امتحن قرار صرف 1180 موظفاً من شركة طيران الشرق الأوسط ميدل ايست الحكومة اللبنانية امتحاناً صعباً. وآذن الرد النقابي عليه ب"امتحانات" متوقعة في محطات لاحقة في إطار عملية الإصلاح والتخصيص. وعلى رغم التصعيد الذي اتخذ منحى سياسياً، ورافق الإعلان عن بدء تنفيذ قرار الصرف، وهدد في أوقات متقاربة بكسر الإجماع على القرار الحكومي، نجحت الحكومة في الاختبار، فاستوعبت الخضة التي احدثها الطرف العمالي، ودعمته فيها جهات حزبية. ففتحت الحكومة الباب امام تسوية ترضي القطاع العمالي وتحفظ مصلحة الشركة من دون تخطي القرار الأساسي، وهو الاستغناء كلياً عن خدمات 1180 مستخدماً وعاملاً. ويوم 10 تموز يوليو الآتي هو اليوم - المفصل. فهو الموعد النهائي للإعلان عن إنجاز الشق الأساس من عملية إصلاح الشركة، ويبدو من جولات التفاوض الجارية برعاية الحكومة، ممثلة بوزير العمل، بين إدارة الشركة ونقابات الموظفين والمضيفين والطيارين ان الاتجاه ايجابي. وسيف إشهار الإفلاس، بحسب أوساط الشركة، لا يزال مصلتاً إذا لم يتم التوصل الى اتفاق قبل 10 تموز. وبعد هذا التاريخ ووفق الأوساط نفسها ستنتقل الشركة الى التفرّغ لتحسين الواردات وتنقية موازنتها وتوسيع التحالف مع شركة "آرفرانس" وتفعيل الشركات المنشأة. واستبعدت هذه الأوساط ان تحظى بشريك استراتيجي قبل سنة من اليوم، نظراً الى الركود الاقتصادي العالمي وطرح شركات طيران اقليمية اخرى للبيع، فضلاً عن الظروف الأمنية والسياسية في لبنان. وصرف الفوائض من الموظفين عنوان أساسي في تطبيق سياسة التخصيص التي قررها لبنان، في إطار مشروع متكامل للإصلاح المالي والاقتصادي. ويستند الإصلاح الى التحرير الاقتصادي، والانفتاح واختصار المعاملات والتدابير الإدارية، وإلى ضريبة القيمة المضافة، والتخصيص وبيع الأصول، وذلك سعياً الى تحفيز النمو وخفض الإنفاق في بعض المؤسسات العامة، وخفض حجم الدين وكلفته واستقطاب التمويل الخارجي. ولكن كيف انتهت "الميدل ايست" الى الحال التي انتهت إليها؟ بعد الخسائر التي بدأت تتكبدها الشركة، منذ 1981، بسبب الحرب وتقلص حركة المسافرين، لم تتمكن بعد توقفها من تصحيح المسار. فوصل مجموع خسائرها في العام 1996 وحده الى 84 مليون دولار. ودخل مصرف لبنان، بطلب من الحكومة ولتعذّر إسهام ممولين في رأس مالها، مساهماً وحيداً فيها. فسدد ديوناً متوجبة عليها بلغت قيمتها 225 مليون دولار، ورفع رأسمالها، وضخ أموالاً قاربت ال500 مليون دولار في خلال 5 سنوات. إلا ان أداء الشركة استمر يتراجع، على رغم خفض الخسائر الى النصف، عام 2000. فعجزت الشركة عن الانطلاق مجدداً. وتقلص دورها، وتراجعت حصتها في السوق من 6،65 في المئة، عام 1992، الى 9،37 في المئة، جراء سياسة الأجواء المفتوحة، وارتفاع عدد شركات الطيران التي تستعمل مطار بيروت من 22 شركة عام 1992، الى 38 شركة عام 2000. وتأثر الأداء كذلك بالركود الاقتصادي الذي يعانيه لبنان منذ خمس سنوات. وأظهر تقلص دور الشركة نتيجة الركود فيض "الكادر" الوظيفي، وهو كان في زمن السلم عبئاً زاده تقدم التوظيف السياسي والطائفي على حساب التوظيف المهني، ثقلاً على ثقل. وتظهر الإحصاءات ان 1554 موظفاً ومستخدماً دخلوا الشركة بين عام 1976 وعام 1998، بينهم 1107 من المسلمين، في مقابل 447 مسيحياً. وفاق عدد الموظفين من الطائفة الشيعية النفص، إذ بلغ 591. وبلغ اجمالي الحائزين شهادات جامعية 223 موظفاً، فيما غنمت فئة التعليم الثانوي 843 موظفاً، وفئة التعليم الابتدائي 321 موظفاً. ونظراً الى انتفاع جهات سياسية من هذا التوظيف، ارتفعت أصوات حزبية وسياسية تعارض قرار صرف الفائض، وزعمت انه من لون واحد. إلا أن الإدارة الحالية التي عيّنها مصرف لبنان تمكّنت الى حد ما، من ضبط التدخلات السياسية والحزبية. وحجبت عن الأقطاب السياسيين