سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    منطقة العجائب    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    «سعود الطبية» تستقبل 750 طفلاً خديجاً    الله عليه أخضر عنيد    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    خامس أيام كأس نادي الصقور السعودي بحفر الباطن يشهد تنافس وإثارة    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان في طريقه الى السلام بعد حرب داخلية طويلة ودامية ... وقد يسبق فلسطين ؟
نشر في الحياة يوم 24 - 07 - 2001

تعود علاقتي بالسودان الى ما يزيد على نصف قرن. ففي أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين، تجمع طلاب الدراسات العليا من المصريين والسودانيين - وكنت منهم - في لندن، وقرروا إنشاء "اتحاد الطلاب العرب" ليجمع المقيمين والدارسين في بريطانيا. وكان تجمعنا كمصريين وسودانيين هو النواة التي تجمعت حولها قلة من العرب، معظمهم "شوام" من فلسطين وسورية ولبنان.
كانت النواة الأولى هي صلتي الشخصية مع دارس سوداني هو المهندس سيد عبدالله السيد، وكان موفداً من حكومة السودان. وكانت تلك الحكومة تحمل عنواناً يوحي بأنها تعمل تحت حكم مشترك بريطاني - مصري، لكن من الناحية العملية، لم يكن لمصر أي وجود سلطوي في السودان، عدا إدارة "الري المصري" والتي تغلغل بعض مهندسيها الى عمق السودان في الجنوب، وحول منابع النيل في منطقة البحيرات بينما اتجه آخرون نحو بحيرة تانا وعلى طول النيل الازرق واثيوبيا لمتابعة وقياس المناسيب والتصرفات التي ستصل الى شبكة الري في كل ربوع مصر.
وكان سيد عبدالله السيد موفداً من مصلحة الري السودانية، بهدف الدراسة والحصول على عضوية "جمعية المهندسين المدنيين في لندن". وهي شهادة مهنية لها تقديرها في عُرف ثقافة الانكليز، ذلك أنهم بقدر ما يحترمون - مثل كل الاوروبيين - شهادة الدكتوراه الاكاديمية، بقدر ما كان تقديرهم - في ممارسة المهن كافة - الحصول على عضوية الجمعيات الاهلية.
ولأنني كنت حاصلاً على عضوية "جمعية المهندسين المدنيين في لندن" بدأت صلتي مع المهندس سيد عبدالله السيد على اساس مهني ثم صارت سياسية وطنية في ما بعد، عندما اكتشف كل منا في الآخر توجهات تحمل "نكهة" اشتراكية ماركسية دعّمت هذه الصلة كثيراً، وكانت الايديولوجية الاشتراكية هي الموضة بين مثقفي تلك المرحلة.
عدتُ الى مصر وعاد سيد عبدالله الى السودان في اوائل الخمسينات واستمرت الصلات بالمراسلة البريدية. ومن الرسائل علمت ان سيد عبدالله ترك خدمة مصلحة الري واقتحم بعض أنشطة العمل الحر الملائمة له ولتلك الحقبة في السودان، وصار مقاولاً معروفاً ثم "وكيلاً" لشركات أوروبية تعمل في مجالات الشاحنات والكهرباء وغيرها. وفي طريق زيارته السنوية لعدد من عواصم أوروبا حيث رئاسة الشركات التي يمثلها، كان يمر بالقاهرة لنقضي سوياً أياماً ثرية كلها "دردشة" أو "ونسة" بلغة السودانيين حول مستقبل كل من مصر والسودان، وفي ما بعد حول مستقبل الأمة العربية.
