} تمنح البنوك في مصر ما يزيد على 30 بليون جنيه 7.85 بليون دولار قروضاً سنوية الى عملائها. لكن هذا الرقم الهائل للائتمان المحلي قد لا تستطيع البنوك استعادته كاملاً وباتت الخسارة واقعاً بعد أن تسربت مئات الملايين الى الخارج في موجات غير منتظمة لكنها منظمة. اذا كانت إثارة قضية الائتمان المحلي تنطوي على إدانة الوضع في سوق الائتمان في مصر حالياً، الا انها ليست هجوماً موجهاً ضد أحد، وهي كذلك، لن تكون مهادنة مع أي طرف، لأن الهدف هو كيفية تفادي ما وصلت إليه الأوضاع الراهنة في هذه السوق، وبحث ما اذا كان يمكن مد نطاق التسويات بين البنوك ورجال الاعمال والنظر في إمكان ملاحقة مهربي الأموال أو تعويض البنوك ما فقدته. هناك تسويات شهيرة تمت أخيراً بعضها نجح تماماً مثل التي تمت بين "البنك الاهلي" ورجل الاعمال محمود وهبة، وكذلك التسوية التي تمت بين "بنك مصر اكستوريور" و"بنك القاهرة" من جهة ورجل الاعمال محمد الجارحي. وكانت أشهر التسويات تلك التي كان طرفها رجل الاعمال رامي لكح و"بنك القاهرة". اما آخر التسويات التي يتردد أنها قد تمت فهي التي توصل اليها اخيراً رجل الاعمال احمد بهجت مع "البنك الاهلي"، علماً ان هناك العديد من التسويات التي لم تنجح بسبب صعوبات عدة. والسؤال: إلى أي حد يسمح اسلوب "التسويات" مع رجال الاعمال باستعادة البنوك أموالها؟ وهل تملك البنوك بديلاً لملاحقة تلك الاموال الطائرة وراء الحدود؟ أرقام البنك المركزي تكشف أرقام البنك المركزي المصري، وهي الأرقام الرسمية التي يمكن تقصي حدود المشكلة من خلالها، أن نسبة القروض الى الودائع وصلت الى 6،88 في المئة في نهاية آذار مارس عام 2000. وهي نسبة تظل في الحدود القابلة للسيطرة عليها على رغم زيادتها المضطردة، ما يعني ان التوصل الى ضبط ايقاع السوق الائتمانية في مصر أمراً يمكن تحقيقه. لكن الصعوبة الفعلية تكمن في الرقم الاجمالي الذي كشف عنه البنك المركزي لحجم القروض التي منحت بلا ضمانات عينية حتى عام 2000 وتبلغ 1،74 بليون جنيه، بينما بلغ حجم القروض التي تضمنها ضمانات عينية 9،39 بليون جنيه وذلك ضمن بند القروض التي تستحق الدفع خلال السنة الواحدة وهو البند الأكبر لقروض وسلفيات البنوك التجارية في البلاد. وتقول ارقام البنك المركزي ايضاً إن قيمة القروض الممنوحة بضمانات غير عقارية مثل معدات الانتاج والمخزون السلعي، ضمن الائتمان الممنوح للعملاء في هيئة قروض تستحق السداد بعد سنة، قفزت من 4،37 بليون جنيه عام 1999 الى 4،50 بليون عام 2000، في حين كانت الزيادة في القروض المضمونة بضمانات عقارية طفيفة للغاية، إذ ارتفعت خلال الفترة نفسها من 3،3 بليون جنيه الى 7،3 بليون جنيه، أي أن عملاء البنك قابلوا المرونة غير العادية من البنوك في منح الائتمان بنوع من التحوط البالغ في تقديم ضمانات عقارية لقروضهم. وهناك نقطة أخرى تثير الدهشة في هذه الارقام وهي ان حجم الزيادة السنوية في منح القروض من دون ضمانات عقارية كان يبلغ في المتوسط نحو بليوني جنيه، إلا في السنة الاخيرة عندما ارتفع الى 13 بليوناً دفعة واحدة بزيادة تمثل خمسة أضعاف الرقم المعتاد. وقال المدير العام عضو مجلس إدارة البنك المركزي لتنمية الصادرات حمدي موسى إن العميل هو الذي يقرر أسلوب التعامل معه عند التعثر سواء باستخدام الطرق الودية أو غير الودية، مؤكداً أن المهم في هذه القضية هو حماية المال العام للدولة، ومن ثم لا بد من تكريس مفهوم ولاية الدولة المستمرة على أموالها وان يستقر ذلك في أذهان القائمين على منح الائتمان المصرفي ورجال الاعمال المستفيدين منه. وأضاف ان هذا يعني ان الدولة لا تفرط في المال العام ولو بالتقادم حتى يدرك كل من يفكر