هذه قراءة لكتاب «المدرسة المستنصرية - أول جامعة في العالمين العربي والإسلامي»، من تأليف كوركيس عواد ومصطفى جواد، ونشر دار الوراق في لندن. كانت الحركة الفكرية العربية في القرون الأربعة الأولى للهجرة حرة تتخذ من المساجد والجوامع والبيوت والأسواق العامة أماكن لها، حيث كان العالِم يجلس فيقصده الناس المعنيون بعلمه ليفيدوا منه. وكانت منزلة العالِم تتحدد بسعة علمه وقدرته على إيصاله إلى الحاضرين من طريق المحاضرات أو الإملاء أو الشرح أو ما إلى ذلك. ولم تكن الدولة في العصور الأولى تتدخل في تعيين العلماء الذين كانوا يقومون بالتعليم والمناقشة والمناظرة حباً بالعلم واستجابة لحاجات الناس. فكان العالِم حراً يعلم ما يشاء لا يتدخل أحد في شأنه ولا يتقاضى عن ذلك أجراً. وظهر منذ أوائل العصر العباسي بعض المؤسسات الدراسية والعلمية كدور الحكمة ودور العلم (المكتبات) التي عني بإنشائها بعض الخلفاء والأغنياء إلا أنها لم تحتل في تلك المرحلة مكاناً بارزاً في نشاط الحركة الفكرية وازدهارها. ومنذ القرن الرابع الهجري بدأ يظهر بعض الفروق بين الدراسة في الجوامع وبينها في المساجد، فقد كانت الجوامع نظراً إلى سعتها وضخامتها تحتوي على حلقات علم متنوعة تعقد في جهات مختلفة منها وتتخذ أسماءها إما من إسم شيخ الحلقة مثل حلقة ابن البنا وإما من إسم العِلم الغالب عليها كأن يقال حلقة أهل الحديث وحلقة النحويين. وكانت تُدرس في هذه الحلقات العلوم الدينية مثل القراءات والتفسير والحديث وعلومه والفقه وأصوله وما يتصل بها من علوم مساعدة مثل اللغة والنحو والأدب. كما وجدت حلقات لأصحاب الفتوى والوعظ والمناظرة. وكانت هذه الحلقات تتسع وتضيق تبعاً لشهرة صاحبها ومنزلته وقدرته على اجتذاب الحضور. غير أن حلقات المحدثين كانت أحفل من حلقات الفقهاء لإقبال الناس على الحديث في تلك العصور، وحبهم للإستكثار منه، ولأنه لا يحتاج مثل الفقه إلى أسس معرفية سابقة. أدى تطور الحركة الفكرية واتساعها إلى استقرار المذاهب الفقهية. وظهرت المؤلفات المعتمدة في كثير من الفروع العلمية وبرزت الحاجة إلى العناية بالعلم والسيطرة على بعض جوانبه للوقوف بوجه الحركات المفرقة والهدامة التي نشطت في القرن الخامس الهجري فنشأت المدارس النظامية في منتصف القرن الخامس وكانت نظامية بغداد من أبرزها (نسبة إلى الوزير نظام الملك الحسن بن علي). وكان بعض المدارس ظهر منذ أواخر القرن الثالث الهجري إلا أنها لم تتخذ خصائص مدارس القرن الخامس من حيث استقلال البناء وهندسته ورصد المبالغ لها، وإلحاق الأقسام الداخلية فيها، وتعيين المدرسين وقبول الطلبة ومناهج الدراسة. فهي تختلف عن مدارس المساجد إذ لم يكن في المسجد منازل لسكن الطلبة وإن كان في مقدور المدرس أو الطالب إيجاد سكن مجاور ينزل فيه. فكانت المدرسة تستقل وتتميز بهذين العنصرَين الأساسيَين وهما: المكان المخصص للدرس، والمنزل المخصص للسكن... وذلك في وحدة معمارية وإدارية واحدة. وكانت للمدارس الأولى خصائص أساسية مشتركة تميزها عن المؤسسات الأخرى يمكن إجمالها بما يأتي: 1 - كان الذي يقوم بإنشاء المدرسة أحد الموسرين من الحكام أو الأمراء أو التجار، فيقدم المال اللازم لبنائها وتأثيثها، ثم يرصد لها المبالغ من عقارات أو أراضٍ زراعية. وكان منشئ المدرسة يعهد بإدارة وقفها إلى واحد أو أكثر، وكثيراً ما كان مدرس المدرسة هو الذي ينظر في أموالها. وكانت أموال الوقف تصرف على المدارس والعاملين في المدرسة وعلى طلابها حيث تقدم لهم المأكل والمسكن مجاناً. 2 - كان المألوف أن يقوم منشئ المدرسة بتعيين مدرسها وناظرها والعاملين فيها، ثم يؤول الأمر بعد وفاته إلى مديري الوقف، أو صاحب السلطة النافذة في الدولة وتكون مدة تعيين المدرس في الأغلب مدى الحياة إلا إذا حدث بعض التدخلات. 