أصر سيد على أن أزوره في السودان، وكعادة السودانيين وكرمهم، كان يلقي "يمين الطلاق" بأن لا بد من الاقامة في "المضيفة" في منزله في حي الخرطوم بحري، لأنه "عيب" ان يقيم الضيف في "فندق" وان كنت شخصياً راغباً في الاقامة في فندق، "غراند هوتيل" المطل على النيل الازرق، في الخرطوم. وفي كل مساء كانت "الونسة" في حديقة الدار، حيث لقاء قيادات السودان من ابناء جيلي اعضاء "مؤتمر الخريجين"، فانبهرت بهذه المجموعة من الشباب السوداني، اذ كانت لمعظهم توجهات "تقدمية" يتحدثون بصراحة مطلقة، ولا توجد عندهم ألقاب "البيه" و"الباشا" كما في مصر، ويتحدثون عن حكامهم من زعماء السودان - بعد أن حصلوا على الاستقلال في أول كانون الثاني يناير عام 1956 بكل الحرية - وبأسمائهم مجردة من أي لقب أو صفة.
كان كل ذلك هو بداية إعجابي بالشخصية السودانية، وتوهمت وقتها أن رياح الديموقراطية وربما الاشتراكية ستهب على مصر من جهة الجنوب. في ذلك الوقت بدأ تعرفي على مجتمعات النخب في الخرطوم أولاً، ثم رتّب لي صديقي سيد رحلة بالقطار الى "الأبيض" وأخرى إلى واد مدني في الجزيرة. وبعد أن تعمقت علاقتي بوزارة الاشغال السودانية، وقدمت لها استشارات هندسية من دون مقابل رتبوا لي زيارة لمدينة واو في الجنوب، فتدعمت علاقتي بهذه القارة المترامية الاطراف المسماة السودان، وتعرفت أكثر على أهلها وتفهمت أن لديهم، مثل كل شعوب الارض، مشكلاتهم، وأمامهم مشوار طويل في أنواع التنمية كافة، وفي مقدمها انشاء شبكة طرق وبنية تحتية للمرافق والخدمات... باختصار مقاومة التخلف والفقر والذي كان واضحاً أنه يسود السودان.
وبينما كنا نتناول الإفطار في بيت صديقي سيد عبدالله السيد، خلال إحدى زياراتي له، إذا به ينادي على أحد الخدم الذي جاء مهرولاً، ومع ذلك وجدت صديقي ينهره قائلاً: "يا عبد". وجاءت هذه العبارة وكأنها "الصاعقة"، فلم أكن أتصور أن ينادي صديق متعلم في انكلترا وله ميول "اشتراكية" على أحد خدمه بعبارة "يا عبد". وبعد انصراف الخادم همستُ في أذن صديقي معاتباً في رقة: لماذا تناديه هكذا، فكانت دهشتي أشد، عندما قال: هذا "الصنف" لا يفهم إلا هذا الأسلوب، هذه طريقتنا مع أهل الجنوب. وكانت هذه الواقعة على بساطتها أول معرفة لي بمشكلات السودان التي تفجرت في ما بعد، فقد كانت الخرطوم في منتصف الخمسينات تعيش شهر عسل الاستقلال الوطني.
هكذا كان احتكاكي - ربما للمرة الأولى - بما صرنا نسميه الآن "المظالم التي وقعت على أهالي الجنوب من أهالي الشمال"، وتفهمت عمق الشرخ "التاريخي" بين الشمال والجنوب، وهي أمور لاپبد أن نتطرق إليها بصراحة إذا كنا جادين في السعي إلى بناء "سودان جديد" يقوم على حقوق متساوية لكل المواطنين.
