استعرضنا في المقالين السابقين أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية والظلم السائد في هذه الأيام، وعلى الأخص على الدول العربية والإسلامية وكذلك على دول العالم الثالث وخلصنا بالقول إلى أن أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية هو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وأن عاقبة الظلم عند الله هي التقتير في الرزق، وقلنا في السابق إن فضل الإسلام والمسلمين على أوربا هو الذي أوصل أوربا والعالم الغربي بأجمعه إلى ما وصل إليه الآن من تقديم ورقي وحضارة. وربما شخص يتساءل ويقول: كيف تم ذلك وأوربا لم ينتشر فيها الإسلام ولم تكن أوربا في يوم من الأيام مسلمة؟؟ وأنا أقول له إن أوربا في العصور الوسطى كانت في ظلام دامس وجهل عميق وكان معظم شعوبها لا يفقهون من العلم والحضارة إلا النذر اليسير. وفي خلال الفترة من القرن الخامس وحتى القرن التاسع زادت المخاطر وزاد النهب والسلب نظرا لضعف الحكومات آنذاك، الأمر الذي اضطر الفلاحين في القرى والإقطاعيات إلى الالتجاء إلى النبلاء من أجل حمايتهم، وهنا نرى شكلا جديدا قد ظهر للملكية الإقطاعية وهو شكل الضيعة، إذ نجد أن الفلاحين قد فقدوا حريتهم وأصبحوا بمثابة العبيد يعملون في الضيعة ويقومون بزراعة الأراضي التي في قراهم، إضافة إلى عملهم في أرض السيد صاحب الضيعة.أما مناطق جنوبفرنسا فكان فيها عدد الغزاة قليلا، لذا نرى الملكيات المفككة والصغيرة، وكان يقوم بزراعتها أصحابها من السكان وبتحليل إمبراطورية شارلمان أصبح أسياد الضيعة هم أنفسهم الرؤساء السياسيين، وبذلك نجد أن نظام استغلال الأراضي الزراعية أصبح يدار بواسطة العبيد بدلا من الأجراء، ولهذا أخذ نظام العبودية يسود في أوربا. كما أننا لا نجد نظاما صناعيا ولا تجاريا، إذ أتت الحروب والغزوات على هذا النشاط، بالإضافة إلى اعتماد الصناعة والزراعة على العبيد في الأيدي العاملة، ومن هنا نرى أن العبودية في العمل هي التي سادت مرحلة العصور الوسطى في أوربا، ومن هنا ندرك أن نظام الإقطاع هو الذي ساد أوربا في تلك الفترة. من هنا ندرك أن أوربا كانت تعيش عصر ظلام، فلا يوجد لديها جامعات ولا مؤسسات علمية ولا قطاع صناعي ولا تجاري، أي هم لم يتوصلوا إلى درجة في الحضارة سوى الزراعة التي تعتبر الدرجة الأولى من الحضارة، يعني في بداية سلم الحضارة. وفي نفس الفترة نجد أن الدولة الإسلامية قد عنيت بالتعليم، فإلى جانب المسجد فقد انتشرت الكتاتيب ودور العلم وبيوت الحكمة والربط والبيمارستانات، ثم أنشأت الدولة المدارس المستقلة عن الجوامع في منتصف القرن الرابع الهجري لتدريس الفقه أو الطب أو القرآن أو الحديث، وأصبح في كل مدرسة مسجد صغير للطلبة بعد أن كانت المساجد هي الأصل، كما أضحى التعليم في كثير من المدارس الكبيرة رسميا بعد أن كان شعبيا تدعمه الدولة، وحددت مناهجه وطلابه، ولم يعد مقصورا على طبقة من الطبقات وإنما صار لعامة الشعب رجالا ونساء، فهو حق للعبد والمملوك والقيم واللقيط وكذلك الإماء، ونتيجة لذلك فإن الثقافة انتشرت بين البوابين والفراشين في المدارس وبين مناولي الكتب. ففي العصر العباسي