3 - عنيت هذه المدارس بتدريس الفقه وما يتطلبه من علوم مساعدة بالدرجة الأولى. وقلما درست أموراً أخرى. من هذه المدارس المدرسة المستنصرية التي شرع ببنائها الخليفة العباسي المستنصر بالله في بغداد عام 625 ه (1227 م) على شط دجلة، وتولى عمارتها أستاذ دار الخلافة محمد بن العلقمي، وتم افتتاحها في اليوم الخامس من شهر رجب عام 631 ه (1233 م) باحتفال كبير على شرف محمد بن العلقمي وأخيه أحمد، وهما اللذان أشرفا على بنائها. ظل التدريس قائماً بالمستنصرية أربعة قرون منذ افتتاحها عام 1233 حتى 1638 عدا فترتين من الزمن: الأولى قصيرة وكانت في أثناء الإحتلال المغولي لبغداد عام 1258 إذ تعطلت المدارس والمساجد، والثانية طويلة وتبدأ من احتلال جيوش تيمورلنك لبغداد، وكانت احتلتها مرتين في عام 1392 وعام 1400 إذ لم نسمع ذكراً للمستنصرية نحو قرنين من الزمن، وذلك أن أخبارها تكاد تنقطع انقطاعاً تاماً منذ نهاية القرن الثامن الهجري، إلا ما ورد عنها من معلومات يسيرة جداً في بعض المؤلفات المصرية وذلك بعد أن نزح إلى مصر بعض علمائها. وكعادتها، تتابع دار الوراق إصدار الكتب التراثية المنتقاة بعناية فتلبي حاجة القارئ والباحث في الوقت نفسه. ولعل كتابنا هو الأول الذي يجمع بين دَفتيه أخبار المدرسة المستنصرية إذ يتضمن بحثَين قيمَين لإثنين من كبار المؤرخين العراقيين هما كوركيس عواد ومصطفى جواد. البحث الأول كتبه كوركيس عواد ونشرته مجلة «سومر» العراقية في الجزء الأول من المجلد الأول عام 1945 أي في بداية انطلاقة المجلة المذكورة وهو بحث قيم تناول فيه الكاتب أخبار المدرسة المستنصرية منذ تأسيسها حتى خرابها ونهبها على يد المغول مستفيضاً في أدق التفاصيل من تخطيط المدرسة وتسميتها وسيرة مؤسسها وموقعها وتأسيسها وافتتاحها إلى مرافقها من المستشفى والصيدلية ودار الحديث ودار القرآن إلى خزانة الكتب وموظفي الخزانة إلى ساعة المستنصرية المشهورة والكتابات التذكارية على جدرانها إلى زخارفها ومدرسيها إلى أخبارها في مختلف العصور وما انتهت إليه من خراب واستعمالات لغير ما بنيت لأجله فاستعملت خاناً ثم داراً للمكوس إلى أن قررت الحكومة العراقية تسليم هذا البناء العريق إلى مديرية الآثار العامة بداية الأربعينات من القرن الماضي للإهتمام به. وهنا يسأل القارئ هل رمم هذا الأثر النفيس خاصة وأن الكاتب يقترح ترميمات مفصلة يوردها في نهاية بحثه؟ هذا ما كان يجب على الناشر توضيحه بإضافات أو تعليقات يوضح فيها مثلاً أن جسر المأمون الذي بنيت المدرسة عند رأسه قد تغير اسمه إلى جسر الشهداء وأن الصيانة بدأت عام 1943 واستمرت إلى أواخر الثمانينات وأن المبنى عاد جامعة من أهم جامعات بغداد إلا أنه لم يفعل. تعتبر المستنصرية أول جامعة في العالم الإسلامي عنيت بدراسة علوم القرآن والسنة النبوية والمذاهب الفقهية وعلوم العربية والرياضيات، وقسمة الفرائض والتركات، ومنافع الحيوان، وعلم الطب، وحفظ قوام الصحة، وتقويم الأبدان في آنٍ واحد. كما أنها أول جامعة إسلامية جمعت فيها الدراسات الفقهية إلى المذاهب الإسلامية الأربعة: الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي في بناية واحدة هي مدرسة الفقه. ويتبين لنا من دراسة أحوال المدارس الإسلامية أن الخليفة المستنصر بالله (1226-1242) أول من ابتكر فكرة جمع المذاهب الفقهية الأربعة في بناية واحدة كما أشارت إلى ذلك كل المراجع العربية الموثوقة وأيدتها الكتابة الآجرية التي ثبتها المستنصر على باب المدرسة الرئيسي وجاء فيها: «وأَمرَ أن تُجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة». وكان لا يقبل في المدارس المختلفة إلا أبناء الطوائف التي بنيت المدارس من أجلهم. فالمدرسة النظامية مثلاً كانت وقفاً على أصحاب المذهب الشافعي، لذلك فإن المستنصرية امتازت على سائر المدارس المعاصرة لها والتي سبقتها بجمع المذاهب الأربعة فيها للمرة الأولى، كما امتازت بوجود بناية خاصة للطب، ملحقة فيها، مما لا نجد له مثيلاً في المدارس الأخرى التي عاصرتها أو التي بنيت قبلها، كالنظامية والتاجية، والكمالية ...