وقّعت مصر أخيراً على اتفاق الشراكة الأوروبية الذي ينشئ منطقة تجارة حرة بين مصر ودول الاتحاد الأوروبي. وبذلك تصبح الدولة الخامسة، من الدول العربية الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط التي أقامت منطقة تجارة حرة بعد المغرب وتونس والجزائر والأردن. وفي الوقت نفسه فإن هذه الدول هي أيضاً أعضاء في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي دخلت حيز التنفيذ منذ أول كانون الثاني يناير 1998. كذلك دخلت مصر مع الأردن وسورية والعراق في اتفاق ينشئ منطقة تجارة حرة أكثر تقدماً وأكبر طموحاً من تلك التي تغطي كل الدول العربية. فإن اتفاق الدول الأربع يستهدف قيام اتحاد جمركي في ما بينها بعد فترة انتقالية قصيرة. ونلاحظ أيضاً أن مصر عضو في ما يسمى اتفاق الكوميسا، وهو ينشئ منطقة تجارة حرة مع عدد كبير من الدول الأفريقية. وأعلنت دول الكوميسا أخيراً عزمها على تحويل منطقة التجارة الحرة في ما بينها إلى اتحاد جمركي بعد خمس سنوات. دعنا نحدد منذ البداية ما هو المقصود بمنطقة التجارة الحرة وما الفرق بين ذلك والاتحاد الجمركي. أما منطقة التجارة الحرة فهي تعني إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية في ما بين الدول الأعضاء مع احتفاظ كل دولة بسياجها الجمركي وسياستها التجارية الخاصة في مواجهة الدول غير الأعضاء. وقد تكون إزالة الحواجز على التجارة البينية فورية، وقد تخضع لفترة انتقال حسبما تتفق الدول الأعضاء. وقد يكون إلغاء الحواجز تاماً على كل التجارة البينية وقد تلغى تلك الحواجز أو تخفف على بعض السلع مع بقائها على البعض الآخر. ففي حالة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، على سبيل المثال، يتم إلغاء الحواجز الجمركية تدريجاً خلال فترة انتقالية مدتها عشر سنوات مع بقاء تلك الحواجز على مجموعة من السلع مذكورة في قوائم استثنائية. ولكل دولة عضو أن تحدد تلك السلع التي تبقى خاضعة لحواجز جمركية مع ذكرها في القوائم الاستثنائية. أما الاتحاد الجمركي فهو يمثل مرحلة للتكامل الاقتصادي أعلى من منطقة التجارة الحرة، حيث لا يقف الأمر عند إلغاء الحواجز الجمركية وغير الجمركية على التجارة في ما بين الدول الأعضاء، ولكن يضاف إلى ذلك توحيد تلك الحواجز في مواجهة الدول غير الأعضاء. بعبارة أخرى فإن الاتحاد الجمركي يستهدف إدماج كل المناطق الجمركية للدول الأعضاء في منطقة جمركية وحيدة تنتقل فيها السلع بحرية كاملة في ما بين تلك الدول مع خضوع السلع المستوردة من دولة ثالثة لحواجز جمركية واحدة أياً كانت نقطة دخولها إلى بلاد الاتحاد الجمركي. أي أنه يستوي أن تدخل السلعة المستوردة من طريق مصر أو سورية أو الأردن أو العراق في حالة قيام اتحاد جمركي في ما بينها. فهي في كل الأحوال تخضع للضريبة الجمركية والإجراءات نفسها. وتنص اتفاقية الغات على أن السياج الجمركي الخارجي يمثل متوسط الضرائب الجمركية التي كانت موجودة في الدول الأعضاء عند قيام الاتحاد الجمركي في ما بينها. فإذا كانت الضريبة الجمركية على الأواني الخزفية المستوردة هي على سبيل المثال 30 في المئة في مصر و40 في المئة في سورية و70 في المئة في العراق و20 في المئة في الأردن، فإن قيام الاتحاد الجمركي في ما بين الدول الأربع يعني أن تلك الأواني تدخل أي دولة منها تحت رسم واحد مقداره 40 في المئة وهو يمثل متوسط الضرائب الجمركية التي كانت مطبقة على تلك السلعة عند قيام الاتحاد في ما بينها. ويصدق ذلك أيضاً على الحواجز غير الجمركية والإجراءات حيث تتوحد في ما بين الدول الأعضاء. والفكرة في ذلك هي ألا يصبح السياج الجمركي الخارجي أشد مما كان عليه. والآن ما هي دلالة الاتفاق على منطقة تجارة حرة مع أوروبا بالنسبة الى مشاريع التكامل الاقتصادي العربي؟ هل يوجد تعارض بين الاثنين أم أنهما يستطيعان السير معاً يداً بيد من دون أن يكون أحدهما عقبة في طريق الآخر؟ لا أعرف أن أحداً أثار السؤال بهذه الطريقة الصريحة. ومن المؤكد أنه لا توجد في الأدبيات الاقتصادية العربية دراسة عن هذا الموضوع. ولكن يبدو لي من الاقدام من دون تردد على إقامة منطقة تجارة حرة مع أوروبا أن صانع السياسة العربي لا يجد تعارضاً بين الاثنين. بل يجد في مثل هذه الخطوة فائدة مؤكدة. فهي في نظره تفتح أمام الصادرات العربية للدول الأعضاء الباب على مصراعيه في سوق ضخمة مثل سوق الاتحاد الأوروبي. ولا بأس من أن نضيف إلى ذلك أسواق الدول العربية الداخلة في منطقة التجارة العربية. ولا بأس أيضاً من أن نضيف أسواق دول الكوميسا وإذا كان هناك من يريد أن يعمل معنا منطقة تجارة حرة رابعة أو خامسة، فما هو المانع؟ ولسان حالنا في ما يبدو لي هو "مناطق حرة للبيع". وفي زحمة هذه الاتفاقات المتتالية ضاعت الفكرة الأصلية التي كانت تحرك الدول العربية. كانت الفكرة في البداية هي الوحدة الاقتصادية من المحيط الهادر إلى الخليج الثاثر. وكانت ثمرة تلك الفكرة إنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية سنة 1958. وأعقب ذلك قيام السوق العربية المشتركة سنة 1964. ثم تراجعت الفكرة في عقد الستينات تحت مطرقة الانقسام بين الدول العربية الاشتراكية ذات التخطيط المركزي ودول الاقتصاد الحر ذات المشروع الخاص. وجاءت النكسة مع هزيمة 1967 ثم الضربة القاضية على أثر معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل وما أعقبها من قطيعة عربية بين مصر وشقيقاتها. وهذه هي الفترة التي شهدت بروز التجمعات الإقليمية في العالم العربي مثل مجلس التعاون الخليجي في أوائل الثمانينات ثم الاتحاد المغاربي والاتحاد الاقتصادي العربي قرب نهاية الثمانينات. وجاءت الطامة الكبرى مع الغزو العراقي للكويت الذي أحدث شروخات عميقة في الصف العربي. على رغم كل هذه المصائب التي أحاطت بالعمل العربي المشترك ما زال حلم التكامل الاقتصادي يداعب خيال الشعوب العربية وشريحة عريضة من مثقفيها وحكوماتها. وتجلى ذلك في الاتفاقات التي أنشأت منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى سنة 1998 ثم الاتفاق الأكثر تقدماً بين مصر ودول الهلال الخصيب ومحاولات تنشيط مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بتعيين شخصية مصرية لامعة رئيساً له وهو الدكتور أحمد جويلي. أضف إلى ذلك الآمال التي أثارها تعيين شخصية ذات شعبية كبيرة على الصعيد العربي وهو السيد عمرو موسى أميناً عاماً لجامعة الدول العربية. هل نحن جادون في هذه التحركات نحو مزيد من التكامل الاقتصادي العربي؟ أم أننا ما زلنا نسير في مسلسل كلام الليل الذي يمحوه النهار. إذا كنا جادين فإنه ينبغي إعادة النظر في سياسة المناطق الحرة مع دول غير عربية وخصوصاً مع دول متقدمة مثل الاتحاد الأوروبي أو الولاياتالمتحدة الأميركية، وذلك لوجود تعارض حقيقي بين المشروعين كما يتبين مما يأتي: أولاً: إن اتفاق الشراكة الأوروبية في صورته الحالية ينطوي على تمييز ضد السلع العربية لمصلحة السلع الأوروبية. وإليك على سبيل المثال، السوق المصرية مع ملاحظة أن ما يصدق على مصر يصدق على كل الدول العربية العضو في منطقة التجارة الحرة الأوروبية. يقضي اتفاق الشراكة بأن السلع الأوروبية تدخل السوق المصرية من دون أية حواجز جمركية أو غير جمركية وذلك بعد فترة انتقالية قد لا تتجاوز ثلاث سنوات في حالة بعض السلع، وقد تصل إلى تسع أو اثنتي عشرة سنة في سلع أخرى. المهم أنه بعد الفترة الانتقالية ستدخل السلع الأوروبية سوق مصر من دون ضرائب جمركية أو غيرها من الضرائب ذات الأثر المماثل. أما السلع العربية المماثلة فإنها تخضع لضريبة جمركية قد تكون بالغة الارتفاع إذا كانت من السلع الموجودة