ذكرنا أمس أن ثمة تعارضاً أساسياً بين التكامل الاقتصادي العربي واتفاقات الشراكة العربية - الأوروبية التي عقدتها مصر والمغرب وتونس والأردن. ذلك أن هذه الاتفاقات تنطوي على تمييز ضد السلعة العربية لمصلحة السلعة الأوروبية. وتوصد الباب أمام درجات أعلى من التكامل الاقتصادي العربي. وتحتوي على قواعد منشأ تعطي أولوية للتجارة مع تركيا وإسرائيل من دون التجارة مع دولة عربية أخرى ليست عضواً في منطقة التجارة الحرة مع أوروبا. وأخيراً، فهي تمارس قوة جاذبة هائلة لربط الاقتصاد العربي بعجلة الاقتصاد الأوروبي على حساب التجارة في ما بين الدول العربية. والراجح أن هذا التعارض لم يكن يخطر على بال صانع السياسة العربي. بل إنه فعل ما فعل انطلاقاً من الفائدة التي تعود في نظره على اقتصاد دولته من الدخول في منطقة تجارة حرة مع أوروبا. والراجح أيضاً أن صانع السياسة الأوروبي لا يقصد الإضرار بالعلاقات العربية، بل إن هناك نصاً في اتفاقات الشراكة يقرر حقاً للطرف العربي لكي يدخل في اتفاقات مماثلة مع أطراف غير أوروبية. ولكن المقاصد شيء والنتائج شيء آخر. فإن واقع الأمر ان اتفاقات الشراكة العربية - الأوروبية تعرقل مسيرة التكامل الاقتصادي العربي. أو قل إن مصير التكامل الاقتصادي العربي لا يدخل ضمن حسابات صاحب القرار الأوروبي. وطالما أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي سائرة بأقدام ثابتة نحو أهدافها فإن ما يحدث للتكامل الاقتصادي العربي لا يعنيه في قليل أو كثير. ولا يجوز أن نلومه على ذلك. ومن الواضح أن الهدف الأساسي للاتحاد الأوروبي من اتفاقات الشراكة هو إنشاء فضاء اقتصادي شاسع يغطي كل أوروبا كما يغطي حوض البحر الأبيض المتوسط بحيث تستطيع السلع والخدمات الأوروبية أن تصول وتجول في هذا الفضاء من دون عقبات ويستطيع الاتحاد الأوروبي أن يناطح صنوه الأميركي العملاق. والسؤال هو ماذا نجنيه نحن أبناء الساحل الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط من هذا الفضاء الاقتصادي العربي؟ وإذا كان ثمة فائدة فما هو الثمن الذي ندفعه للحصول عليها؟الجواب عندي أن الفائدة من هذا الترتيب محدودة للغاية على عكس ما يتوهم صاحب القرار العربي. والواقع أننا نستطيع الحصول على معظمها من غير هذا الطريق أي من دون حاجة إلى إنشاء منطقة تجارة حرة مع أوروبا. يضاف إلى ذلك أن كلفة هذا الترتيب باهظة بالنسبة الى الاقتصاد العربي. لاشك أن الميزة الكبرى في نظر المدافعين عن اتفاقات الشراكة تتمثل في حق النفاذ من دون قيود إلى السوق الأوروبية العملاقة. وهذه ميزة يسيل لها لعاب الدول العربية الأعضاء في منطقة التجارة الحرة مع أوروبا. حقيقة الأمر أن هذه الميزة سراب خادع إلى حد كبير. ويتضح ذلك عند التفرقة بين الصادرات الصناعية والصادرات الزراعية العربية نظراً الى الاختلاف الكبير في المعاملة بين هاتين المجموعتين من السلع. ولنبدأ بالصادرات الصناعية. لا شك أن الإغراء الرئيسي الذي يقدمه الاتفاق هو الإعفاء الفوري التام من الرسوم الجمركية التي يطبقها الاتحاد الأوروبي. وهذه هي الحقائق: 1 ان الرسوم الجمركية المطبقة حالياً على واردات الاتحاد الأوروبي من السلع الصناعية شديدة الخفض. وجاء ذلك نتيجة ثماني دورات للمفاوضات التجارية منذ نشأة الغات إلى الوقت الحاضر. ويقدر متوسط الرسوم الجمركية بما يعادل 6 في المئة تقريباً. وهذا هو الحد الأقصى للهامش التفضيلي الذي يعطيه اتفاق الشراكة للدول الأعضاء. 