الثاني تعددت المدارس فكان بعضها أحادية المذهب وهي التي تدرس مذهبا فقهيا واحدا كالمذهب الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي أو المالكي، والبعض منها ثنائية المذهب وهي المدارس التي تدرس مذهبين، وكانت هنالك مدارس مشتركة بين الحديث والفقه ومدارس تدرس ثلاثة مذاهب، كما عملت دور للقرآن ودور للحديث في وقت واحد لمحو الجهل وبث التعليم في الأوساط المختلفة، كما هو معروف لدينا فإن المسلمين كانوا يتدارسون القرآن الكريم في المساجد وفي دور خاصة، وفي المدارس التي كانت تلحق بها دور القرآن، وكان الحال كذلك بالنسبة للسنة النبوية إذ كانت تدرس في المساجد وفي دور مستقلة كدور القرآن أو مشتركة بين القرآن والحديث أو بدور ملحقة بالمدارس، هذا بالإضافة إلى تأسيس مؤسسات ثقافية أخرى أنشئت لتجمع بين دراسة القرآن والحديث والفقه. ونجد نتيجة للتخطيط العباسي للإدارة التعليمية أن أنشأت الجامعات، كانت تدرس فيها المذاهب الفقهية الأربعة، وقد شرع في بناء أول جامعة ببغداد سنة 625ه وهي المستنصرية التي تم افتتاحها عام 631ه وكانت تدرس الفقه على المذاهب الأربعة، والتفسير، وعلوم القرآن، والحديث، والطب، والعربية، والرياضيات، ومنافع الحيوان، وحفظ الصحة، وتقويم الأبدان، وقد حذت حذو بغداد في بناء المدارس الرباعية والجامعات كل من مصر في سنة 641 وحلب سنة 737 ومكة سنة 814ه. وبعد تطور الدراسة في الجامعات أضحى المدرسون يعينون بتوقيع أي مرسوم خليفي أو مرسوم ملكي أو أميري أو وزاري وكانت هذه التوقيعات تحتوي على أمور تتعلق بمنصب التدريس وأهمية المدرس، لأنه لا يعين للتدريس إلا من عرف بعلمه وعفته وسداد رأيه وتقواه وخشيته لله وطاعته. وأقيمت معاهد للترجمة والتأليف، وكان منها بيوت الحكمة العامة وبيوت الحكمة الخاصة ودور العلم والمكتبات الخاصة ومكتبات المساجد وخزائن المراصد الفلكية والربط والمستشفيات والمدارس والجامعات في البلاد الإسلامية كافة، ولم تكن جميع هذه المعاهد للترجمة فقط بل كانت أيضا تتخذ كأماكن للتأليف والمطالعة والاستنساخ والتوريق، بالإضافة إلى خزن الكتب المترجمة والمصنفة والمصورات الجغرافية والفلكية والخطوط المختلفة. بيوت الحكمة: ويوجد نوعان من بيوت الحكمة هي بيوت الحكمة العامة وهذه تعنى خزائن الكتب التي أسسها الخلفاء أما النوع الآخر فهي بيوت الحكمة الخاصة وتعنى خزائن الكتب التي أنشأها العلماء والأدباء والأعيان في دورهم، وكان الناس يستعيرون منها الكتب، ومن أشهر بيوت الحكمة العامة: بيت الحكمة البغدادي الذي أنشأه الرشيد، وكان عبارة عن بناية كبيرة تضم عددا من خزائن الكتب تحتوي كل خزانة منها على مجموعة من الأسفار العلمية الخاصة. بيت الحكمة التونسي: وقد أنشأه الأمير إبراهيم الثاني تاسع أمراء الأغالبة بتونس، كما أنشأ مدينة رقادة قرب القيروان سنة 264ه إذ كان ينزل فيها أمراء بني الأغلب من قبل بني العباس، وقد أنشأ إبراهيم بيت الحكمة برقادة على غرار بيت الحكمة ببغداد في الاسم وتنظيمه الإداري.