في الهروب ان الملاحقة مستمرة، مؤكداً أن القناعة لن تستأصل إلا اذا تواصلت الجهود لاستعادة هذا المال مرة أخرى الى مصر. وأضاف موسى الى أن الحق المصرفي لا يسقط بالتقادم مثلما الحال في العقوبة الجنائية، ما يحرم مهربي الأموال من العودة الى أرض الوطن حتى يسددوا ما استولوا عليه، ولهذا يبدو طريق التسوية من البداية هو الأسلم والأكثر ربحية لأنه يتضمن تسهيلات عدة للعميل الراغب في اعادة الجدولة شرط الجدية في التنفيذ. وأوضح ان البنوك الدائنة لرجل أعمال ما تشكل لجنة للتفاوض معه في الخارج، إذا كان غادر البلاد على غرار ما جرى مع رجل الاعمال مارك فهمي صاحب مجموعة "دوارف"، وتتفق معه على تيسيرات محددة من بينها اسقاط نسبة من الفوائد أو الدخول كشركاء في المجموعة لحين سداد المديوينة ولكن في النهاية لا بد من ضمان استعادة المال العام. ودعا الى ضرورة توقيع مصر اتفاق تبادل تسليم المجرمين مع دول الاتحاد الاوروبي بعدما صار اتفاق المشاركة يمنحها هذه الميزة، كما دعا الى ضرورة البحث في تشكيل هيئة قضائية للنظر في جرائم المال العام ومتابعة قضاياها بشكل مستمر ولو وراء الحدود. التسوية الجبرية من جهته، قال داوود محمد محمود المدير العام لفرع "كايروباركليز" في مدينة نصر ان أسلوب التسوية بين البنك وعملائه المتعثرين هو أفضل وسيلة لاستعادة البنوك حقوقها، ولكن لا بد من اعطاء التسوية مزيداً من القوة الجبرية والردع للعملاء المراوغين بحيث يكون لها أجل معلوم يحال بعدها العميل الى القضاء ويفقد العديد من المزايا التي كانت في حوزته. واذا كان العميل أو رجل الاعمال قد فر كما هو الحال في نحو 90 في المئة من حالات الديون الرديئة التي في حوزة البنوك، فلا بد من الضغط على هذه الفئة بإسراع السلطات النقدية الى طلب التوقيع العاجل لاتفاقات تبادل المجرمين بين مصر وعدد من الدول التي اشتهرت بهروب رجال الاعمال اليها مثل اليونان التي رفضت ان تعيد هدى عبدالمنعم اخيراً ورفضت قبلها اعادة توفيق عبد الحلي في اوائل الثمانينات. وأضاف داوود ان جرائم المال اصبحت تحتاج الى تشريعات دولية لحماية الدول التي تتعرض لها، كما هو الحال في التعامل مع حقوق الملكية الفكرية، فليس من المقبول ان نلاحق شركات كبرى حول العالم باسم هذه الحقوق فيما تعجز بعض دول العالم النامية خصوصاً عن استرداد بلايينها المهربة الى خارج الحدود بدعوى عدم وجود اتفاقات لتبادل المجرمين. ويقترح ان تتم الدعوة لإنشاء قسم خاص ب"الانتربول" لمواجهة جرائم المال يكون له حق الملاحقة والضبط بعيداًعن تعقيدات العلاقات الثنائية بين الدول. وأشار الى أن حجم الاموال المهربة خارج مصر بات يحتاج الى تضافر جهود الاطراف كافة وتشكيل لجنة مشتركة من مسؤولي البنوك وممثل البنك المركزي والسلطات القضائية والأمنية لمتابعة ملف الاموال المصرية المهربة الى الخارج. ويتفق أحمد سليم نائب المدير العام في "البنك العربي الافريقي الدولي" حول ضرورة الملاحقة القانونية والقضائية لرجال الاعمال الذين يثبت استيلاءهم على المال. أما أموال البنوك فلا يرى وسيلة لاستعادتها عن طريق الأساليب القضائية، فإذا لم يرتب البنك تسوية مع العميل، فإن الاموال التي هُرّبت للخارج من الصعب أن تسترد مرة أخرى. وأضاف سليم أن ذلك لا يعفي البنك من مسؤولية تكوين مخصصات للخسائر والتوسع فيها اذا لزم الأمر لحماية اصول البنك، ولا يهم وقتها ما اذا كان البنك سيوزع أرباحاً أم لا، فالعبرة تأمين المركز المالي للبنك. وشدد سليم على ضرورة دخول ذوي العميل الهارب كأطراف في التسوية للضغط عليه حتى لا يجد أي رجل أعمال مغامر الفرصة مهيأة للهرب بأموال البنك. وطالب من جانبه البنوك بمراعاة تفاوت قدرات