موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المسعودي الى ابن خلدون : الأوائل في اخبار المؤرخين والإخباريين العرب
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 2001

تحفل كتب التاريخ والأدب واللغة عند العرب، في عصورهم المتقدمة، بأخبار اوائل من أحدثوا أموراً فكانوا سابقين، وأخبار أمكنة أُحدثت أو شهدت مُحدثات، وأخبار امور وقعت ابتداء ونسبت الى اشخاص رائدين او أمكنة، وهي اخبار فيها الغث والسمين، وفيها المحقق والمشكوك فيه، وفيها الصادق من غير جدال والكاذب من غير جدال، وكانت كلها روافد في ثقافة الشعراء منذ عصر الجاهلية، ومصادر في كتب المؤرخين يقبلها بعضهم من دون تمحيص، ويقيسها بعضهم بمقاييس الجرح والتعديل فيقبلون منها ما يبدو لهم معقولاً أو ما تؤكده الوقائع، وينبذون ما لم يجدوا له سنداً أو خالف العقل.
ويتضح من مطالعة ما جاء متفرقاً في المصادر القديمة من اخبار الأوائل الذين أحدثوا أعمالاً أو أقوالاً أو سُنناً، ان المعتمد في الغالب هو اخبار الإخباريين الأوائل والنسابة، وقد كانوا - قبل الشروع في انتهاج المناهج التاريخية العلمية، ولا سيما منهج عبدالرحمن بن خلدون - محط ثقة، تؤخذ أخبارهم على عواهنها، وتقبل خصوصاً حين ترد في سياق الطرائف المثيرة.
كما يتضح ان الشروع في تمحيص امثال هذه الأخبار احتاج الى زمن طويل تطور فيه العرب، واتسعت فيه مداركهم وثقافاتهم، بتأثير من تطور دولهم وحياتهم المادية واحتكاكهم بالأمم المتقدمة عليهم، وكان لمنهجهم في علوم القرآن وعلوم الحديث ومصطلحه اثره المبكر الحاسم، ثم كان لعلم الكلام أثره، وللفلسفة العربية الإسلامية اثرها.
ولكن أخبار "الأوائل" بقيت مبثوثة هنا وهناك، في "أيام العرب" وروايات الإخباريين وكتب الأدب ومصنفات الشعر وكتب اللغة، ولم يتفرغ لوضع كتاب في هذا الباب غير كاتب هو ابو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري المتوفى سنة 395 للهجرة، وسمّاه "الأوائل"، وبين يدينا طبعة منه صادرة عن دار الكتب العلمية في بيروت، في العام 1417ه = 1997م.
ويُلاحظ، ابتداء، ان كتاب أبي هلال العسكري هذا كتاب ادب وطرائف، وأن أكثر اخبار الأوائل فيه مما يقبله العقل وتؤيده المصادر والوقائع، لقرب عهده بما صنّفه من هذه الأخبار والطرائف، إذ هي - في غالبيتها - اخبار رجال مشهورين في صدر الإسلام وفي دولة الأمويين ودولة العباسيين، مع قليل من اخبار الأوائل في العصور المتقدمة التي بعدت الشقة بينه وبينها، وقد اخذها كما انتهت إليه من دون ان يناقشها، لأنه إنما كان يرمي الى نوادر الشعر والأدب وأخبار المجتمع، يمهد لها بذكر اوائل من أحدثوا أمراً أو قولاً، ومنهجه في ذلك إسناد الأخبار الى المحدِّثين، على طريقة رواة الحديث النبوي الشريف، وأحياناً ما تأتي سلسلة السند موثوقة وأحياناً ما تأتي واهية، ومن يشأْ يستطع مراجعة حواشي الكتاب التي وضعها عبدالرزاق غالب المهدي.
نخلص من هذا التعريف الموجز بكتاب "الأوائل" الى أنه ليس المصدر الصالح لأي عمل نقدي ينظر في صحة اولية الأمور الكبرى، إذ هو كتاب أدب وطرائف، علاوة على ان منهج العسكري فيه يسمح بوضع الكثير من الكتب التي تتحرى على نسقه أوليات ما طرأ في حياة العرب الدينية والسياسية والحربية والاجتماعية، إنه - أي "الأوائل" - كتاب يرصد الجديد في حياة مجتمع يعيش مرحلة انتقالية لا بد فيها من تغيير العادات والسنن.