وليس هنا مكان عرض التطورات والصراعات داخل النظام السوداني منذ عام 1989 حتى الآن، فهي مملوءة بنقاط مفصلية كثيرة لجهة تأثرها باستمرار الحرب الأهلية في الجنوب، وبالتغييرات العالمية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وتطورات السلام واللاسلام في الصراع العربي - الإسرائيلي، وحرب الخليج الأولى والثانية، وتوقف الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وغيرها.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن جميع القوى السياسية السودانية صارت حالياً - وربما منذ سنة - منهكة، بما فيها النظام الحاكم ذاته، بل حركة تحرير السودان، فضلاً عن رموز وقيادات المعارضة الخارجية والداخلية، فقد زادت الصراعات بين القبائل في الجنوب، والاتجاهات الانفصالية في دارفور، وحركة البجا في الشرق، وفرضت ظاهرة الملايين من الجنوبيين الذين نزحوا فراراً من الحرب إلى المناطق العشوائية حول الخرطوم نفسها على الساحة السياسية، ثم هناك ملايين أخرى من السودانيين الذين اضطروا للهجرة خارج السودان، ربما لأنهم كانوا أكثر حظاً وثروة ونفوذاً.
وينفطر القلب حزناً بسبب الملايين الذين ماتوا في الحرب ومن الجوع والتشرد. وباختصار صار الظرف التاريخي ناضجاً للوصول إلى اتفاق - ولو على مراحل - وكل ذلك يدفع بالنظام الحالي لأن ينسحب بكرامة من السلطة والساحة، إذا ضمن عدم المساءلة عما حدث خلال فترة حكمه، في مقابل أن يضمن "جيش التحرير" أن تضحياته لم تذهب هباء، وأن اتفاقه مع الحكومة لن يلقى مصير اتفاق أديس أبابا العام 1972 الذي نقضه نميري. ولن يرغب طرف مناضل أن يحدث معه مثلما تم مع السلطة الفلسطينية في اتفاق أوسلو عندما نقضها موقعوها نتيجة تطورات لم تكن في الحسبان وعادوا إلى النضال المسلح والانتفاضة مرة أخرى، فتهدم ما كان باقياً من ثقة بين الأطراف المتصارعة. فمن دون الثقة بين الرموز تنقض الاتفاقات، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى أطراف محلية ضامنة، كما في اتفاق الطائف العام 1992 لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان.
ومن الناحية الخارجية فقد تحركت غالبية الدول المجاورة، وكذلك قوى عالمية أخيراً بعد أن تركت السودان وشأنه سنوات طويلة حصدت خلالها الحرب الأهلية ملايين من البشر. فالجنوبيون يعانون من مظالم تاريخية رهيبة، والشماليون متحمسون لمشروع "حضاري" يسعى لإنشاء دولة دينية "سُنيّة"، تنافس الدولة "الشيعية" في ايران. وتدعمها في الوقت نفسه. كذلك تحركت دول شمال أوروبا وجمعيات أهلية وعالمية تُعنى بالقضايا "الإنسانية" لمواجهة المآسي التي يعاني منها الشعب السوداني بمختلف طوائفه في الشمال والجنوب على السواء.
ومنذ أن وصل جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض في واشنطن، لم يخف رغبته في أن يحقق مكاسب في السودان، طالما أن هناك تعثراً على الساحة الإسرائيلية - الفلسطينية. ومن بين مبادرات إقليمية عدة لحل الأزمة السودانية تبرز المبادرة "المصرية - الليبية".
وفي وجهة نظري الشخصية، فإن أهم تطور في هذا الشأن هو ما صرّح به السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة في أواخر حزيران يونيو الماضي من أن الشعب السوداني في الشمال ينبغي أن يقدم "اعتذاراً تاريخياً" لمجمل أهالي السودان في الجنوب، وهي بالتأكيد مبادرة ذكية من رجل له ثقله النابع من جذوره التاريخية الراجعة إلى الزعيم المهدي الكبير. والمتوقع أن يكون هذا التصريح بداية مشجعة لزعماء آخرين يتحمسون لتعميق الاتجاه ذاته.
