وضعت الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، والتفاعلات الكبرى التي أحدثتها داخل "المجتمع الاسرائيلي" الخريطة الحزبية الإسرائيلية أمام وضع صعب ترتب عليه أن تحسم خياراتها من جهة، وأن تؤكد توجهاتها البرنامجية ان كان لصالح استمرار عملية التسوية وفق صيغتها الراهنة كما هي حال حزب العمل بتكوينه الجامع بين "الحمائم والصقور"، أو ان كان لصالح الموقف الآخر الداعي للتراجع عن عملية "مدريد - اوسلو" كما هي حال أحزاب اليمين بشقيه العلماني والتوراتي. ويبدو حال الأحزاب والقوى المحسوبة على "اليسار الصهيوني" أكثر تعقيداً نظراً لاتساع الطيف السياسي للقوى المنضوية تحت جناح "اليسار الصهيوني" من جهة، ولحال التخبط التي تعيشها من جهة ثانية، فهي قوى كادت ان تفقد هويتها البرنامجية والسياسية في خضم عملية التسوية الجارية منذ عقد من الزمن، وتفاقمت أزماتها مع اندلاع انتفاضة الأقصى الى درجة ان تماهت كتل رئيسية منها مع الكثير من مواقف زعيم الليكود آرييل شارون في حربه الأخيرة ضد الشعب الفلسطيني، كما جاء هذا في تأييد زعيم كتلة ميريتس عضو الكنيست يوسي ساريد لعمليات تصفية واغتيال نشطاء وكوادر الانتفاضة الفلسطينية. وفي الجانب المتعلق بمفهوم "اليسار الاسرائيلي" فإن العبارة إياها أصبحت "مطاطة" "تضمر وتتسع" تبعاً للتحولات والتقلبات التي جرت وتجري داخل المجتمع الاسرائيلي بتكوينه اليهودي والعربي على أرض فلسطينالمحتلة عام 1948. فاليسار الاسرائيلي يتشكل من طيف عريض من القوى التي تضم ما يسمى أحزاب "اليسار الصهيوني" من حمائم حزب العمل بقيادة الثنائي: يوسي بيلين وحاييم رامون، وينتهي بحركة السلام الآن، مروراً بكتلة أحزاب ميريتس الثلاثة شينوي، راتس، مبَام وهي تمثل بمجملها "اليسار الصهيوني"، فضلاً عن الأحزاب العربية الخمسة. حزب مختلط يهودي عربي "راكاح"، وأربعة أحزاب عربية صافية، التي تشكل مع الأحزاب السابقة المجموع الكلي لما يسمى عند المتابعين للشأن السياسي الإسرائيلي بأحزاب "اليسار الاسرائيلي". وعلى هذا، فإن التحولات التي جرت وتجري في المنطقة منذ بدء عملية التسوية عام 1991، أدت الى تغيير متواصل في ترتيب نسق الاصطفافات والائتلافات الحزبية الإسرائيلية أكثر من مرة على امتداد العقد الأخير من القرن الماضي وحتى انتخابات شباط فبراير الأخيرة وصعود شارون الى رئاسة الحكومة. وبالتوازي تغيرت مواقع "اليسار الصهيوني" المحسوب كجزء من "اليسار الاسرائيلي" بشقيه العربي واليهودي، وتأرجحت الاصطفافات حتى على مستوى الأفراد أصحاب الحضور السياسي المعروفين بالتقلب السريع والتجوال من حزب الى آخر الى درجة اعتبره البعض بمثابة سياحة سياسية بين الأحزاب. وكل هذه الاصطفافات لا يمكن النظر اليها إلا في اعتبارها نتاجاً للتحول والحراك داخل التجمع اليهودي على أرض فلسطين 1948 على خلفية الكفاح الفلسطيني وعملية تسوية مأزومة لا آفاق لها في ظل صيغتها الراهنة. إجمالاً، لا يمكن التعويل على دور نافذ أو مؤثر لما يسمى قوى "اليسار الاسرائيلي" تجاه القيام بأي دور ايجابي على صعيد اعادة النظر بصيغة العملية السياسية التسووية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي على أسس الشرعية الدولية. فالتباينات كبيرة بين صفوفه تجاه قضايا التسوية ومستقبل الحل مع الطرف الفلسطيني. فبعض هذا اليسار يرفض عودة القدسالشرقية للسيادة العربية الفلسطينية، ويرفض بالمطلق حق اللاجئين بالعودة. وغالبية "اليسار الصهيوني" يتناغم الآن مع شارون في سياسته وانتهاجه أسلوب التصفيات بحق كوادر ونشطاء الانتفاضة، فارتفعت مؤشرات استطلاع وفق صحيفة هآرتس 8/8/2001 الى 64 في المئة داخل التجمع اليهودي الداعية الى استخدام القوة ضد الفلسطينيين، وأفرزت الأرقام في الاستطلاع ذاته 70 في المئة من مؤيدي عمليات الاغتيال باعتبارها وسيلة ناجعة ضد الانتفاضة. وكانت مؤشرات استطلاع السلام اقل ارتفاعاً في الشهر الأول من اندلاع الانتفاضة. ان الدور المستقبلي لما يسمى ب"اليسار الإسرائيلي" بشقيه المكون من أحزاب اليسار الصهيوني والأحزاب المختلطة والعربية بالنسبة لقضايا وعناوين التسوية مع الطرف الفلسطيني، وامكانات الدفع نحو التماثل مع الشرعية الدولية يتوقف على عوامل عدة أبرزها: 1 - الدور المتعاظم للانتفاضة الفلسطينية والتحولات التي أحدثتها وتحدثها من وقائع داخل المجتمع الإسرائيلي بأسره، فاستمرار الانتفاضة ينقل الحركة السياسية الى داخل الكيان الإسرائيلي، ويضع كل الفئات اليهودية أمام أسئلة جديدة أبرزها ان طريق الأمن والسلام لا يمكن ان تفتح دروبه من دون كنس الاستيطان عن كل الأراضي المحتلة عام 1967 والاعتراف العملي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وضرورة النزول الإسرائيلي عند استحقاقات الحل الوسط/ حل الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة. 2 - وقف الانحدار في السياسات الرسمية العربية التي لم ترق أو ترتفع الى مستوى الحدث، وبقيت أسيرة نهج المناشدات وتكتيك الاتكال على ادارات اميركية منحازة. فوقف الانحدار الرسمي في السياسات العربية، واشتقاق مواقف أكثر تماسكاً في دعم الشعب الفلسطيني واستمرار الانتفاضة يعني تلقائياً اغلاق شهية اليمين الإسرائيلي ومعه صقور حزب العمل الذي يكتسح الشارع الاسرائيلي. * كاتب فلسطيني.