هكذا تبقى الأخبار المتصلة بنشأة الإنسان وبأوائل المخترعين في مجالات الحرف واللباس والسلاح وغير ذلك، هي ما يقع تحت طائلة النقد، إذ توهمها الإخباري غالباً، وصدّقها المتلقي غالباً، قبل ان يتأثر الرواة - كما تقدم - بعلوم القرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة.
ونحن نلاحظ ان من توهموا "أوليات" الأمور والأحداث والاختراعات في العصور المتقدمة، انما انطلقوا من حقيقة اولية الله عزّ وجلّ، فهو الأول وهذا اسم من اسمائه الحسنى، كما انطلقوا من بدء الخليقة، فآدم وحواء أول آدميين خلقهما الله، وكذلك انطلقوا - في ما يبدو لنا - من فكرة ظهور الإنسان والأشياء من عدم. ولأن الإخباريين يجهلون حقائق الأمور، إلا ما كان من حقائق العصور التي عاشوا فيها، توهموا كثيراً، ونسبوا "الأوليات" الى الأنبياء، واكتفوا!
فلا غرابة - بعد ذلك - ان تنسب صناعة الدروع الى داود وابنه سليمان، أو أن تنسب الفلاحة الى آدم والخياطة الى ادريس والنجارة الى نوح، ومرجعهم في ذلك الى أخبار أحبارِ اليهود، أو إلى الوقوف عند ظاهر النص القرآني الكريم، كما فعلوا في شأن النبي داود، واعتبارهم انه أول من صنع الدروع، فيما يخبرنا النص القرآني ان الله عزّ وجلّ علّم داود صنعها، وهو ما نفهم منه ان داوداً عليه السلام تعلم - فيمن تعلموا - هذه الصناعة، وأن النص القرآني لم يذكر أولية داود في هذا الميدان، يقول الله في كتابه العزيز، في شأن داود عليه السلام: "وعلّمناهُ صنعةَ لَبُوسٍ لكم لِتُحصِنكم مِنْ بأْسِكُمْ فهَلْ أنتُمْ شَاكِرون" الأنبياء: 80، وقال عزّ وجل: "ولَقَدْ آتَيْنا دَاوُودَ منَّا فَضْلاً يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ* أنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ وَاعمَلُوا صالحاً إِنِّي بما تَعْمَلونَ بَصِيرٌ" سبأ: 10 و11.
إن حقيقة اشتغال داود عليه السلام بصنع الدروع ثابتة في النص القرآني، ويبدو انها كانت شائعة في الجاهلية من طريق التوراة، بدليل ذكرها كثيراً في شعرهم، حتى ليندر شاعر لم يذكرها، حتى لنظن ان الدرع التي نسجها داود صارت طرازاً يحتذيه صُنّاع الدروع العرب، إذ لا يعقل أن تُتوارث دروع المحاربين على كثرتهم وكثرة أيامهم ووقائعهم، والشقة - الى ذلك - بعيدة بينهم وبين داود.
وممن ذكروا دروع داود عليه السلام الشاعر الحصين بن الحمام المري المفضليات، ص 66، فقال:
صَفَائِحَ بُصْرَى أَخْلَصْتها قُيونُها
ومُطَّرِداً مِنْ نَسجِ داودَ مُبْهَمَا
وتردد ذلك كثيراً في شعرهم، وربما نسبوا هذه الصناعة الى سليمان بن داود عليهما السلام، فَقبِلَ شراح الشعر الأمر كما هو، أو ناقشه بعضهم وصححوه، ومن هؤلاء شارح ديوان أوس بن حجر الذي لا يناقش قول اوس:
وبَيْضاءَ زَغْفٍ نَثْلَةٍ سُلَّمِيَّةٍ
لَهَا رَفْرَفٌ فَوْقَ الأَنَامِلِ مُرْسَلُ
فهو يكتفي بالقول: "سلّمية: نسبة الى سليمان بن داود"، فيما يصحح شارح ديوان النابغة الذبياني فيقول: "أراد بسليمان داود"، في قول النابغة:
وكلُّ صَموتٍ نَثْلَةٍ تُبَّعِيَّةٍ
ونَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قضَّاءَ ذائِلِ
ويضيف ان داود "أول من عمل الدروع، فنسبت إليه، لذلك قال الأسود بن يعفر:
مِن نسْجِ داوُدَ أَبي سَلاّمِ
ومثله ما جاء في "إصلاح المنطق"، في بيت للشاعر الحطيئة، وهو: "أراد سليمان وهو غلط، لأن سليمان لم يعمل الدروع وإنما عملها داود".
