يبدو ان الفلسطينيين خسروا الجولة الأولى من معركة الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي وأصبحوا محاصرين دولياً بعدما أظهرت الأحداث وجود خلل بنيوي في الموقفين الفلسطيني والعربي معاً. ثمة ضبابية كثيفة تكتنف سير الانتفاضة حالياً، وتعوّق رؤية اتجاهها وتطورها وقوة زخمها وحتى مستقبلها. فالمعاناة الفلسطينية لا تتعمق فحسب بل لا يبدو في الأفق إمكان استغلال الانتفاضة لتحقيق مكاسب وطموحات وآمال سياسية، كانت ولا تزال المحرك الرئيسي لانفجار الغضب الشعبي، وسقوط اكثر من 500 قتيل فلسطيني، بينهم نحو 100 طفل، وعشرات الآلاف من الجرحى من المدنيين وخسائر اقتصادية تقدر بمئات الملايين من الدولارات الأميركية، إضافة الى تدمير البنية التحتية الفلسطينية وإلحاق الأذى والخراب العنيف بالبيئة والحياة اليومية للمواطنين. الانتفاضة الى أين؟ سؤال يصعب الجواب عليه في ظل تخبط السلطة الوطنية الفلسطينية وتذبذب الموقف الرسمي العربي وشبه الإجماع الدولي على تحميل الفلسطينيين، بطريقة مباشَرة وغير مباشرة، مسؤولية استمرار أعمال "العنف" والتشديد على العامل الأمني على حساب السياسي والإنساني. ماذا يريد الفلسطينيون ان يحققوا بانتفاضتهم؟ إنهاء الاحتلال؟ تجميد بناء المستوطنات؟ ام تحسين شروط مفاوضات السلام مع الإسرائيليين؟ من جهة، تشدد القيادات الأهلية والسياسية الفلسطينية على أن الهدف الاستراتيجي لاندلاع الانتفاضة واستمرارها وتحمل الخسائر والمعاناة فيها هو انهاء الاحتلال وتحرير المواطن وبناء دولة حديثة ديموقراطية. طبعاً، يوجد اختلاف في الرؤية الى الانتفاضة داخل التنظيمات والشرائح الاجتماعية الفلسطينية ودورها وأهدافها المرحلية والطويلة المدى. ولكن يوجد اجماع معين على أن مسار اوسلو لن يؤدي الى تحقيق الحد الأدنى من المصالح الوطنية الفلسطينية والطموحات على أساس القوانين والشرعية الدولية. للأسف، لم تنجح قيادات الانتفاضة في دفع مفهوم انهاء الاحتلال العسكري وتسويقه محلياً أو خارجياً، وزايد بعض فصائل المقاومة على بعض آخر بترديد شعارات استفزازية أرعبت المجتمع الإسرائيلي ورسخت الاعتقاد السائد في معظم أوساطه بأن الفلسطينيين لا يريدون فقط انشاء دولة مصغرة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية بل أيضاً تهديد امن الدولة العبرية القائمة والقضاء عليها. العمليات الانتحارية لم تساعد القضية الفلسطينية في المحافل الدولية والرأي العام العالمي، وأدت الى نتائج عكسية، اذ عززت موقع رئيس الوزراء الإسرائيلي داخلياً وخارجياً، والقوى اليمينية الإسرائيلية المتعطشة لهدر دماء الفلسطينيين وتدمير عملية السلام برمتها، وتهميش اكثر للأطراف المؤيدة لمصالحة تاريخية بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. وعلى رغم الأعمال الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، لن ينجح العنف المضاد ضد المدنيين في تعزيز وجهة النظر الفلسطينية وتقويتها وتفعيلها داخل المجتمع الإسرائيلي أو خارجه. على عكس ذلك، العنف الفلسطيني المضاد ضد المدنيين "يشرعن" استراتيجية الحديد والنار والدم التي تنتهجها الآلة العسكرية الإسرائيلية ويساوي اخلاقياً بين الضحية والجلاد. من الخطأ بمكان التقليل من اهمية العامل الأخلاقي في الصراع الدموي بين قوة استعمارية، تسلطية، وشعب منهك، مرهق، يرزح تحت احتلال عسكري. المقاومة الشعبية الفلسطينية مدعوة اليوم الى مراجعة جذرية ونقدية متأنية لآلياتها المستخدمة في الانتفاضة وخطابها واستراتيجيتها. فهي مدعوة الى استنباط أدوات خلاقة وناجعة وفاعلة في الرد على قوات الاحتلال وعدم الوقوع في الشرك والفخ القاتل الذي تنصبه لها القيادة الإسرائيلية من اجل تصنيفها ظاهرة إرهابية والانقضاض عليها وسحقها. المقاومة الشعبية مدعوة الى إظهار مدى اختلاف منهجها، اخلاقياً وعملياً على الأرض، عن سلوك سلطات الاحتلال وقمعها وهمجيتها. وبمقدار ما تحافظ المقاومة الشعبية على صدقية اخلاقية عالية في صراعها المكلف مع القوة النووية الظالمة، بمقدار ما تثبت شرعية قضيتها في نظر العالم وتفضح دموية المحتل وظلمه. فالصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن يحسمه ميزان القوى العسكري أو قتل المدنيين وإنما محكمة الرأي العام العالمي والشرعية الدولية. ولا يمكن فهم ديمومة آخر ظاهرة استعمارية في العالم واستمرارها إلا من خلال قدرة الدولة العبرية وبراعتها في قلب الحقائق رأساً على عقب امام الرأي العام الخارجي وتصوير نفسها على أنها حمل ديموقراطي وديع يواجه ذئاباً عربية/ إسلامية مفترسة. والسؤال المهم هو: كيف يمكن الفلسطينيين تغيير معادلة الذئب والحمل في محكمة الرأي العام