وهنا يجيء التساؤل: ماذا بعد...؟ وهل من برنامج وخطوات، أو كما يسميها الصادق المهدي "أجندة" واضحة يمكن أن يتم اتفاق أو التفاف حولها من جانب أطراف النزاع داخل السودان؟
تدور في الكواليس حالياً، اتصالات مهمة ومذكرات متبادلة بين الأطراف السودانية، بما فيها الحكومة تحت مظلة "المبادرة المصرية - الليبية" والتي تدخل إلى عمق التفاصيل ووضع المبادئ التي يمكن أن تجمع عليها الأطراف كافة وتقريب وجهات النظر بالنسبة إلى قضايا أساسية. وحسناً فعلت الجهات المختلفة والتي حرصت على تبادل المذكرات بعيداً من "الأضواء"، لعل وعسى تتقارب وجهات النظر وصولاً إلى مشروع اتفاق يقدم إلى اجتماع موسع، يجمع كل الأطراف السودانية ورموز الدول المجاورة الافريقية والعربية في مكان بعيد مثل شرم الشيخ وبحضور رئيس مصر ليصلوا إلى اتفاق ما.
وفي هذا الإطار رغبت في أن أعرض لبعض النقاط الحساسة والتي قد تعرقل المسار الهادئ والذي وصلنا إليه بعد حرب استمرت لمدة 18 عاماً متصلة، وكل الاطراف منهكة بما فيها الدولة وجيش التحرير.
هناك في المقدمة قضية "تقرير المصير" الذي صار حقاً مكتسباً للسودانيين الجنوبيين خلال فترة انتقالية لا تتجاوز 4 سنوات. وهي فعلاً قضية خلافية، يحسن عرض وجهات النظر في شأنها وصولاً إلى التقارب، ذلك أن إحساس الجنوبيين بالمظالم لقرون عدة، جعلهم متمسكين بهذا الحق فهو سلاحهم الوحيد والذي يمكن أن يشهروه للضغط على الشمال فيما لو تراجع - في منتصف الطريق - عن استمرار التفاوض حول القضايا في الأجندة المتكاملة والتي تشمل الحكومة الانتقالية والدستور الموقت وفصل الدين عن السياسة وتطبيق حكم فيدرالي يضمن السلطة المحلية لأهل الجنوب، وما إلى ذلك.
فجيش التحرير الذي حارب وقدم الشهداء وتحمل المعاناة الشديدة لمدة 18 عاماً، من حقه أن لا يلقي السلاح ويوقع اتفاق وقف اطلاق النار، من دون وجود "ضمان" في يده، وهو حق تقرير المصير في وقت معقول قد يمتد إلى 4 سنوات. والمأمول خلال هذه السنوات أن تكون الثقة المتبادلة بنيت من جديد وتكون جروح الحرب والحزن على الشهداء من الجانبين اندملت، ومن ثم فهذا ضمان معقول، لاپبد منه ولا يمكن الرجوع عنه الآن، لكنه قد يستخدم أو لا يستخدم حسبما تسير الأمور في الفترة الانتقالية.
حسنا فعل الصادق المهدي بمبادرته بتقديم اعتذار تاريخي عن المظالم التي عانى منها الجنوبيون عبر قرون، وسيستمر مسلسل الاعتذارات التاريخية من قيادات أخرى تدريجاً، وهو "دواء" ثبت نجاحه، فهو كالبلسم الذي يوضع على الجروح ليساعدها على الالتئام. وأتصور أنه أمر ضروري، ولكنه بالتأكيد ليس كافياً وحده لبناء الثقة بين الأفراد والجماعات.