والظاهر أنهم تهيبوا - خشوعاً - نقد ما في القرآنِ الكريم إشارةٌ إليه، وإن لم يثبت ان النص القرآني - كما قدمنا - نسب أولية صنع الدروع الى داود فيما الثابت ان الله عز وجلّ علمه هذه الصناعة. غير أنهم لم يتهيبوا حين تعلق الأمر بصانع دروع آخر من المشاهير هو الملك اليمني تُبَّع، يقول أبو ذؤيب الهذلي:
وعَليْهِما ماذِيَّتانِ قَضاهُما
داوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
فيقول الأصمعي 122 ه - 215ه: "سمع بأنَّ داود كان سُخِّر له الحديد فكان يصنع منه ما أراد، وسمع بأن تُبّعاً عملهما فقال: عملهما تبّع، وظنّ انه عملها، وإنما أمرَ بها تُعمل، وكان تُبَّع أعظَم شأناً من ان يصنع شيئاً بيده". وطريفٌ ان يرى الأصمعي علوَّ الشأن في تبع وهو ملك ولا يراه في داود وهو نبي.
على هذا المنوال نسج الشعراء، فنسبوا الرماح الى سمهر، وتقويمها الى امرأته ردينة، وقالوا إن علاف أول من صنع رِحالَ الإبل، وإن نوحاً أول من صنع السفن، وأنّ الهالك الأسدي اول من عمل الحديد، وإلى عبدالقيس نسبوا الرماح العبدلية، وإلى قصيّ والمضاض بن جرهم نسبوا بناء الكعبة، وهذا الخبر الأخير ذكره الأعشى فقال في ص 175 من ديوانه:
فَإِنِّي وثَوْبي رَاهِبِ اللُّجِّ والتي
بَنَاهَا قُصَيّ والمُضَاضُ بنُ جُرْهُمِ
وعجز البيت شاهد في "شرح أشعار الهذليين" ص39، حيث يعترض الشارح فيقول: "لما لم يدْرِ كيف كان بناؤها، وإنما قال على التوهُّم، وقصيّ لم يبنِ الكعبة".
وتضيق العجالة عمّا في الشعر الجاهلي من ذكر "الأوائل"، وهو كثير، وعن خطرات نقدية مبكرة جاءت في كلام الشارحين، وهو على أية حال كلام شعراء كانت معرفتهم بالتاريخ محدودة، ومصادرها - في ما يبدو - بعض اخبار اليهود وأوهام الإخباريين، ومن هؤلاء: كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري، أبو اسحق: تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن ابي بكر، وقدم المدينة في دولة عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثير. حاشية في الصفحة 21 من مقدمة ابن خلدون، طبعة المكتبة العصرية، بيروت - صيدا: 1997، بتحقيق درويش الجويدي.