2 ان هذا الهامش التفضيلي معرض للتآكل في دورات المفاوضات المقبلة حيث تتجه الدول المتقدمة إلى مزيد من الخفض ويتكلم البعض عن إلغاء كل الرسوم الجمركية التي تقل عن 5 في المئة وهي ما تسمى رسوم المضايقاتNuisance Tariffs أي الرسوم التي لا تأتي بحصيلة ولا تعطي حماية جمركية للصناعات الوطنية ولكنها فقط من نوع وجع الرأس. نعم توجد بعض التعريفات الجمركية التي تزيد عن هذا المتوسط وهي ما تعرف في لغة الغات بالقمم الجمركية Tariff Peaks ولكنها ستخضع في الدورة التجارية القادمة إلى خفوضات جسيمة. ومعنى ذلك أن هذا الهامش التفضيلي الضئيل سيصبح أكثر ضآلة في المستقبل وقد يختفي تماماً في كثير من السلع. 3 إن عدداً كبيراً من الصادرات الصناعية من الدول العربية إلى أوروبا معفاة فعلاً من الرسوم الجمركية في إطار النظام العام للأفضليات الجمركية الذي يلتزم به الاتحاد الأوروبي. أي أن اتفاقات الشراكة لا تضيف شيئاً على الإطلاق بالنسبة الى هذه السلع. 4 أما القيود الكمية فلم يبق منها شيء في مجال السلع الصناعية، إلا ما يتعلق بالمنسوجات والملابس. وبديهي أن هذا القطاع يمثل أهم الصادرات الصناعية العربية إلى الاتحاد الأوروبي. غير أن هذه القيود ستختفي من هذا القطاع بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي قررها اتفاق المنسوجات والملابس في إطار دورة أوروغواي. وتنتهي تلك الفترة الانتقالية في نهاية كانون الأول ديسمبر 2004 أي بعد ثلاث سنوات ونصف تقريباً. وتستطيع المنسوجات والملابس العربية دخول السوق الأوروبية بعد هذا التاريخ بغير قيود من دون حاجة إلى منطقة تجارة حرة. ويتضح مما تقدم أن المفاوض العربي لم يأخذ في الحسبان المنافع التي تقررها له منظمة التجارة العالمية أو المنافع التي ستعود عليه من دورات المفاوضات التجارية المقبلة. ولو أنه فعل ذلك لوجد نفسه في غير حاجة إلى اتفاقات المشاركة. هذا عن حرية النفاذ في مجال السلع الصناعية. أما في مجال السلع الزراعية، فإن اتفاقات الشراكة لا تقرر مبدأ حرية النفاذ إلى السوق الأوروبية، بل إن الصادرات الزراعية العربية ستبقى خاضعة لقيود شديدة. ومن المعروف أن هذا القطاع على درجة عالية من الحساسية بالنسبة الى الدول الأوروبية وهي تفعل الأفاعيل في سبيل حماية إنتاجها الزراعي بشتى الأساليب الجمركية وغير الجمركية في إطار السياسة الزراعية المشتركة. ولا يثنيها عن هذا الهدف اتفاق الشراكة أو غيره. ومن المعروف أن اتفاق الزراعة في إطار دورة أوروغواي بدأت عملية تحرير هذا القطاع الذي بقي منذ إنشاء الجات بعيداً من دورات المفاوضات التجارية المتعاقبة. وتتلخص عملية التحرير في تحويل كل القيود الكمية إلى رسوم جمركية مع خفضها وخفض دعم الإنتاج الزراعي ودعم