اللوائح التي تضمنت اسماء المصروفين والمعايير التي اعتمدتها في ذلك. وأثار أسلوب الصرف حفيظة "حزب الله" وحركة "أمل" على رغم موافقة رئيسها وهو رئيس المجلس النيابي على القرار، لكنها حُشرت في المعركة من باب التنافس والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تجسّد في موقف وزير العمل علي قانصو وجاء غير منسجم مع موقف الحكومة. فأسهم في فشل مهمة اللجنة الوزارية برئاسة رئيس الحكومة رفيق الحريري للنظر في حل مشكلة الفائض منذ اجتماعها الأول حين رفض طريقة الصرف مقترحاً فتح باب الاستقالات ل1200 موظف. والحلّ بالصرف لم تقرّره الشركة منفردة، بل استعانت بمؤسسات متخصصة لدراسة وضعها ووصف العلاج الناجع. فأعدت أربع دراسات أجمعت على ضرورة خفض عدد الموظفين كجزء من حل شامل لإعادة الهيكلة وكان آخرها الدراسة التي كلِّفت وضعها مؤسسة التمويل الدولية في عهد حكومة الرئيس سليم الحص، كلّفت 3،1 مليون دولار، وهي التي اعتمدت للاصلاح. والضجة التي شغلت الأوساط السياسية والاقتصادية والنقابية، بسبب ظلامة لحقت بالموظفين، استغربتها اوساط محايدة. فاعتبرت ان أرقام التعويضات الاستثنائية التي تقرّرت ل1440 موظفاً "سخية جداً"، فضلاً عن التعويض القانوني. وبلغت كلفة هذه التعويضات 100 مليون دولار اميركي، منها 52 مليوناً تعويضات استثنائية و10 ملايين دولار تعويضات ل224 موظفاً فتحت باب الاستقالات امامهم، و36 مليون دولار كلفة التعويضات القانونية. وقد تجاوز هذا المبلغ ما حددته دراسة "IFC" إذ حكمت بتعويض 18 شهراً وليس 36 شهراً. ووفق الجدول الذي وزّعته الشركة فإن اعمار المصروفين تفاوتت بين 60 وما فوق و30 عاماً. لكن أعمار الغالبية بين 45 و60 عاماً. وبلغت قيمة التعويض وفقاً لمعدل الأجر وسنوات الخدمة المتبقية للموظفين المصروفين 242 ألف دولار حداً أقصى، و4500 حداً أدنى. فيما شملت لائحة الموظفين المخيّرين تقديم استقالاتهم 224 موظفاً تفاوتت أعمارهم بين 64 و57 عاماً، ترجّحت تعويضاتهم بين 197 ألف دولار حداً أقصى و5،20 ألفاً حداً أدنى. وعلى رغم سخاء التعويضات، لا يمكن اغفال تحفظ المصروفين نظراً الى الضائقة الاجتماعية التي يعيشها البلد وانعدام فرص العمل، خصوصاً أن عدداً لا بأس به من الموظفين يتفاوت متوسط أعمارهم بين 40 و50 سنة، لا يزالون قادرين على العمل. ولكن لا مكان لهم في السوق ما سيعزّز معدل البطالة التي تلامس سقف 30 في المئة. واستطلعت "الحياة" رأي رئيس مجلس ادارة بنك "بيبلوس" فرانسوا باسيل، والخبير المالي رئيس مجلس ادارة "افنستمنت هاوس" جو عيسى الخوري، في ما حصل في شركة طيران الشرق الأوسط. فاعتبر باسيل ان "ما يحدث في ميدل ايست اصلاح واعادة هيكلة، وليس تخصيصاً كونها شركة خاصة. وكان يفترض بها ألا تخسر لكن تملّكها من القطاع العام فتح الباب أمام زجّ اشخاص عاطلين من العمل من دون أن تحتاج اليهم في زمن الحرب وبعدها، فشكلوا فائضاً وعبئاً على موازنة الشركة لا يمكن أن تستمر في تحمّله وكذلك الدولة". وأكد باسيل ان "الشركة ستستقطب مستثمرين، اذا تمّ خفض عدد الموظفين الى الحاجة اللازمة، وسددت الدولة الخسائر السابقة وتمّت تنقية موازنتها". وأضاف: "لو بيعت بدولار واحد أفضل من أن تتكبَّد الدولة خسائر سنوية". وقال باسيل ان "التعويضات التي قررتها الشركة للموظفين المصروفين سخية جداً. فالتعويضات التي يدفعها مصرف لبنان والخسائر التي تكبّدها طيلة مدة تملّكه الشركة، ولا يزال، تشكل أيضاً عبئاً على الخزينة اللبنانية. فكان يجب تصفيتها قبل سنوات. لكن مصرف لبنان لم يقرّر ذلك لغياب القرار السياسي الذي تأخرت الدولة كثيراً في اتخاذه". وأوضح: "كان يفترض بالدولة أن تتخذ اجراءات التخلي عن ملكيتها منذ العام 1994، لتفادي الخسائر وقطع الطريق أمام توظيف هذا العدد الكبير من الموظفين