ولا يُلامُ شعراء الجاهلية إذا أخذوا بثقافة العصور على قصورها وغياب التدوين التاريخي فيها، وإنما يلام المؤرخون في العصور المتأخرة، إن هم ظلوا، بعدما توافرت لهم أدوات النقد والنظر العلمي والتمحيص. ولا يبرأ من ذلك حتى أولئك الذين رأى ابن خلدون انهم "ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة، وهم عنده "قليلون لا يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل، مثل ابن اسحق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير" ص10- 11، فابن خلدون يأخذ على المسعودي والواقدي ان في كتبهما "من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الاثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات" ص 11، ولا ينجو مع المسعوي والواقدي مؤرخون امثال الطبري والجرجاني وابن الكلبي والبيلي، ذلك ان من "أخبارهم الواهية" عنده "ما ينقلونه كافة في اخبار ملوك اليمن وجزيرة العرب انهم كانوا يغزون من قراهم باليمن الى افريقية والبربر من بلاد المغرب" ص 18.
ويذكر ان ابن خلدون نبه الى مغالط المؤرخين في كثير من اخبار الحروب وعدد الجنود في الجيوش المتقاتلة، وغير ذلك من احوال الملك والترف، وأنه ردَّ هذه المغالط الى "ولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب المؤرخ نفسه على خطأ ولا عمد، ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجها الى بحث وتفتيش، فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه" ص18. ونرى أن تنبيهه الى مغالطهم في شأن "الأوائل" يرد في صيغ مختلفة بينها التحفظ، أو التنبيه الى أنها من اوهام "العامة"، ففي القول ان ادريس عليه السلام هو اول حائك وخياط، يقول ابن خلدون: "ولقدم هذه الصنائع ينسبها العامة الى ادريس - عليه السلام - وهو أقدم الأنبياء. وربما ينسبونها الى هرمس، وقد يقال: إن هرمس هو ادريس".
ويقول ابن خلدون - على النسق نفسه في شأن أولية نوح عليه السلام في ميدان النجارة -: "وفيما يقال: ان معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام، وبها انشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. وهذا الخبر وإن كان ممكناً أعني كونه نجاراً، إلا أنّ كونه أول من علمها او تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. وإنما معناه - والله اعلم - الإشارة الى قِدم النجارة" ص381.
فكيف بالمؤرخين "المقلدين المتبلدين"، إذا كان هذا شأن من "ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة"؟ إن أولئك - كما يرى ابن خلدون - "يجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صوراً قد تجردت عن موادها، وصفاحاً انتضيت من أغمادها"، و"إنما هي حوادث لم تُعلم اصولها". ص 11 و12.
إذاً، فابن خلدون يشترط لصحة الأخبار - في ما يشترط - ان "تُعلم اصولها". فكيف علم الطبري مثلاً ان اول أرض هبط فيها آدم عليه السلام كانت الهند؟ 1/753- 754، طبعة خياط في بيروت، وكيف علم الهمداني ان صنعاء "اقدم مدن الأرض لأن سام بن نوح الذي أسَّها"؟ ص 82 من كتاب "صفة جزيرة العرب"، وكيف علم ابن الكلبي ان "عُميّاً" في المثل القائل "جئته صَكَّةَُ عُمَيٍّ" هو "رجل من العماليق اغار على قوم في وقت الظهيرة فاجتاحهم فجرى به المثل لكل من جاء في وقت الهاجرة لأنه منكر"؟ انظر جمهرة اللغة لابن دريد: 1/143.
إن في الإمكان تكرار السؤال بعدد الأخبار الكثيرة التي "لم تعلم اصولها"، في كتب المؤرخين. وأما كتاب "الأوائل" لأبي هلال العسكري ففيه ما لا يقل عن مئتين وتسعين خبراً معروفة الأصول، إذ هي اخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخبار الخلفاء والقادة المسلمين، وأكثرها في أوائل السنن وأوائل الخطب وأوائل الحدود الشرعية، مما وقع وأثبته الرواة الثقات، بإسناد يصح أو يضعف ثم يصح من طريق آخر، إلا اخباراً قليلة عن أوائل سبقوا الإسلام بقليل، ولكن اخبارهم قريبة العهد ممن حملوا الدعوة وشرعوا يدونون.
إن المغالط والأوهام تبلغ ذروتها عند مؤرخ يفترض انه ثقة، هو ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، المتوفى سنة 346 للهجرة، وهو صاحب "مروج الذهب"، إن صحّت نسبة كتاب آخر إليه هو: "أخبار الزمان".