عميل عن آخر عند وضع قواعد عامة واشتراطات للتسوية، فإن التعميمات كثير ما تجهض الحلول الممكنة. التدفقات النقدية على رغم المفارقة الواضحة التي تكشف عنها الارقام الرسمية حول حجم القروض من دون ضمانات التي تمنحها البنوك لعملائها، إلا أن اسماعيل حسن محافظ البنك المركزي يرى ان العبرة في تقديم الائتمان ليست في حجم ما يقدمه البنك من ضمانات عينية، ولكن العبرة في التدفقات النقدية للمشروع الذي يتقدم به العميل الى البنك طالباً التمويل. وهي عبارة عن الموارد المالية المتاحة التي تكفي لسداد ما يحصل عليه. ويرفض محافظ البنك المركزي ان تكون وسيلة البنك لاسترداد امواله هي التنفيذ على ما في حوزته من ضمانات لأن البنك ليست مهمته الحجز على الضمانات وانما الحصول على حقوقه من مصادر نشاط العميل. ولكن ماذا يفعل البنك اذا لم تكن أمامه أي وسائل أخرى، كما قال أحد المديرين العامين في إدارة الرقابة على البنوك في البنك المركزي، فسيلجأ الى هذه الضمانات للحجز عليها لانقاذ ما يمكن انقاذه لأننا نلزمه بذلك. فإذا لم يجد الضمانات كافية تكون قد وقعت هناك الأزمة، وصار أمام أحد خيارين، إما تعويم العميل اذا كان عميلاً جيداً يملك القدرة على النهوض واستئناف نشاطه من جديد وبالتالي تحمل اقساط الفوائد الجديدة وسدادها في آجال استحقاقها، او اذا كان العميل غير قادر على مواصلة النشاط والعودة مرة أخرى الى تدفقاته النقدية السابقة فلا بد للبنك أن يوقع الحجز على ضمانات العميل واتخاذ الاحتياطات اللازمة حتى لا يحاول الهرب الى الخارج حيث يفقد البنك على الأرجح أمواله. ويضيف مدير الرقابة على البنوك في البنك المركزي انه لا توجد أمام أي بنك بعد ذلك سوى الملاحقة القانونية ضد رجل الاعمال الهارب، وذلك بعد الرجوع الى المركزي وإبلاغه، وتظل الاتصالات بين العميل الهارب عن طريق محاميه لمحاولة اعادته والتباحث معه في إمكان التوصل الى عقد تسوية حتى يفقد البنك الأمل في استعادة أمواله. الطمع والجدية يرفض ممدوح كرم المدير العام في "بنك الاسكندرية التجاري والبحري" ان يكون هناك رجل أعمال ملتزم يقبل المغامرة باسمه والهرب الى الخارج لحين تسوية الوضع معه او الضغط على البنك بالوجود في الخارج عند التفاوض حول طبيعة هذه التسوية. ويؤكد ان هناك هامشاً دقيقاً بين "التعثر" و"الاحتيال". فالعميل المتعثر يسقط لأسباب اقتصادية لها علاقة بوضع ونشاط السوق ويستطيع البنك والعميل ضبطها وتتبعها منذ فترة، وقد يسهل مع ذلك اعادة تعويم العميل ودفعه مرة أخرى الى عبور هذه الكبوة، وهو ما يسميه البنك بال"جدية" في الالتزام، والتي يحفظها تاريخ العميل الائتماني الذي يتعين اثباته بشكل واضح عند منح أي ائتمان جديد كأحد عوامل الأمان. اما العميل الذي يصطنع دراسة جدوى وهمية او غير دقيقة ولا يستطيع سداد ما حصل عليه من ائتمان فهو "محتال". وفي بعض الأحيان يكون العميل أميناً في تقديم دراسة الجدوى وعندما يتعرض لهزة شديدة نتيجة تقلبات السوق يتعثر ولا يبادر حينئذ الى التسوية مع البنك ولكنه يلجأ الى التلكؤ طمعاً في شطب جزء من المديونية، وعندما يرفض البنك يلقي بورقة الفرار الى الخارج. مثل هذا العميل ليس رجل أعمال وانما محتال يستبيح لنفسه السطو على اموال الغير. مثل هذا العميل يكون قد حصل في الغالب على أكثر من 60 في المئة أو 70 في المئة من موازنته عن طريق أموال البنوك. ويشير كرم الى ان القانون وحده في هذه الحالة لا يكفي للوقوف امام بعض نماذج مجتمع الاعمال المشوهة. ويتفق احمد سليم نائب المدير العام في "البنك العربي الافريقي الدولي" حول ضرورة الملاحقة القانونية والقضائية لرجال الاعمال الذين يثبت في حقهم الاستيلاء على المال.