لو كان هناك عدل في هذه الدنيا لربما قرأنا تحذيراً اعلانياً يقول "الإدارة الأميركية تضر بصحتك"، فهي أكثر خطراً على صحة العالم من التدخين على صحة الفرد. اصبح واضحاً الآن ان ادارة جورج بوش تعاني مرض الحساسية ازاء المعاهدات الدولية، فالاعتراض على معاهدة معقودة صعب، والاعتراض على معاهدتين صعب جداً، أما الاعتراض على ثلاث معاهدات دفعة واحدة فهو يدخلنا في الاستحالة، إذ لا يمكن للعالم كله ان يوافق على شيء، ثم تنفرد الولاياتالمتحدة وحدها برأي مخالف، وتصر على انه الرأي الصحيح. الرئيس بوش العائد الى بلاده لتوه من رحلته الثانية الى أوروبا خلال شهرين، قال: "اعرف ما اعتقد. وأعتقد ان ما اعتقد هو الصواب". وأقل ما في هذا الاعتقاد انه غير ديموقراطي، لأن الغالبية الساحقة ضده. قلت "ثلاث معاهدات"، والواقع ان الولاياتالمتحدة وقفت ضد أربع معاهدات، ولعل هذه السطور لا تنشر حتى تكون اعلنت معارضتها معاهدة دولية خامسة أو سادسة. وتضيق هذه العجالة عن التفصيل، وأعتذر ان ادى الاختصار الى ابتسار الحقائق، ولكن أحاول، وأتحدث تحديداً عن معاهدتين اساسيتين هما معاهدة سنة 1972 لمنع انتشار الصواريخ البالستية، وبروتوكول كيوتو لسنة 1997 الذي يهدف الى خفض حرارة الجو، بالتقليل من الغازات التي تبثها الصناعة في الجو، خصوصاً غاز ثاني أوكسيد الكربون. والى هاتين المعاهدتين هناك معاهدة مقترحة لمنع بيع الأسلحة الصغيرة، واتفاق لتقوية معاهدة 1972 لمقاومة انتاج الأسلحة البيولوجية، وقد عارضتهما الولاياتالمتحدة في شدة، غير انني أبدأ بالمعاهدتين الأهم، أي الصواريخ لسنة 1972 وكيوتو لسنة 1997. يعرف القراء ان الرئيس بوش اعلن من اليوم الأول له في الحكم معارضة بروتوكول كيوتو الذي وقعه سلفه الرئيس كلينتون، مع ان الولاياتالمتحدة مسؤولة وحدها عن 25 في المئة من الغازات المضرة التي تبث في الجو. بل ان الولاياتالمتحدة عارضت اتفاقاً هو في الواقع حل وسط عقدته 178 دولة في بون الأسبوع الماضي، بهدف انقاذ بروتوكول كيوتو. وكانت اليابان تذرعت بالرفض الأميركي لفرض شروطها على الأوروبيين، واستطاع هؤلاء في النهاية الوصول الى اتفاق معقول، ومع ذلك قاطعته الولاياتالمتحدة، وأصرت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس على ان بروتوكول كيوتو يضر بالمصالح الأميركية. ربما كان كذلك، غير ان الادارة الأميركية لم تر ان موقفها يضر بمستقبل العالم كله، ثم لم تر ان اصرارها على الغاء معاهدة 1972 لمنع انتشار الصواريخ البالستية سيدخل العالم من جديد في سباق تسلح خطر لا معنى له بعد سقوط الشيوعية. الرئيس بوش عدّل موقفه قليلاً بعد جولته الأوروبية، واجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهو لم يعد يهدف الى الغاء معاهدة 1972، وانما الى اقناع روسيا بالانسحاب منها مع الولاياتالمتحدة. وتقول مصادر الادارة: إذا رفضت روسيا الانسحاب فستحاول الولاياتالمتحدة الاستعاضة عن ذلك ببيان سياسي يسمح ببناء شبكة الدفاع الصاروخية. أما إذا رفضت روسيا هذه الخطوة أيضاً، فستنسحب الولاياتالمتحدة من المعاهدة في شكل منفرد. هذا الافتراض الأخير ربما كان بعيد المنال، خصوصاً ان قادة الديموقراطيين في الكونغرس قالوا انهم سيؤيدون الرئيس بوش شرط ان يستمر في ضمان تعاون روسيا. ويبدو ان الرئيس الأميركي يعتقد، انه حصل على هذا التعاون بعد اجتماعه مع الرئيس الروسي، غير انني أصرّ اليوم على ان الروس لم يوافقوا، وسيعارضون الموقف الأميركي باستمرار. مرة أخرى، لو كان الموقف الأميركي ضد معاهدة واحدة لما ثارت تساؤلات، لكن الأميركيين عارضوا معاهدات عدة، ثم تبين انهم يعارضون حلاً وسطاً من نوع اتفاق بون الذي ايدته 178 دولة، وهو يفرض على 38 دولة صناعية مسؤولة عن بث نصف الغازات في الجو ان تخفض ما تبث بنسبة النصف مع حلول العام 2012. كان هذا في بون، ثم كالت الولاياتالمتحدة ضربة في جنيف لمعاهدة أخرى هي حظر الأسلحة البيولوجية لسنة 1972. هذه المعاهدة ابرمتها 143 دولة بينها الولاياتالمتحدة نفسها، ولكن لم تتضمن آلية لمراقبة التنفيذ، فكان ان اجتمع خبراء على مدى ست سنوات لوضع آلية للمراقبة. ووافقت الدول الأوروبية وروسيا والصين وايران على مسودة الاتفاق المقترح، وعارضت الولاياتالمتحدة بحجة ان الاقتراحات غير قابلة للتنفيذ وتشكل خطراً على أمن الولاياتالمتحدة. الإدارة الأميركية تقود الحملة على العراق لمراقبة أسلحته، ثم ترفض ان يراقبها احد، وهو وضع لا يحتاج مني الى أي تعليق اضافي. وفي حين ان المعاهدات السابقة كلها مهم للعالم اجمع، فإن أوقح موقف أميركي كان معارضة الحد من انتشار الأسلحة الصغيرة لما تسببه من دمار في البلدان الفقيرة حيث الانقلابات والمليشيات المسلحة. وقال الأميركيون ان التعديل الثاني من الدستور الأميركي يضمن للمواطنين حق حمل السلاح، وان هذا الحق جزء من المجتمع الأميركي. كيف يمكن العالم ان يثق ببلد، يقدم مصالحه الضيقة على المصلحة العامة، ويقف ضد الغالبية، وهو يدّعي الديموقراطية ويحاول فرضها على الآخرين؟ ثم كيف نثق ببلد يرفض المعاهدات، بل يتنصل من معاهدات ابرمها أو أقرها؟ بعد ستة أشهر في البيت الأبيض يبدو ان الرئيس بوش لم يفهم بعد ان اتفاقاً سيئاً موجوداً أفضل من اتفاق مثالي غير موجود ولن يوجد.