرمن، وهو الملف الذي قد يثار في أي وقت مجدداً. ناهيك عن ان تركيا ترى في اسرائيل بوابة للوصول الى المؤسسات المالية الدولية التي تقرضها المال لانقاذها من ازمتها الاقتصادية الراهنة. وبناء عليه، فإن الدول العربية قادرة على التأثير في علاقات تركيا مع اسرائيل اذا نزعت عن هذه العلاقة ثوب العاطفة وتناولتها من زاوية المصالح السياسية. ولا شك في ان الوقت الآن، وفي ظل هذا الخلاف السياسي الواضح بين أنقرة وتل أبيب، على الأقل في ما يخص مستقبل عملية السلام، مناسب لخطوات عملية اكبر على طريق تدعيم التعاون العربي - التركي باستغلال هذه الفرصة وذلك من خلال ممارسة سياسة استيعاب لحاجات تركيا الاقتصادية.