في الوقت الذي تصحح فيه الاسواق المالية الاميركية اوضاعها مع خفض معدلات الفائدة ما انعكس ايجاباً ولو بشكل محدود على مثيلاتها الاوروبية، بقيت بورصة الدار البيضاء على حالها من التخبط السلبي الذي دفع بمؤشرها للهبوط مجدداً كي يلامس الخطوط الحمراء. لم تنفع جميع المحاولات والمبادرات والوعود التي اعلنتها السلطات المغربية المختصة وشركات الوساطة العاملة في السوق المالية في لجم الانحدار الذي وصفه احد المحللين الماليين المغاربة بالقول: "ان البورصة ليست الا الانعكاس الواقعي لوضعية الاقتصاد بشكل عام. وبالتالي فان الدينامية الاقتصادية هي اذن الشرط الاساسي لاي انطلاقة ثابتة ومستدامة للبورصات". ان التراجع الذي تشهده السوق المغربية اليوم هو تكملة لسلسلة النكسات التي منيت بها منذ اكثر من عامين والتي فرضت نوعاً من الذعر النفسي لدى صغار المتعاملين الذين يحاولون انقاذ ما تبقى من "تحويشاتهم" المتواضعة عبر البيع باسرع وقت ممكن للاسهم التي لا تزال بحوزتهم. نتيجة لهذا الواقع تغرق بورصة الدار البيضاء مجدداً في الرمال المتحركة التي تحيط بها من كل جانب، قاضية بذلك على الآمال المصطنعة التي بنيت على قاعدة خطة الانقاذ العاجلة التي اعلن عنها وزير المال فتح الله ولعلو في شباط فبراير الماضي لاعادة الثقة المفقودة بهذه السوق التي اعتبرت منذ اعوام "زهرة الاسواق الناشئة". ما الذي يحدث تماماً اليوم، وما هي الاسباب التي دفعت بهذه البورصة للتراجع المنتظم؟ ولماذا لم تتمكن ادارتها على رغم التغييرات التي استحدثت والادوات التي ادخلت على بنيتها وضمها لمؤشر "مورغان ستانلي" العالمي الخاص بالدول الناشئة من اعادة انطلاقتها وجذب المستثمرين اليها؟ الجواب على هذه التساؤلات مجتمعة يبدو سهلاً لناحية اعتبار خبراء هذه السوق بأن الخطوات المتخذة حتى الآن يمكن اعتبارها بمثابة اصلاحات جوهرية. فكل الاجراءات المعلن عنها ارتبطت بغالبيتها بعامل الوقت. واذا كانت الخطة التي التزم فرضها الوزير ولعلو مهمة وضرورية لكونها تستهدف تطوير وتحديث السوق المالية برمتها وليس فقط بالشق المتعلق ببورصة الاوراق فان تطبيقها العملي قد تعثر بسبب قيام لجنة التشاور التي كلفت بهذه المهمة بدورها المطلوب. كما لم تكلف اللجنة نفسها عناء امداد المتعاملين في هذه السوق بالمعلومات الضرورية المستجدة. كل ما قامت به هذه اللجنة لم يتعد تكرار البيان الصادر عن الخزانة العامة الذي اشار الى العودة للسوق المالية العالمية بهدف تجنب التذبذبات الحادة لاسعار الفائدة. لكن يبقى السؤال: هل تملك الخزانة العامة الامكانات والادوات القادرة على الحصول على هذه الاموال المنشودة في اسواق الرساميل الخارجية؟ بناء عليه، يمكن لهذا التوجه، من حيث المنطق، ان يعيد النشاط لبورصة الدار البيضاء ويجعلها اكثر جاذبية بالمقارنة مع نظيرتها في منطقة "مينا" المتوسطية. لكن المسألة تبدو اصعب من ذلك نظراً لهروب المستثمرين الاجانب والانسحاب المتتالي لصناديق ومحافظ استثمارية انكلوساكسونية عدة بحثاً عن ارباح اوفر. فلهذا الهروب اكثر من اثر اذ انه يسحب معه هروب المودعين خصوصاً المتعاملين الصغار منهم والذي بدونهم تفقد البورصة المغربية احدى مبررات وجودها الاساسية. في ظل هذه المناخات التشاؤمية التي تلقي بظلالها منذ اكثر من ستة اشهر على البورصة المغربية، جاء بريق امل بانقاذ هذه الاخيرة من خلال الخطة التي اعلن عنها وزير المال وسط ضجيج اعلامي وصفه بعض المنتقدين في حينه بالمفتعل. لكن التقدم المرجو في هذا السياق قد جاء بطيئاً في حين كان من المتوقع ان ينجز الجزء الاكبر من هذه المبادرة بنهاية الفصل الثاني من السنة الجارية. بالفعل، لقد التزم ولعلو تقديم نصوص القوانين المتعلقة باعادة تنظيم وتداول الاوراق المالية المطروحة في البورصة واطلاق "صندوق التوفير بالاسهم" الذي بات آخر التقليعات في اسواق المال الاوروبية لاستدرار توفير الافراد. لكن الوعود المعطاة صادفت معوقات ذاتية وموضوعية وحتى بيروقراطية منعت من تنفيذ الخطة المرسومة اذ ان الوزارة المعنية وجدت نفسها مجبرة على تقديم النصوص للامانة العامة لرئاسة الوزراء قبل ان تحط رحالها على جدول اعمال الجلسة القادمة للبرلمان، المقررة في بداية الخريف. بالاضافة الى ذلك تعهد مسؤول مالية المملكة بوضع الاسس الكفيلة برسم سياسة جديدة للضريبة المفروضة على حسابات التوفير. من ناحية اخرى سقطت رهانات المحللين الماليين على ادماج بورصة الدار البيضاء في مؤشر "مورغان ستانلي" اذ انه سرعان ما تبدد الامل باحداث تحسن سريع بسبب عدم التفاعل من قبل السوق المالية مع هذا الحدث الذي كان من المفترض به ان يشكل رافعة تؤدي الى عودة المستثمرين الأجانب "الفارين". اما بالنسبة للنشاط بحد ذاته، فالنتيجة جاءت أكثر من مخيبة للآمال بحيث ان حجم التداولات بقي متدنياً بشكل ملفت. فخلال عدة جلسات، لم تتجاوز هذه التداولات في بورصة الدار البيضاء ما قيمته 30 مليون درهم الدولار يعادل 11 درهماً تقريباً. ويترافق هذا الضعف في الأداء والرسملة مع إحجام قوى السوق المالية المؤثرة مصارف، وشركات تأمين، وشركات الوساطة المالية الرئيسية الدخول في اللعبة الدائرة بجدية، مكتفية بالابتعاد المدروس، تاركة الساحة للمتعاملين الصغار، الذين بدأوا بملء الفراغ على طريقتهم المتواضعة. مع ذلك، تجدر الاشارة لادارج شركتين جديدتين ذات وزن على لائحة الأسهم المتداولة في الردهة هذه السنة، مقابل واحدة في العام الماضي وهي شركة "مناجم"، التابعة للمجموعة المالية الأولى في المملكة "أونا". اما الشركتان الجديدتان فهما: "يونيمير" و"اي بي ماروك". لكن القيمة المسجلة لم تكن متطابقة مع التطلعات. في حين ادى التخبط الى فقدان السوق 13 في المئة من قيمتها خلال الاسابيع الأولى من السنة الجارية ساهم اعلان وزير المال عن خطته الجديدة ليس في محو الخسائر المتراكمة فحسب، بل سمح بتحقيق أرباح وصلت الى حدود تسعة في السنة لناحية الأداء. لكن، سرعان ما عاد التراجع ليطغى على كل شيء مع حلول شهر آذار مارس الماضي. ولم يغير نشر النتائج السنوية التي أظهرت ارتفاعاً بشكل عام، الحد من النزف المستمر. إذ تابع نشاط السوق تطوره وفق نمط أسنان المنشار، ليشطب بذلك جميع الأرباح التي تحققت في الأسابيع الماضية ويعيد