ولقد اعتمد بيت الحكمة التونسي على علماء من بغداد بالإضافة إلى أن الأمير جلب له العلماء والكتاب من العراق والشام ومصر في الوقت الذي كانت العلوم قد اصطبغت بالصبغة العربية في جميع أنحاء العالم العربي، ولقد احتوى بيت الحكمة التونسي على كثير مما ترجم وصنف ببغداد من كتب الفلسفة والمنطق والجغرافيا والفلك والطب والهندسة والحساب والنبات، وكان مؤسسه في كل عام يرسل إلى بغداد مرة أو مرتين سفارة لتجديد ولائه للخليفة العباسي ولاجتلاب نفائس الكتب مما صنف وترجم في بغداد، بالإضافة إلى استقدام علماء متخصصين في سائر العلوم من العراق ومصر، ولقد كان التنظيم الإداري لبيت الحكمة التونسي مثل مثيله في العراق، وكان له ناظر يطلق عليه صاحب بيت الحكمة، كما كان الحال ببغداد.ولقد اهتم خلف إبراهيم من أبنائه كعبد الله الثاني وزيادة الله الثالث بتنشيط بيت الحكمة واستقدموا له العلماء من بغداد والفسطاط ومن بلاد اليونان، وعندما انقرضت دولة بني الأغلب واستولى عبيد الله المهري عليها طمس معالم رقادة وبيت الحكمة بعد ازدهار دام أربعين سنة. دار الحكمة بالقاهرة: نجد أن الفاطميين أنشأوا في قصورهم بالقاهرة خزائن عديدة تحتوي على كثير من الكتب الإسلامية أو المترجمة والتي ألفت في كثير من العلوم العربية والعلوم الإسلامية والعلوم القديمة، إذ احتوت خزانة المعز الفاطمي على كثير من المؤلفات العراقية حتى بلغ عدد الخزائن التي بالقصر أربعين خزانة من جملتها خزانة فيها ثمانية عشر ألف في العلوم القديمة.ولقد أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة في مصر سنة 396ه وكان يطلق عليها (دار العلم) وعلى ما يبدو أن تسميتها بدار الحكمة هو مضاهاة لما سميت به مثيلتها في بغداد والأخرى في تونس، وكانت عبارة عن مكتبة عامة يقصدها الناس للقراءة والانتساخ والدراسة والمناظرة وكان يعمل فيها من يشتغل بالطب والمنطق والتنجيم واللغة، وخصص لها كثير من العلماء والقوام والفراشين، كما حملت إليها الكتب من خزائن القصور الفاطمية من سائر العلوم والخطوط المنسوبة، كما زودت بما يكفيها من الحبر والمحابر والأقلام والورق، كما أوقفت عليها الوقوف، وقد استمرت حتى سنة 516ه وكان سبب إقفالها هو أن بعض المذاهب المنحرفة قد تسللت إليها كمذهب أبي الحسن الأشعري وفلسفة الحلاج فافتتن بعض الناس في دينهم، وكان إقفالها على يد الفضل بن أمير الجيوش سنة 517ه ولقد ظلت عامرة إلى أن زالت الدولة الفاطمية سنة 567ه. وهكذا استعرضت فيما سبق كيف كانت الدولة الإسلامية وكيف بلغت من الحضارة والرقي ودرجات العلم في الوقت الذي كانت أوربا في ظلام دامس ورق وعبودية وإقطاع لأبين فضل الإسلام على البشرية كافة وفضل رسوله الكريم على الإنسانية بصفة عامة وعلى أوربا بصفة خاصة، والذي يتهمون الإسلام اليوم ونبيه الكريم بالإرهاب في حين أنهم هم الإرهابيون، وسوف أضطر في الحلقة القادمة وأشرح كيف تم نقل العلم والحضارة من الدولة الإسلامية إلى العالم المتكبر في حين أنهم هم الذين عملوا كل مافي وسعهم في تأخير الشعوب الإسلامية والعربية لأبين فداحة الظلم الذي ارتكبوه والذي يعتبر هو السبب الرئيس لزعزعة الاقتصاد العالمي حسبما شرحت من أقوال العلماء في الحلقات السابقة. وإلى اللقاء في الحلقة القادمة. فاكس 8266752 (04)