إنني أدرك وجهة نظر المسؤولين عن ملف السودان في الدولة المصرية، وهي أن مصر حريصة على وحدة السودان ومن ثم فهي "تقاوم" - ولو بطريق خفي - وجود بند "تقرير المصير" أصلاً، ولكن، طالما أن غالبية الأطراف السودانية في الشمال قبلت مبدأ "تقرير المصير" بما فيها الحكومة السودانية فإن إصرار مصر - وهي الدولة الرئيسة "الوسيطة" في المحادثات، أي التي تعمل على جمع وليس تفريق الأطراف السودانية، بما فيها الحكومة، فإنه من غير المستساغ أو الحكمة أن تضع مصر مصالحها - المعترف بها - على طاولة المفاوضات، حتى لا تهتز قيمتها كدولة صديقة لكل الأطراف. وأتصور أن على الدولة والقطاع الخاص والجمعيات الأهلية في مصر، تقديم مبادرات من خلال منح واستثمارات ومعونة فنية وطبية وما إليها، وذلك خلال الفترة الانتقالية، فمصر أقرب إلى أهالي جنوب السودان من الجمعيات والهيئات الأوروبية والاميركية - دينية وغير دينية - وعليها أن تدعم موقفها "الإنساني" في مجالات الصحة والتعليم والتنمية بشكل مستمر ووفق خطة متنامية تنسق بين كل الانشطة الحكومية والأهلية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فكرنا نحن أعضاء "جمعية أسرة وادي النيل" في القاهرة - وهي جمعية أهلية يترأسها الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري السابق ويشغل كاتب هذه السطور فيها، موقع نائب الرئيس - في إرسال معونات طبية وأدوية في صحبة ورعاية باقة من الأطباء والجراحين إلى فقراء المناطق العشوائية حول الخرطوم، حيث يعيش أيضاً مئات الألوف من فقراء الجنوبيين الفارين من الحرب، ويدير هذا العمل المهندس الزراعي السوداني توفيق بيومي، وهو "دينامو" الأسرة في القاهرة بالتعاون مع الأسرة المقابلة التي تحمل الاسم ذاته في الخرطوم ويترأسها الوزير السابق ابراهيم رضوان.
أما القضية الجوهرية الثانية - وهي صلب النزاع ومحرك الحرب الأهلية - فهي أن حكومة السودان تتمسك بالهوية الإسلامية وبتطبيق الشريعة، فهي الركيزة الايديولوجية للنظام، بينما يصر جون قرنق على "فصل الدين عن الدولة"، وكما قال لي مرة مازحاً: "في يوم القيامة ستقف الدولة أمام العرش الإلهي ليأمر الله بدخولها الجنة أو بإلقائها في جهنم وفق أعمالها في هذه الدنيا"، ثم استطرد قائلاً: "من غير المنطقي أن تكون للدولة هوية دينية"!
لذلك كان الصدام أخيراً بين البشير وقرنق عندما عقد اجتماع مجموعة "إيغاد" الافريقية في نيروبي بحضور رؤساء الدول الافريقية انفسهم تقديراً منهم لأهمية السلام في السودان، فقد اصر قرنق على "علمانية الدولة" وقدم البشير حلاً توفيقياً وهو أن تكون للمواطنين السودانيين حقوق متساوية من دون تفرقة. ولأن الموقف كان "مسرحياً" أمام رؤساء دول، كان الصدام ثم الافتراق. ولذا فإن المذكرات المتبادلة، كما هو حادث الآن، هي طريقة أفضل، ويبدو أنه يمكن الاتفاق على حل وسط ممثلاً في عبارة ذكية هي "فصل الدين عن السياسة".
ويتبع هذه القضية موضوع "الدستور". فالحكومة ترى "تعديل الدستور" بينما يصر قرنق على دستور سوداني "جديد". وأنا أرى أن العبرة في نهاية المطاف هي في مضمون الدستور. فالمؤكد هو أن الشمال سيحتفظ بهوية ثقافية إسلامية. فالميرغني والمهدي والبشير والترابي، وغيرهم كثيرون، ينتمون - بشكل أو بآخر - إلى "الإسلام" في صور مختلفة تتراوح من "التصوف" الى تطبيق "الحدود". ولذا فالعبرة هي في صوغ الشكل "الفيدرالي"، والحقوق الأساسية للحكم المحلي أو الذاتي في المناطق والمديريات المختلفة، حيث لكل منها خصوصية ثقافية ينبغي احترامها بشرط عدم العدوان على خصوصية ثقافية في محافظة أو اقليم آخر.