البورصة الى نقطة البداية، أي دون مستويات نهاية السنة الماضية. وتابع التراجع طريقه حتى بداية شهر تموز يوليو بحيث أقفلت جلسة الثاني من هذا الشهر عند ناقص 3.22 في المئة لناحية الأداء السنوي. انطلاقاً من هنا، يمكن القول بأن هذا الجو السلبي، المترافق مع البورصة واداؤها، لا يمكن فصله، بأي حال من الأحوال، عن الحالة الانتظارية التي تسود القطاعات الاقتصادية كافة في المغرب، والتي بدأت تقلق المسؤولين والنقابات والمواطنين على السواء. فالعودة عن معدل النمو الذي أعلن في بداية السنة من قبل الحكومة بحدود تسعة في المئة والذي أصبح الآن أقل من ستة في المئة بانتظار ما ستؤول اليه الأوضاع الاقتصادية مع انتهاء السنة وتجاوز محنة الجفاف، كما حصل عام 2000، أي أقل من واحد في المئة، لا بد وأن يزيد في وضعية البورصة الحالية تعقيداً. لذا، واستباقاً للأمور، عمدت وزارة المال بالتنسيق مع القوى الأساسية المتعاملة بالسوق البحث في ايجاد مخارج تقوم على قواعد تحريك السوق. لكن الخطوات العملية لا يمكن ان تكون ذات فائدة فورية في ظل اقتصاد "نائم"، على حد قول احد الوزراء في حكومة عبدالرحمن اليوسفي. بناء عليه، فإن انطلاقة بورصة الدار البيضاء لن تكون على الأرجح خلال الفصل الثالث ولا الرابع من هذه السنة. ويعزو بعض مديري شركات الوساطة المالية الأوروبية الممثلة في المغرب خيبة الأمل الحاصلة وإحجام المستثمرين الفاعلين في تركيز نشاطاتهم على البورصة، الى التدخلات الحادة التي قامت بها حتى الآن ادارة الضرائب، وأدت الى تراجع أرباح هؤلاء بعدما عملوا في الأعوام الخمسة الماضية على تنشيط السوق المالية. ويرى هؤلاء المديرون بأن النقاش حول تخبط البورصة لا بد وأن يخرج من الدوائر الضيقة التي تسيطر على قراراتها وزارة المال كي تصبح شأناً لجميع المتعاملين فيها دون استثناء، الأمر الذي يمكن أن يؤدي في حال أحسنت برمجة الخطوات الى جذب جزء من الرساميل الأجنبية الهاربة. كذلك، ايجاد مصادر جديدة لتمويل الشركات المحلية، وبالتالي السماح من خلالها للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم الحصول على قروض مصرفية تمكنها من دخول السوق المالية بدون ضغوطات تذكر. فسلوك هذا النهج لا بد وأن ينمي "الرأسمال الشعبي" الذي يساعد صغار المدخرين كي يصبحوا مساهمين بمعنى آخر، تطوير ثقافة الشفافية التي ستسحب نفسها تدريجاً على النسيج الاقتصادي في البلاد. ان أي اصلاح للبورصة المغربية، والحالة هذه لا يمكن أن يتحقق إلا وفق تصور شامل من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. وجميع الترتيبات الآنية المسماة "بالتقنية" ستكون آفاقها محدودة ولا تخدم الأهداف المعلن عنها مراراً. فرأس المال، سواء أكان محلياً أو أجنبياً لا يمكن اعتباره "ملتزماً ولا مناضلاً" في سبيل الاقتصاد الوطني. فهو لا يلتزم الا بمقدار الأمل بربحية مضمونة وكافية، يعززها استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي تضمنه الدولة. هذا هو في نهاية المطاف بيت القصيد الذي يعطي التفسير للتراجع المنتظم لبورصة الدار البيضاء. * اقتصادي لبناني.