انطوني سامبسون ترجمة: هالة النابلسية وغادة الشهابي. مانديلا - السيرة الموثقة. دار العبيكان، الرياض. 2001. 950 صفحة. سفر نفيس عن حياة شخصية فذة. المناضل التاريخي ورجل الدولة نيلسون مانديلا. إنها سيرة حياة ملحمية تعتبر واحدة من أهم ملاحم القرن العشرين. فتح مانديلا لكاتب هذه السيرة، انطوني سامبسون، سيلاً غير مسبوق من رسائله المنشورة والتي لم تنشر، فضلاً عن أسرار حياته الشخصية التي بقيت مكتومة، الأمر الذي ساعد المؤلف على تدوين أشمل وأوسع عمل في حياته. عرف انطوني سامبسون مانديلا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، وأجرى المقابلات الشخصية العديدة مع زملائه وأصدقائه وأفراد أسرته وسجانيه. كما قابل عشرات الشخصيات السياسية التي رافقت مانديلا في مسيرة حياته الطويلة. ويعود شغف سامبسون بشؤون جنوب افريقيا إلى 1951، بعد تخرجه من جامعة اكسفورد حيث عمل محرراً في مجلة "درام" في جوهانسبورغ، وكان لقاؤه الأول مع نيلسون في سوويتو في الوقت الذي كان فيه مانديلا يحضّر لحملته ضد النظام العنصري. وتوثقت صلته بعد ذلك به لاعجابه الشخصي به، وهذا ما جعله يتابع محاكمته منذ 1958. وفي 1960 أصدر كتاباً عن فصول هذه المحاكمة، وظل على صلة بمانديلا حتى دخل الأخير السجن عام 1964 ليبقى فيه حتى 1990. يسلط الكتاب الأضواء على كل منعطف في خيارات مانديلا الشخصية، وأهم جوانب حياته الخاصة والعامة. فهو دفع ثمناً مأسوياً لصراعه من أجل الحرية ضد النظام التمييزي العنصري الابارتيد مما أوقع العداء لا بينه وبين خصومه فحسب، بل حتى مع أقرب الناس إليه. أما السجن فكان أشبه بمعهد جامعي بالنسبة الى مانديلا إذ حوله، كما يرى المؤلف، من "ثائر فج" إلى رجل دولة من الطراز الأول. يقول المؤلف: "أحاول في هذا الكتاب أن انفذ إلى داخل ايقونة مانديلا لأعرض الحقائق المؤلمة لرحلته الطويلة المحفوفة بالمخاطر، مجردة من وهج الاسطورة". في هذا المؤلف الضخم بأجزائه الثلاثة، وفصوله الأربعين، يختزل سامبسون لا سيرة مانديلا وحده، بل سيرة بلاده كلها في تلك المرحلة الصعبة والقاسية من الصراع ضد التمييز العنصري والحصول على الاستقلال. وهو يبين لنا كيف عامل الديبلوماسيون البريطانيون والأميركيون مانديلا بازدراء واستخفاف، وكيف أدار له الشيوعيون ظهرهم، وكيف شجع البريطانيون قبائل الزولو ضده. وهو من خلال عرضه لحقائق حياة مانديلا القاسية والطويلة، حاول أن يفسر كيف استطاع القائد الجنوب افريقي أن يربط الرمز بالواقع. وقصة سجن مانديلا كانت لها قيمة فريدة عند المؤلف إذ وفرت له، بما فيها من زخم إنساني، مسرحية صادقة حميمة. أجل، كانت علاقات مانديلا بأصدقائه وسجانيه مسرحية درامية استثنائية ذات مغازٍ تجاوزت السياسة الافريقية. ومع أن فترة سجن مانديلا الطويلة قد صورها بعض كتّاب السِيَر، أو المحللون السياسيون، على أنها بمثابة فجوة طويلة، إلا أن المؤلف رآها مفتاحاً لتطور شخصيته، التي صارت شخصية عالمية في ما بعد. ومانديلا ما يزال يحتفظ بزنزانته داخل نفسه... ربما لتحميه من العالم الخارجي، وتضبط عواطفه، وتوفر له عزلة الفيلسوف. إنها فترة السجن التي جعلته يطور فن السياسة، كيف يقنع ويداهن، كيف يحول سجانيه إلى تابعين، وكيف أصبح في نهاية الأمر سيداً في سجنه... ثم سيداً في قومه... ثم شخصية عالمية تكاد لا تقل عن شخصية متواضعة مثله هي شخصية غاندي. يحكي المؤلف كيف استُقبل مانديلا استقبال الفاتحين في قاعة ويستمنستر في لندن عام 1996، وكانت آخر مرة فتحت فيها أبواب هذه القاعة في 1960 لاستقبال الجنرال ديغول. في هذا الحفل الكبير الذي اقيم على شرف الضيف العظيم، ضيف صاحبة الجلالة، قالت السيدة مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء آنذاك، "إن كل من كان يعتقد قبل تسع سنوات أن حزب المؤتمر الوطني الافريقي سيشكل حكومة يوماً ما في جنوب افريقيا، كان يعيش في أرض الأحلام. والآن تحققت أرض الأحلام في قاعة ويستمنستر". هذا هو مانديلا رجل التاريخ الأخير في سلسلة القادة الثوار في آسيا وافريقيا، الذين حاربوا لنيل حريتهم وسُجنوا وأهينوا ثم اعترف بهم حتى أشد اعدائهم. هذا هو مانديلا آخر عظماء القرن العشرين، والذي ما يزال يعيش بيننا أشبه بالقديس مما برجل الدولة. ومع هذا، فإن المؤلف، مع شدة اعجابه بشخصية مانديلا، لم يحاول أبداً أن يصوره قديساً. إذ لا يستطيع قديس أن ينجو بنفسه وقد عاش في غابة السياسة خمسين عاماً! فلمانديلا إذن نصيبه من الضعف الإنساني: فيه العناد والكبرياء، وفيه البساطة والسذاجة، وفيه الاندفاع إلى حد التهور أحياناً. ومع عمق الغوص في شخصيته يعترف المؤلف: "لم أعرف مطلقاً ما إذا كنت أتعامل مع قديس أو مع شخصية ميكيافيلية!". لكنه يقر لمانديلا بأنه أتقن السياسة بمعانيها العريضة الواسعة، وأتقن فن اقناع الجماهير. وكأني بالمؤلف يريد أن يقول لنا إن ذاك الزعيم مزيج من غاندي وتشرتشل، إنه الوجه الافريقي لشخصية سياسية إنسانية متميزة وعالمية. يبقى ان لسؤال اللغز الذي حاول المؤلف ان يطرحه في كتابه هذا هو: "لماذا يجذب شيخ سياسي افريقي هذا التعاطف والحب الفريدين في زمن يتزايد عدم الثقة بالسياسيين في كل مكان في العالم؟". لقد احتاجت الاجابة منه عن هذا السؤال مئات الصفحات، ومئات اللقاءات والتنقلات والأسفار، واستقصاء الملفات وقراءة الرسائل. ولعله وُفّق بعد هذا الجهد الجهيد إلى انتاج كتاب مرجعي فريد من كتب السيرة لشخصية سياسية ستبقى علَماً في حياتنا المعاصرة، وحياة الأجيال القادمة.