وهناك ولا شك تفصيلات كثيرة تواجه هذا الطرح، فقد كان في السودان عقب الاستقلال تسع مديريات، وها هي الحكومة الحالية تشكل 26 ولاية، لكل منها مجلس وزراء، و"تجانس" ثقافي في اللغة والدين والعادات والعلاقات بين القبائل، فما هي الحدود الفاصلة بين ما يسمى الجنوب والشمال، والتي كانت - حتى الآن - خطوطاً وهمية ممثلة في شكل خط العرض الجغرافي والذي يأخذ رقم 12 أو 13، فقد تحرك السكان من موقع إلى آخر، وصارت للحدود معالم أكثر تحديداً من خلال البشر والموارد الطبيعية والحدود الجغرافية مثل الانهار والجبال وما إليها.
إن المبادئ الثمانية أو التسعة التي بلورتها المذكرة المصرية - الليبية وكانت موضع اتفاق عام من معظم، إن لم يكن، كل الأطراف - لهي خطوة مهمة وأساسية. وكم سعدتُ بتصريح وزير خارجية السودان الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل، الذي أكد أن "الحكومة السودانية قبلت كل هذه النقاط من دون تحفظ". ومن هنا ينبغي بعد توقيع الاتفاق على المبادئ الأساسية، بضمان دول الجوار الافريقية والعربية، وعقب وقف إطلاق النار، تشكيل حكومة انتقالية من القوى السياسية. وأتمنى أن تمر هذه المرحلة الحرجة من دون نزاع على توزيع السلطة، وعندئذ ستقوم هذه الحكومة الموقتة بعقد مؤتمر لإقرار الدستور وتحديد موعد الانتخابات العامة الحرة. وخلال هذه المدة ستكون "الثقة" بين الزعماء والمجموعات البشرية عادت إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً. ووقتها، ربما يتنازل الجنوبيون عن حقهم في عقد استفتاء لتقرير المصير، فسيكون البترول تدفق، والمستثمرون العرب والأفارقة وغيرهم تدفقوا أيضاًَ لاستثمار موارد السودان الوفيرة، فيعم الخير ويتوطد السلام.
ولديَّ إحساس داخلي عميق، لا يستند إلى تحليل واضح، بأن الوصول إلى سلام أو إلى بداياته في السودان قد يسبق الوصول إلى سلام حقيقي في فلسطين.
وفي النهاية، لا أجد ما اختم به هذه الانطباعات المتفائلة، إلا بأن أشير إلى أخبار توقيع اتفاقات بين كل من حكومتي مصر والسودان في 16 مجالاً مختلفاً، لن تظهر فاعليتها إلا مع بداية مسلسل السلام، والاتفاق على وقف اطلاق النار وصولاً إلى سودان جديد. ثم هناك قرار صدر عن 15 دولة اجتمع ممثلوها في جنيف من 26 حزيران الماضي الى 28 منه في مقدمها، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا واليابان، وشاركت في الاجتماع نفسه 23 وكالة وهيئة دولية متخصصة، في مقدمها البنك الدولي والوكالة الكندية للتنمية ومنظمة الاغذية والزراعة، وعدد من صناديق التمويل العربية والإسلامية. هذا القرار التزامت بمقتضاه تلك الباقة من الدول والهيئات بدفع 140 مليون دولار للاسهام في مشاريع في السودان والدول الأخرى في حوض النيل، على أن تتلو ذلك اسهامات يصل إجماليها إلى 3 بلايين دولار خلال فترة تتراوح بين 15 سنة و20.
وليس لهذه الدول والهيئات المانحة من شرط إلا أن تتفهم دول حوض النيل مصالحها المشتركة وأن تكتشف وسائل تلبيتها. وهو أمر يحتاج أولاً إلى السلام، وكل ذلك هو ما يدعوني إلى التفاؤل.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.