تصادف اليوم الذكرى ال43 لثورة 14 تموز يوليو في العراق التي أطاحت الملك فيصل الثاني ونوري السعيد. ولإلقاء الضوء على اللحظات الأخيرة في حياة الملك فيصل الثاني ونوري السعيد نسجل هنا أحاديث شاهد عايش أحداث تموز 1958 في قصر الرحاب... اذ ساقته الأهوال يومها الى البيت الذي لجأ اليه نوري السعيد ولازمه حيث اللحظة الأخيرة ورافقه الى الباب الشرقي في بغداد حين كان القدر بانتظاره. في أواسط السبعينات التقيت به، وحين روى لي قصته مع ناظم كزار مدير الأمن العام في العراق حتى عام 1973، فكرت بأن أستزيد منه علماً بما اختزنت به ذاكرته من اللحظات الأخيرة لحياة نوري السعيد التي عايشه فيها، باعتباره شاهداً وحيداً في تاريخ لم يسجل ولم يعرفه أحد، عن تلك اللحظات التاريخية. رجل قارب الستين كما بدا لي، لكنه، لم يكن كذلك. يتكلم العربية بلكنة، سألني يوماً: هل تعرف ناظم كزار مدير الأمن العام في العراق حتى 1973؟ قلت: العياذ بالله! قال: أنا التقيت به. قلت: كيف، وأين؟ قال: سأقص عليك قصتي، التي لم أحكها لأحد مطلقاً، وما في صدري يكاد يخنقني. كنت أعمل في الكويت منذ قدومي اليها عام 1958. وفي عام 1970 سمعت من الاذاعة ان الملك حسين وصل البلاد، وانه دخل "المستشفى الأميري". حاولت مساء اليوم نفسه الدخول الى المستشفى والوصول اليه، وبدا لي أن ذلك مستحيل، وقد تضيع فرصتي في مقابلته. لذلك فكرت في أن أنتظر حتى يوم خروجه من المستشفى، فلا أحد يعرف عن قصتي وحياتي شيئاً طوال سنوات إقامتي وعملي في الكويت. بعد أيام سمعت من الاذاعة ان الملك تعافى وانه سيخرج صباح اليوم التالي من المستشفى. ذهبت صباح اليوم التالي باكراً الى المستشفى، وبقيت أتمشى أمامها حتى العاشرة حين رأيت الاستعدادات وباقات الزهور على مدخل المستشفى. استعديت أنا أيضاً، ووقفت أمام الباب الرئيس تماماً. وحانت اللحظة. خرج الملك حسين يحيط به عدد من الناس، فتقدمت خطوات الى الأمام ووقفت أمامه مباشرة، تعمدت أن أتحرك أمام ناظريه حتى يقع نظره علي. ما إن رآني حتى هرع مسرع الخطى واحتضنني... تعانقنا وبكيت. رأيت الدموع في مقلتيه أيضاً. سألني: أين أنت وما هي أحوالك ووو... الخ، أمطرني بأسئلة كثيرة، لم أكن لأستطيع الإجابة، وأنا في تلك الحال العاطفية. التفت الملك الى مرافقه وهو ما زال قابضاً على يدي وقال له: أريده في عمان، ووضع يدي في يد المرافق، وانصرف مع مرافقيه الكويتيين. سألني المرافق ما اذا كان لدي جواز سفر؟ فأجبته: لا، فأخرج من جيبه 50 ديناراً وسلمني اياها، وقال: اشتر لك بدلة، وخذ صورة للجواز، وتعال صباح الغد الى السفارة الأردنية، فسأنتظرك هناك، وتركني مهرولاً وراء الملك. وقفت وبيدي الخمسون ديناراً، وأنا أنظر الى الملك وهو ينزل السلالم ثم يعبر الرصيف، ويركب السيارة وعيناي مبللتان بالدموع، لم أعد أحس بما يدور حولي، لم أتذكر الا هذا المنظر فقط... ولم أعرف ماذا حصل بعد ذلك الحين. حين أفقت وجدت نفسي ممدداً على أريكة، وكان الضياء خافتاً في الغرفة الفسيحة، المفروشة بالسجاد وحولها مجموعة من الأرائك والكراسي. وما ان حركت رأسي المثقل بالصداع حتى سمعت صوتاً يأتي من الجهة الاخرى المقابلة. قال صاحب الصوت: ها كعدت! تطلعت الى مصدر الصوت، فوجدت طاولة كبيرة يجلس وراءها رجل ذو نظارات، وبقربه المصباح المنضدي الوحيد المضاء في الغرفة. رأيت صورة أحمد حسن البكر معلقة على الحائط فوق رأس ذلك الرجل، فاعتقدت في حينه أنني في حلم. فركت عيني بقوة، فتعالت من الرجل قهقهة وضحكة سخرية! قال: ينراد لك استكان شاي حتى تصحّي نفسك، وتعرف وين انت؟ اعتقدت انني في السفارة العراقية في الكويت، وقبل أن أنهض وأجلس على الأريكة باعتدال، كان الرجل قد تقدم الي حاملاً كأس شاي، وسأل: هل تعرفني؟ أجبت: لا يا أستاذ. قال: انا ناظم كزار، هل سمعت باسمي؟ قلت: نعم يا أستاذ، ماكو واحد ما يعرفك. وسلمني كأس الشاي، فأمسكت به وقبل أن أحرك الملعقة في الكأس، كان الرجل قد سحب كرسياً وجلس في مواجهتي تماماً وأخرج سيجارة من علبته ووضعها في فمي ثم مد يده في جيبه وأخرج القداحة، وحين أشعلها هوى بكفه بكل قوة على وجهي... لطمة أطارت الكأس والسيجارة من فمي وطرحتني أرضاً... صرخ بهستيريا وهو يرفسني: عميل جاسوس مال الملك حسين... خائن... الخ من شتائم بذيئة! بكيت بكل ما فيّ من ألم وحرقة، وصرخت أنا الآخر وأنا أتوسل: اني مو جاسوس... اني خادم! خادم الملك فتوقف عن الضرب: شنو خادم الملك ولك...؟ قلت: يا أستاذ آني المربي مال الملك فيصل والملك حسين بكلية هارو في بريطانيا. رفسني مرة أخرى، وقال: ليش ما حكيت من الأول؟ قلت: يا أستاذ انت لم تسألني ولم تدع لي مجالاً لأن أتحدث. رجع ناظم كزار مرة أخرى الى طاولته وهو يشتم، وصب كأساً آخر من الشاي وجاء به الي، وقال: اشرب وخذ نفساً... ناولني سيجارة أخرى أشعلتها بيدي هذه المرة. قال: أحكِ قصتك بالتفصيل وعلاقتك بالملك حسين، وشتسوي بالكويت؟ حكيت له قصتي بالتفصيل، ابتداء من صباح 14 تموز يوليو 1958 في قصر الرحاب وانتهاء بمقابلتي الملك حسين على باب المستشفى. ولأنه أحس بصدق حديثي، قال لي: هل تعرف نفسك أين أنت الآن؟ وأخذني الى الشباك، أحسست بالانقباض فقد تعرفت الى المكان حالاً. فهنا بدأت مأساتي، وهنا قتل الملك فيصل الثاني الذي ربطتني واياه علاقة محبة أخوية أكثر منها علاقة خدمة، فلم يكن يتعامل معي كطباخ أو خادم في البيت، بل كان يعاملني كأحد أفراد الأسرة، كأخ أكبر له، وكنت أعتبره أنا الآخر أخي الصغير، لم أفكر يوماً بأنني خادم مطلقاً، لقد عايشته ولاعبته منذ ولادته حتى مقتله. كنا نلعب ونتخاصم ونزعل من بعضنا كأخوين. في أيام وسنوات "كلية هارو" في لندن كنا نحن الثلاثة وحدنا، الملك فيصل والملك حسين وأنا، كنت المرافق الوحيد للملك فيصل هناك، ذهبت معه كي أعتني به، أرسلوني خصيصاً حتى اشرف على كل ذلك، كنا في لندن كأخوة ثلاثة، لم يعاملوني يوماً كانسان غريب عنهم، ولم أكن أشعر معهم غير هذا، لقد تربينا سوية. انتبهت فجأة للى صياح ناظم كزار: ها... عرفت نفسك وين؟ أجبت: نعم يا أستاذ، هذا قصر الرحاب. عندها دفعني الى الشباك، وقال: هل ترى الباب، وأشار الى مدخل قصر الرحاب قصر النهاية لاحقاً وقال: تخرج الآن من هذا الباب ولا تلتفت وراءك ولا تحدث أحداً بقصتك، ولا تحاول الهروب الى الأردن أو الكويت، فسأعيدك مرة أخرى الى هنا، واذا تركتك تخرج الآن حياً، فلن تخرج في المرة الثانية، إلا جثة، هل فهمت؟ قلت: نعم يا أستاذ، دفعني، وخرجت، كما المرة الأولى لا ألوي على شيء. المأساة نفسها، وفي المكان نفسه مرة أخرى، مشيت الطريق ذاتها التي سلكتها في 14 تموز 1958 حين طردنا الضباط من القصر بعد أن قتلوا الملك والوصي. لماذا أنا؟ ومرتين من هذا القصر وفي هذا القصر، تحل أمامي وبي المأساة، ولو من نوع آخر؟ ماذا حصل؟ يغرق محدثي في صمت طويل، قطعته عليه وسألته عما حدث وشاهده في القصر يوم 14 تموز 1958؟ فقال: ترك جدي خدمة السلطان في اسطنبول ورافق الشريف حسين الى مكة بعد زيارة الشريف للسلطان. كان جدي يريد أن يموت هناك، ويدفن قرب بيت الله، وأبي هو الآخر رافق عائلة الملك فيصل الأول من مكة الى بغداد بناء على رغبة والده الشريف حسين وطلبه. وعندما توفي والداي لم يبق لي في الدنيا غير أخت تصغرني، كانت هي الأخرى تقوم على خدمة الأميرات. صباح يوم 14 تموز 1958، عندما هجم الجنود والضباط على القصر، استيقظنا مبكرين لعلمنا بنية الملك والوصي السفر في ذلك اليوم الى اسطنبول، وكانت الأميرة فاضلة تساعدنا في حزم الحقائب، عندما رأينا الجنود وهم في عدة الحرب يحتلون القصر. تعلقت الأميرات بالملك فيصل الثاني، ورفضن السماح له بالخروج، وقلن فليخرج عبدالإله وحده، لكن عبدالإله قال: انهم يريدوننا نحن الاثنين! وبعد الالحاح والصراخ والبكاء، قرر الملك الخروج مع الوصي. عندها استوقفته احدى الأميرات، وركضت وبيدها القرآن، أخذه منها وقبله ثم وضعته فوق رأسه، وطلبت منه أن يتقدم الى المهاجمين. راحت النساء يتضرعن بالدعاء ويولولن بالبكاء، وما هي الا لحظات حتى سمعنا صوت الرصاص، وتوغل الجنود والضباط داخل القصر وعزلوا نساء العائلة المالكة، وأدخلونا نحن الخدم الى المطبخ. جاءنا أحد الضباط وطلب منا أن نذهب الى بيوتنا لأن الثورة ليست ضدنا، كما قال، انما هي ضد الملك والوصي ونوري السعيد. فخرجنا بالملابس التي علينا فقط ومررنا بجثة الملك والوصي وهما ممددتان. سارت النساء في المقدمة، وكنت الشاب الوحيد الذي يسير خلفهن، فإضافة الى اختي كانت هناك بعض النسوة البغداديات يأتين للخدمة في القصر ويذهبن الى بيوتهن احياناً، وأحياناً أخرى كن يبتن في القصر. عندما عبرنا جسر الخر وابتعدنا علا عويلهن، وكانت أختي أكثرهن بكاء. لم يكن لدينا مكان نذهب اليه، لا مال ولا أقارب ولا معارف في بغداد. ونظراً الى العلاقة التي تشكلت بيننا وبين أولئك النسوة فقد اقترحن ان يأخذن اختي معهن الى عكد زقاق الأكراد حيث كن يعشن هناك، وطلبن مني أن أذهب لحالي على أساس انني رجل وأستطيع تدبير أموري! وافترقنا بعدما أخذت عنوانهن ومكان سكنهن على أمل الاتصال بهن لاحقاً. غصت وحدي بين الناس والمتظاهرين في شوارع بغداد، وأنا أدور من شارع الى شارع ومن زقاق الى آخر، رأيت الناس يسحلون جثة قيل انها لصباح نجل نوري السعيد. لم أكن أعرف الأماكن والشوارع التي أسير فيها. وبعد الظهر، وكانت حدة الشمس قد خفت قليلاً، والتعب والرعب قد هدّا ما فيّ من قوة، بعدما رأيت في أكثر من شارع قطعاً من أجزاء بشرية، والناس تركض وتسحل أشلاء قيل انها للوصي، وجدت نفسي في مقابل جسر الكاظمية، فتذكرت في حينه بيت السيد جلال الاسترابادي، فكثيراً ما كان يطلب من