والشرعية الدولية، وليس مساعدة القوة المحتلة على تعليب واجترار مقولة الجزيرة العبرية التقدمية الصغيرة وتسويقها في بحر من العرب والمسلمين الرجعيين! في هذا السياق، طبيعة الآليات التي تستخدمها المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد قوات الاحتلال محورية وأساسية. من جهة أخرى، أعطى تخبط السلطة الوطنية الفلسطينية وضبابية مواقفها وانفصامها عن مجتمعها المبادرة الى القيادة الإسرائيلية وأدى الى اضعاف الموقف الفلسطيني ونشوء ثغرات فيه وفجوات يمكن ان تشكل خطراً ليس فقط على مستقبل الانتفاضة بل أىضاً على متانة الساحة الفلسطينية الداخلية وصمودها امام تحديات معركة التحرير. لم يصارح الرئيس ياسر عرفات شعبه بمقتضيات المرحلة الراهنة الصعبة والخيارات المطروحة والممكنة. صحيح ان الرئيس الفلسطيني يتقن فن المناورة، لكنه يتجاهل عن قصد او غير قصد ضرورة صوغ استراتيجية واضحة المعالم للتعاطي مع المستجدات الجديدة والخطيرة على المسرح الفلسطيني وتداعياتها الإقليمية والدولية. فما هي الاستراتيجية الفلسطينية بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد للسلام العام الماضي وانفجار انتفاضة الأقصى؟ هل تريد السلطة الفلسطينية تحسين طروحات السلام التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية السابقة في كامب ديفيد؟ ام ان الهدف يتعدى ذلك الى تجميد بناء اي مستوطنات اسرائيلية جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ اما استراتيحية انهاء الاحتلال العسكري الطموحة، فلا يبدو انها موجودة أصلاً على رادار الرئيس الفلسطيني وذلك لكونها تتناقض مع ذهنيته وشخصيته وتجربته السياسية الطويلة الأمد. إذا كان هدف السلطة الفلسطينية تحسين مسار اوسلو، فهل يعقل ان تسمح القيادة الوطنية وتبادر بعض كوادرها بعسكرة الانتفاضة والظهور المسلح الكثيف غير المجدي، الذي اعطى مردوداً عكسياً، من حيث تخويف المواطنين الإسرائيليين ونهيهم عن التفكير في تقديم عروض للسلام اكثر عدلاً وإنصافاً للفلسطينيين؟ إذا كان مسار اوسلو هو الخيار فلقد أضرت عسكرة الانتفاضة بالموقف التفاوضي الفلسطيني، ولم تفده أو تعززه إطلاقاً. أما إذا كان الهدف من الانتفاضة، كما يزعم بعض مساعدي الرئيس الفلسطيني، تجميد بناء مستوطنات جديدة، وهو هدف مشروع وجوهري، فهل يعقل ان تتفاوض السلطة الوطنية مع الدولة العبرية، لأكثر من سبع سنوات، وسيف الاستيطان مصلت على أعناق الشعب الفلسطيني في نمو مضطرد؟ هل اكتشفت القيادة الفلسطينية بعد سبع سنوات طوال ان الزحف الاستيطاني يهدد عملية السلام؟ وهل يشكل هذا الهدف المهم والمتواضع في آن معاً قاعدة صلبة لوقف الانتفاضة وامتصاص موجة الغضب والحماسة الشعبية وتفتيتها وغض النظر والترحم على المئات من الضحايا الأبرياء والخسائر الرهيبة في الأموال والأملاك؟ وحتى إذا وافقت الحكومة الإسرائيلية على عدم بناء مستوطنات جديدة، لا يبدو مثل هذا القرار في الأفق، في الوقت الراهن، ماذا يأتي بعد وقف الزحف الاستيطاني والانتفاضة؟ هل لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون مشروع أو خطة سياسية معقولة يمكن ان تشكل إطاراً واقعياً وعقلانياً للخروج من نفق الأزمة ومعاودة التفاوض من جديد؟ لا شك ان السلطة الوطنية الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه، وهي تعرضت وتتعرض لضغوط غربية وعربية شديدة للقبول بالأمر الواقع ووضع حد لحال الغليان في الشارع الفلسطيني، حتى وإن أدى ذلك الى صدام مسلح وحرب اهلية مدمرة. لا أحد يستطيع ان ينكر ذلك. لكن السؤال الذي لم يطرح بوضوح بعد هو التالي: هل اصبح الرئيس الفلسطيني ومطبخه السياسي، في وضعهما وواقعهما الراهن وفي ظل السياقات الإقليمية والدولية غير المواتية، يشكلان عبئاً على الانتفاضة أم العكس هو الصحيح؟ كيف يمكن تغيير مسار الانتفاضة وتفعيل جذورها المدنية - السلمية وتوسيع خريطة الشرائح الاجتماعية التي تحتضنها؟ ما هي الدروس المفيدة التي يمكن استخلاصها من الجولة الأولى من معركة الانتفاضة؟ وهل آن الأوان للمجتمع الأهلي الفلسطيني ان يستلم زمام المبادرة من القيادات العسكرية والسلطة الوطنية معاً ويعيد صوغ وتحديد استراتيجية متكاملة اكثر شمولاً ووضوحاً وطموحاً، تتبنى مفهوم إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفلسفته وتعتمد وترتكز على قاعدة اخلاقية - انسانية لا التباس فيها؟ في هذا الإطار، ان خسارة الفلسطينيين للجولة الأولى من معركة الانتفاضة يمكن ان تشكل بداية حقيقية لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني. * استاذ في العلاقات الدولية والدراسات الشرق الأوسطية في جامعة ساره لورنس في نيويورك.