الذين لا تحتاج اليهم، وهو يشكل العائق امام استقطاب أي مستثمر يرغب في الدخول كشريك". وشدّد باسيل على "ضرورة ألا يحصل اي تدخل سياسي في أي عملية اصلاح وتحديداً في اجراءات الصرف، لأن أي اصلاح لا بد من ان يدفع احد ثمنه". وقال: "لا شك ان هذه الاجراءات سياسية غير شعبية، يجب ان تتخذها الدولة للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة تجنباً للوصول الى الافلاس". واعتبر ان "لبنان هو البلد الأخير بين بدول العالم الثالث حيث تنعدم الثقة في الدولة والادارة". وحمّل "السياسيين مغبّة هذا الوضع، وليس الشعب". وطالبهم بالعمل على الاصلاح و"اتخاذ القرارات اليوم قبل الغد من دون انتظار عشية الانتخابات". وشدّد باسيل على عدم تكرار ما حصل في العامين 1992 و1993 في قضية تعويضات وادي ابو جميل، ويعتقد "ان الدولة قادرة على ان تقرر ذلك". وقال "على الدولة ان تسدد ما يتوجب من تعويضات ولكن ضمن المعقول لأنها ستبقى في السوق اللبنانية. ويجب أن تفعل ذلك اليوم أفضل من الغد. وفي حال استمرت في العملية الاصلاحية الجذرية فإنها ستحصل على اعانات من الخارج بفوائد صفر أو متدنية من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي". وقال عيسى الخوري: "كان يفترض بالحكومة أن تترك لمصرف لبنان حرية التصرّف بالشركة بقرار ذاتي من دون أي تدخل سياسي، كما قرر في عملية بيع مصرف الاعتماد اللبناني الذي تملّكه لسنوات". وأوضح: "بغض النظر عن عملية الصرف في الشركة، والتي لم تحصل في مصرف الاعتماد اللبناني، فإن قرارات الصرف في لبنان تولّد المنافع للتنافس السياسي وفوائد ظاهرها اجتماعي لكن باطنها سياسي". واعتبر ان التعويضات التي سيتقاضاها موظفو "ميدل ايست" "سخية جداً" وتفوق ما حددته دراسة مؤسسة التمويل الدولية. ورأى ان "التذمّر الذي حصل غير مبرر، لكن التدخلات السياسية ادت دوراً في ذلك، ونخشى ان تكون سابقة لحالات اخرى مستقبلاً"، داعياً "الدولة الى الحزم في هذا الموضوع". وعن تكرار تجربة وادي ابو جميل، تخوّف عيسى الخوري من ذلك، لكنه عزا "ما حدث وما قد يحدث الى التدخلات السياسية في شؤون القطاع الخاص، التي تشكل عبئاً كبيراً عليه". وافترض عيسى الخوري أن "تتحوَّل الشركة جاذبة للاستثمار بعد الاجراءات التي تنفذ اليوم، لكن تبقى المرحلة الأخيرة التي تتمثل في تحديد مستقبل هذه الشركة وحجمها ووظيفتها ونطاقها". واقترح ان "تكون شركة تخدم دولاً مجاورة مع ابقاء خطوط اساسية مثل باريس ولندن، على أن يكون هدفها الأساسي اقليمياً". ورأى عيسى الخوري ان "يُختار الشريك الاستراتيجي المقرر ادخاله في الشركة من خارج اوروبا والخليج، والاتجاه الى شركات من الاميركيتين أو استرالية أو آسيوية، على اعتبار ان لهذه الشركات مصلحة استراتيجية في الدخول في شركة اقليمية مقرها بيروت لتنطلق الى دول المنطقة، في حين أن الشركات الأوروبية أو الخليجية قريبة من المنطقة وهي تخدمها في الأساس". وعن تأثير التعويضات في وضعية مصرف لبنان المالية وبالتالي خزينة الدولة، قال عيسى الخوري: "من الخطأ أن يتحمل مصرف لبنان عبء التعويضات كونه مساهماً بالخطأ أيضاً، إذ كان يفترض ان تتملك وزارة المال ادارة الشركة وتحمّل أعبائها". واستغرب عدم استخدام صيغ اخرى لتمويل التعويضات وهي متوافرة عبر مشاريع برامج يخصصها البنك الدولي لعمليات كهذه، بهدف مساعدة الدول على تحسين أدائها وانتاجيتها. وهنا أسأل لماذا لم يتم الاتصال بالبنك الدولي؟". ونصح عيسى الخوري بأن "تباشر الدولة في التحضير للافادة من هذه البرامج لتمويل عمليات اصلاح في مرافق اخرى قيد التخصيص للإفادة من عامل الوقت". وطالب بإعادة احياء المؤسسة العامة للاستخدام لكي تستوعب فيض الموظفين في القطاعات المنوي تخصيصها او اصلاحها، وبالتالي التخفيف من أعباء التعويضات الإضافية".