على القوائم الاستثنائية، وهذه القوائم تحتوي على عدد كبير من السلع. وفي أحسن الفروض فإن السلعة العربية تدخل السوق المصرية على قدم المساواة مع السلعة الأوروبية وذلك حيثما لا تكون على القوائم الاستثنائية. وغني عن البيان أن التكامل الاقتصادي العربي يتطلب عكس ذلك، أي التمييز لمصلحة السلع العربية ضد السلع الأوروبية أو غير العربية. ثانياً: إن اتفاق الشراكة الأوروبية يغلق الباب تماماً أمام انتقال منطقة التجارة الحرة العربية إلى درجة أعلى من درجات التكامل الاقتصادي. فلا يمكن أن تتحول منطقة التجارة الحرة العربية إلى اتحاد جمركي طالما كانت اتفاقية الشراكة نافذة المفعول. السبب في ذلك كما ذكرنا أن الاتحاد الجمركي يتطلب قيام سياج جمركي واحد في مواجهة الدول غير الأعضاء فيه. ومن ثم فإن الاتحاد الجمركي يتطلب تطبيق ضريبة جمركية واحدة على السلع المستوردة أياً كانت نقطة دخولها دول الاتحاد. ولا يتصور أن تدخل السلعة الأوروبية من دون قيود في إحدى دول الاتحاد مع خضوعها لمتوسط الضريبة الجمركية إذا دخلت عبر دولة عربية أخرى. بعبارة أخرى فإن اتفاق الشراكة يعني بالضرورة تجميد صورة التكامل الاقتصادي العربي عند مستوى منطقة التجارة الحرة من دون زيادة. ثالثاً: إن قواعد المنشأ المنصوص عليها في اتفاقات الشراكة ستؤدي إلى التمييز ضد السلعة المستوردة من دولة عربية ليست طرفاً في اتفاق الشراكة لمصلحة السلعة نفسها المستوردة من إسرائيل أو تركيا أو مالطا أو قبرص، باعتبار أن هذه الدول أعضاء في منطقة التجارة الحرة مع أوروبا. تطبيقاً لذلك أفترض أن مادة بتروكيميائية، تدخل في إنتاج البلاستيك، إذا استوردت مصر أو الأردن أو تونس أو المغرب تلك المادة من إسرائيل، جاز لسلعة البلاستيك أن تدخل السوق الأوروبية من دون قيود، إذ أن تلك المواد تعتبر كما لو كانت منتجة في مصر. أما إذا استوردت السلعة نفسها من المملكة العربية السعودية فإن سلعة البلاستيك لا تدخل السوق الأوروبية إلا تحت ضريبة جمركية مرتفعة. وهذه نتيجة طبيعية لأن إسرائيل عضو في منطقة التجارة الحرة الأوروبية في حين أن المملكة العربية السعودية ليست كذلك. ومن شأن ذلك تشجيع استيراد المدخلات من دولة مثل إسرائيل والابتعاد عن استيرادها من دولة عربية ليست عضواً في منظمة التجارة الحرة الأوروبية. بعبارة أخرى فإن قواعد المنشأ تستخدم لتحقيق أغراض سياسية تتمثل في تقوية الروابط التجارية مع دول غير عربية وإضعافها مع دول عربية أخرى. رابعاً: إن السوق الأوروبية مع ضخامتها الفائقة وتنوعها بالمقارنة مع أي سوق عربية ستمارس قوة جاذبة هائلة لربط أسواق الدول العربية الأعضاء في اتفاق الشراكة بعجلة الاقتصاد الأوروبي. وتمارس قوة طاردة للعلاقة في ما بين الدول العربية الأعضاء والدول العربية غير الأعضاء في منطقة التجارة الحرة الأوروبية. ومما يزيد من هذا الاحتمال ما تتمتع به مؤسسات التمويل والائتمان والتسويق الأوروبية من قوة وضخامة بالمقارنة مع المؤسسات العربية المماثلة. ألا يعني كل ذلك أننا أدرنا ظهرنا للتكامل الاقتصادي العربي من الناحية الفعلية مع استمرارنا في التعلق به من الناحية اللفظية. وكنا نقبل ذلك لو أن هذا التوجه يعود بالفائدة على التنمية والتقدم الاقتصادي في الدول العربية التي أصبحت عضواً في منظمة التجارة الحرة الأوروبية. ولكن للأسف أن ما نحصل عليه من فائدة من هذا الطريق محدود للغاية بالقياس مع ما نحصل عليه من طريق عضويتنا في منظمة التجارة العالمية من دون حاجة إلى إنشاء منطقة تجارة حرة. ولكن مناطق التجارة الحرة أصبحت في المرحلة الحالية آخر صيحة وكأنها الدواء لكل داء نعاني منه. والحقيقة غير ذلك كما يتبين في مقال لاحق غداً. غداً: "اتفاقات الشراكة العربية - الاوروبية قليلة المنافع باهظة الكلفة * أستاذ في جامعة القاهرة.