إن فضل المسعودي على المؤرخين واضح في تقريظ ابن خلدون لكتاب "مروج الذهب"، فاقرأ قوله: "فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أسٌّ للمؤرخ تنبني عليه اكثر مقاصده وتتبين به اخباره. وقد كان الناس يفردونه بالتأليف، كما فعله المسعودي في كتاب "مروج الذهب"، شرح فيه احوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثلاثين والثلاثمئة غرباً وشرقاً، وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والآفاق لعهده والدول وفرق شعوب العرب والعجم، فصار إماماً للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلاً يعولون في تحقيق الكثير من اخبارهم عليه" ص 38.
ولم يشر ابن خلدون الى كتاب آخر للمسعودي باسم "اخبار الزمان". "أخبار الزمان" هذا نشرته دار الأندلس في بيروت بإشراف "لجنة من الأساتذة"، وتاريخ الطبعة الثانية سنة 1966م، وقدّم له عبدالله الصاوي بمقدمة يترجح فيها بين الشك في نسبة الكتاب الى المسعودي، واليقين بها، ويبدو الى اليقين أميَلْ.
ونذهب مباشرة الى القول إن نسبة الكتاب للمسعودي لا تصح بأي وجه، فهو كتاب أساطير، عن امم بائدة وأمم لم تكن أصلاً، وأوطان لم تكن أصلاً كذلك، وفيه اخبار المخلوقات السابقة على آدم فكيف علم اصولها؟، وفيه اخبار الجان وأجناسهم وقبائلهم وفيه عجائب البر والبحر، لا كما جاءت في الكتب الموثوقة، بل كما جاء بها خيال واسع يتوهم الأحداث فيصدقها ثم يعممها. وقد احصينا في هذا الكتاب الكثير من أخبار من عدَّهم المؤلف المجهول "أوائل"، وحسبنا الإشارة الى القليل، لنعرف مضمون الكثير، فهو يتحدث مثلاً عن عودة مُلكِ مصر الى "اشمون" وهو اول من عمل النيروز بمصر ص206، كما يتحدث عن ملك مصري يسميه "شدات" ويقول - بيقين - انه "أول من احب الصيد واتخذ الجوارح وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية، وعمل البيطرة وجميع ما يعالج به الدواب، وعمل من العجائب والطلاسم لكل شيء ما لا يحصى كثرةً" ص 196، ويتحدث قبل ذلك عمّن سمّاه "قبطيم الملك"، الذي "يقال ان القبط منسوبون إليه، وهو أول من عمل العجائب، وأثار المعادن، وشق الأنهار، ويقال إنه لحق البلبلة وخرج منها بهذا اللسان القبطي، وعمل ما لم يعمله أبوه من العمارات، ونصب الأعلام والمنارات والعجائب والطلسمات" ص183. والأطرف ما يسوقه من اخبار اوائل الفراعنة، ومنهم "فرعان بن ميسون، وكان احد الجبابرة الذين لا يطاقون وهو اول فرعون تسمى بهذا الاسم... وقال اصحاب التاريخ من اهل مصر: إن أول من تسمى بفرعون غلام الوليد بن دمع العماليقي" كذا! ص 176.
نخلص من ذلك الى أن العرب التفتوا الى أولية الخلق، فأسسوا عليها أولية لكل شيء، وكان منه المغالي الواهم، وكان منهم الذي توسط والذي صدق لأنه عاصر ورأى وعلم الأصل، حتى وضعوا للتاريخ عللاً، واشترطوا فيه وفي المؤرخين شروطاً. إلا انّ ما جاء في أخبار الأوائل وكان جزءاً من مغالطهم، كان ممتعاً مندرجاً في الطرائف المسلية ايام كانوا يبحثون عن سلوى.
غير ان وقائع التاريخ لا تؤخذ هكذا... ويرحم الله ابن خلدون، لقد سنّ لنا سُنناً في كيفية تعليل التاريخ، سبق بها الشرق والغرب، وهي حَرِيَّةٌ بأن تطهرنا، نحن مالكي تراث ابن خلدون، قبل غيرنا من، مغالط.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.