الصادرات الزراعية بمقدار الثلث تقريباً. ولكن رغم هذا الخفض بقيت الرسوم الجمركية على واردات الاتحاد الأوروبي من السلع الزراعية بالغة الارتفاع. وكذلك ما زال الإنتاج الزراعي والصادرات الزراعية الأوروبية تتمتع بدعم جسيم. وما زالت تلك القيود والعقبات تواجه الصادرات العربية للسوق الأوروبية على رغم اتفاقات الشراكة. غاية ما هنالك أن اتفاقات الشراكة سمحت للدول العربية الأطراف في منطقة التجارة الحرة بتصدير كميات معينة من السلع الزراعية تحت رسم خاص شديد الخفض أو بإعفاء كلي من تلك الرسوم. وهذه هي الميزة الأساسية التي قررتها اتفاقات الشراكة. ولكن من الأهمية بمكان كبير أن نلاحظ أن الاتحاد الأوروبي ملتزم في إطار منظمة التجارة العالمية أن يسمح باستيراد كميات محددة من السلع الزراعية تحت رسوم جمركية مخفضة أو مع إعفائها كلية من تلك الرسوم. وهذه الكميات المسموح بها في ظل ما يعرف بالحد الأدنى للنفاذ Minimum Access مثبتة في جداول التنازلات الملحقة باتفاق الزراعة. وعلى ذلك فإن الفائدة الصافية التي عادت على الدول العربية من اتفاقات الشراكة تتمثل فقط في الفرق بين الكميات التي تقررت لها تطبيقاً لاتفاق المشاركة والكميات التي يلتزم الاتحاد الأوروبي بتقريرها على كل حال تطبيقاً لمبدأ الحد الأدنى للنفاذ. ومن الصعب معرفة مقدار هذه الميزة الإضافية على افتراض وجودها إذ أن اتفاقات الشراكة لا تشير إلى التزامات الاتحاد الأوروبي في ظل منظمة التجارة العالمية. أما القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الواردات الزراعية لأسباب تتعلق بأمراض النباتات أو لأسباب صحية فهي باقية على حالها في ظل اتفاقات الشراكة وكذلك الحال بالنسبة الى القيود المفروضة لأسباب تتعلق بالإغراق. هذا عن مقدار الفوائد التي تعود على الدول العربية من اتفاقات الشراكة. والآن ماذا عن الكلفة؟ اعتقد أن الكلفة باهظة وتتمثل في ما يلي: أولاً: حرمان الدول العربية بعد فترة انتقالية من الحق في حماية صناعتها الوطنية في مواجهة المنافسة الأوروبية أو إخضاع هذا الحق لقيود شديدة حيث لا تستطيع الدول العربية أن تمارس تلك الحماية إلا في حدود ضيقة للغاية وبصفة موقتة. ومن الصعب أن نعرف كيف تستطيع الصناعة العربية أن تقف على قدميها أمام الصناعة الألمانية أو الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية من دون أي نوع من أنواع الحماية. يقولون إن الاتفاق يفرض على الاتحاد الأوروبي القيام ببرنامج ضخم لتحديث الصناعة العربية. ولكن من غير المعروف ما هو المقصود بهذا التحديث. كذلك فإن المشكلة الأساسية للصناعة العربية ليس في تخلفها من الناحية التكنولوجية ولكن مشكلتها ترجع إلى السياسات الاقتصادية. ثانياً: حرمان الصناعة والزراعة العربية من تقديم أي دعم لصادراتها إلى السوق الأوروبية إذ نجد أن المادة 34 من اتفاق الشراكة مع مصر "تحرم أي مساعدة حكومية من شأنها تشويه أو التهديد بتشويه المنافسة" وأرجح وجود نص مشابه في اتفاقات الشراكة الأخرى. وهذا في الوقت الذي تتمتع الزراعة الأوروبية بدعم جسيم. ثالثاً: تنص اتفاقات الشراكة على أن الأحكام الخاصة بإلغاء الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية تنطبق أيضاً على الرسوم الجمركية ذات الطبيعة المالية. ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا النص من خطورة. فإن الرسوم الجمركية ذات الطابع المالي تحتل مكانة مهمة في إيرادات الخزانة العامة. يتبين مما تقدم أن المزايا التي تجنيها الدول العربية من اتفاقات الشراكة محدودة للغاية كما أن معظم هذه المزايا يمكن الحصول عليه من طريق اتفاقات منظمة التجارة العالمية أو من طريق اتفاقات التعاون التجاري والتبادل التي كانت تحكم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي قبل إنشاء منطقة التجارة الحرة. والفرق بين اتفاقات الشراكة واتفاقات التعاون والتبادل التجاري أن هذه الأخيرة على عكس الأولى تقرر مزايا للأطراف العربية من دون أن تلتزم بفتح أسواقها أمام الصادرات الأوروبية. ومن دون أن تقيد يدها في اختيار أساليب الحماية الجمركية المناسبة أو إعطاء الدعم الذي تراه ضرورياً. أما منطقة التجارة الحرة مع أوروبا فهي تفرض قيوداً صارمة على الأطراف العربية مما يجعلها باهظة الكلفة. والآن ما هو الحل؟ ألا يعتبر هذا التحليل نوعاً من البكاء على اللبن المسكوب؟ ليس تماماً. لا شك أن نقطة البداية تتمثل في سؤال أنفسنا هل نحن جادون في مشاريع التكامل الاقتصادي العربي؟ وهل نريد حقيقة أن نفتح صفحة جديدة تسدل الستار على الماضي وتفتح الطريق أمام كتلة اقتصادية عربية لها وزنها في النظام الاقتصادي العالمي؟ إن إمكاناتنا شاسعة غير أننا فشلنا فشلا ذريعاً في تحويلها إلى حقيقة واقعة. إذا كنا جادين فلا بد من إعطاء أولوية للتكامل الاقتصادي العربي. ومعنى الأولوية هنا هو توفير الموارد اللازمة لقيام المؤسسات العربية بما ينبغي أن تقوم به في هذا المجال. كذلك فإن معناها ألا نقف عند مجرد إنشاء منطقة تجارة حرة عربية ولكن ننتقل تدريجا نحو الاتحاد الجمركي والوحدة الاقتصادية بكل ما يعنيه ذلك من حرية كاملة لانتقال السلع ورؤوس الأموال وإعطاء أولوية للعمالة العربية ولحق ممارسة المهنة. ومعنى الأولوية أيضاً هو الامتناع عن الدخول في مناطق تجارة حرة مع أوروبا أو غيرها. أما الاتفاقات القائمة فعلاً فلا بد بداهة من احترام التزاماتنا إزاءها. غير أن اتفاقات المشاركة تتضمن نصوصاً تسمح بفتح باب المفاوضات بين الحين والحين لإعادة النظر في بعض النصوص في ضوء التجربة العملية. وعلينا أن ننتهز أول فرصة لتضمين اتفاقات المشاركة إعطاء أولوية للتكامل الاقتصادي العربي عند تعارضه مع منطقة التجارة الحرة الأوروبية. كذلك لا بد من تخفيف أو إزالة القيود التي تفرضها على الأطراف العربية في حماية الصناعة الوطنية والحق في الدعم طالما أن الطرف الأوروبي يعطي لنفسه هذا الحق، وإبقاء الرسوم ذات الطبيعة المالية. وأخيراً، فإن اتفاقات المشاركة محدودة بمدة معينة ومن حق أي الطرفين أن يرفض تجديدها. وهذا ما ينبغي أن نفعله خصوصاً إذا نجحنا في فتح صفحة جديدة في مجال التكامل الاقتصادي العربي. * أستاذ في جامعة القاهرة.