إلخ. جعل المستنصر لمدرسته هذه ميزة أخرى على المدارس الإسلامية، وذلك أنه اشترط أن يضاف إلى مدرستَي الفقه والطب تدريس علوم الشريعة الإسلامية، فأسس فيها دار القرآن، ودار السنة، وبذلك يمكننا أن نقول إن المستنصر بالله أول خليفة في العالم الإسلامي جمع في آن واحد: المذاهب الفقهية الأربعة وعلوم القرآن، والسنة النبوية، وعلم الطب، والعربية، والرياضيات، والفرائض... وجعلها في مكان واحد يتألف من مبانٍ عدة متجاورة، أطلق عليها اسم المستنصرية. البحث الثاني تناول المدرسة ومدرسيها ومحدثيها ودار القرآن في نصوص تاريخية غير منشورة كما يقول الكاتب المؤرخ مصطفى جواد. هذا صحيح عام 1958 حين نُشر البحث في مجلة «سومر»، (المجلد الرابع عشر)، وهو ما لم يقله الناشر ما عدا إشارة واحدة من الكاتب في بداية بحثه حيث يقول: «عثرت، بعد نشر مقالة المدرسة المستنصرية للمحقق الفاضل السيد كوركيس عواد في هذه المجلة، على نصوص تاريخية تخص المدرسة المذكورة، ولم تكن قد نشرت من قبل ...». لا يذكر الكاتب اسم المجلة، إذ لا لزوم لذلك لأن ما يكتبه هو في المجلة نفسها وكان على الناشر أن يشير إلى ذلك، فمن أين للقارئ أن يعلم بأن المقصود هو مجلة سومر. إذاً البحث الثاني تناول المدرسة في ناحية واحدة هي «مدرسو المدرسة وناظروها ودار القرآن» ولم تكن المدارس قبل المستنصرية تجمع كل العلوم في مكان واحد. فقد كانت مدارس الطب تبنى مستقلة عن الفقه، أو دُور الحديث، أو دُور القرآن، كالمستشفى العضدي في الجانب الغربي من بغداد، ومدرسة الطب في البصرة ومدارس الطب في دمشق. أما دُور القرآن فقد أنشئت قبل المستنصرية بأكثر من قرنين من الزمان كدار القرآن الرشائية في دمشق، وظلت دُور القرآن مستقلة، أو في داخل المساجد إلى أن أنشئت المستنصرية فصارت في المدارس عموماً. ويلاحظ في الوقت نفسه أن كثيراً من دُور القرآن كانت تؤسس مستقلة حتى بعد هذا التاريخ. أما دور الحديث فقد كانت من مبتكرات نور الدين محمود بن زنكي فهو أول من بنى داراً للحديث في دمشق، وأنشأ بعده الملك الكامل ناصر الدين محمد في القاهرة عام 1224 المدرسة الكاملية. ويظهر أن دور الحديث كانت تشترك أحياناً مع دور القرآن، فتبنى دور مشتركة للقرآن والحديث معاً وتكون مستقلة عن مدارس الفقه، أو تُجعل في المساجد، كما في مسجد قمرية في الجانب الغربي من بغداد. وظلت دور الحديث كذلك إلى أن أنشئت المستنصرية فصارت دور الحديث على الغالب تلحق بمدارس الفقه إلى جانب مدارس الطب ودور القرآن أسوة بالمستنصرية. ويلاحظ أن كثيراً من دور الحديث ظلت تؤَسَس مستقلة حتى بعد هذا التاريخ، كدار حديث منبج، ودار السنة النبوية في الموصل. واستمرت دور القرآن ودور الحديث تقوم بمهمتها العلمية كما كان الحال في مسجد قمرية، على أننا نجد بعض المؤسسات الدينية التي انشئت لتجمع بين دراسة القرآن والحديث والفقه، كدار الحديث السهلية بحلب التي أنشأها السيد حمزة الجعفري عام 1374 وجعلها داراً للقرآن والحديث النبوي، ومدرسة للعلم على مذهب أبي حنيفة. وهناك مدارس مشتركة بين الحديث والفقه، كالمدرسة التي بناها الأمير شمس الدين آق سُنقر في القاهرة عام 1277، والمدرسة الظاهرية التي أنشأها الملك السعيد إبن الملك الظاهر بدمشق وجعل فيها داراً للحديث. أما الميزات الأخرى التي امتازت بها المستنصرية فتظهر في أمرين: - أولاً: الأموال التي تصرف يومياً على أرباب المستنصرية من فقهاء ومدرسين وموظفين ومستخدمين وطلاب داخليين إضافة إلى الطعام. - ثانياً: تأسيس حمام في المستنصرية يستعمله سكانها وفيه من يقوم بخدمتهم، وهو أمر لم يُسبق إليه.