العائلة المالكة ان اقوم بمساعدة أهله في الطبخ أيام عاشوراء وفي المناسبات الدينية، وفي الولائم الخاصة التي كان يدعو اليها العائلة المالكة والشيوخ والوزراء. قررت في حينه أن أذهب الى داره، خصوصاً أن شقيقته كانت تعطف عليّ وعلى اختي خصوصاً. اقتربت من البيت وطرقت الباب كثيراً، لم يفتح لي أحد. تصورت أنهم ليسوا في البيت، وقدرت انهم ربما خرجوا أو هربوا هم الآخرون الى مكان يختبئون فيه. طفت حول البيت علّني أشاهد أحداً في داخله، ولكن لا من حركة توحي بوجود أحد. أخيراً تمددت من التعب في الطارمة العتبة التي بين الباب الخارجي والباب الداخلي، ويبدو ان اصحاب البيت كانوا يراقبونني، وبعد لحظات سمعت طرقاً خفيفاً على الباب من الداخل. نهضت وتقدمت الى الباب الذي فتح فجأة وامتدت يد احدى النساء لتسحبني بسرعة الى الداخل وتقفل الباب. ما إن دخلت حتى وجدت أفراد العائلة جميعهم وقد تجمعوا في المدخل. أمطروني بالأسئلة: لماذا جئت الى هنا؟ وما الذي حدث... الخ؟ قالت شقيقة السيد جلال: اتركوه فهو متعب وجائع. سحبوني الى الصالة، فوجدت نوري السعيد في مواجهتي، وبجانبه جهاز هاتف وراديو. نهض وسحبني هو أيضاً، وطلب مني أن أقص عليه ما رأيت أو سمعت. سألني بلهجة المتيقن عما اذا كانت هناك قوات ايرانية أو انكليزية قد دخلت بغداد؟ أو ما اذا كنت قد سمعت من الناس شيئاً من هذا القبيل. وعندما نفيت ذلك ردد بعض الكلمات بما يعني ان ذلك مستحيل، وان هناك اتفاقاً مع الشاه للتدخل في مثل هذه الظروف لاحتلال بغداد. عاد الى مكانه ورفع السماعة وراح يطلب رقماً ما، في الوقت الذي جاءت النساء بالأكل. كان الراديو مفتوحاً على اذاعة لندن التي كانت تذيع الأخبار أولاً بأول. كان نوري السعيد كمن يحاول فك رموز شيفرة أو شيء من هذا القبيل، ولكن في كل نشرة اخبار كانت تخيب آماله، ويروح يذرع الغرفة ذهاباً واياباً، يفرك يديه، ولا يفتأ ان يشعل سيجارة اثر أخرى، وبين ساعة واخرى كان يعيد طلب الرقم نفسه في الهاتف. عرفت لاحقاً انه كان يتصل بالسفارة البريطانية، وكان يذكر اسم شخص بالتحديد في كل مرة ويطلب التحدث معه. كانوا يجيبونه بأنه غير موجود حالياً، وحالما يصل سيتصل بك. وكانوا يلحون عليه لمعرفة رقم الهاتف الذي يتحدث منه ولكنه كان يرفض اعطاءهم اياه. كما طلبوا منه ان يخبرهم بمكانه كي يأتوا اليه وينقلوه الى مكان آمن. فكان يرفض أيضاً أن يخبرهم بمكانه. في المساء خابت آمال نوري مع الانكليز، وردد اكثر من مرة: "غدروني. غدروني الانكليز"، وعندما يئس من العثور أو الاتصال بصاحبه الذي كان يسأل عنه في السفارة، صار يشك بالسفارة البريطانية، وبأن ما يحدث لا يستطيع تفسيره أو فهمه، وصار يردد لاحقاً وكأنه يهذي وهو يفرك يديه: "سووها بيّ! بس هاي للي جنت كنت خايف منها"! واستطرد محدثي: صباح اليوم التالي، على ما أذكر وعند اتصال نوري السعيد بالسفارة انفرجت أساريره وتغير سلوكه وغادره القلق والارتباك. أكل واستحم ذلك اليوم، وعند خروجه من الحمام فهمنا منه ان صاحبه قد جاء، وانه اتفق معه على اللقاء بعد ظهر ذلك اليوم في الباب الشرقي، وانه اختار وقت الظهيرة لأن الشوارع ستخلو من المارة تقريباً حيث يستطيع الوصول الى المكان كما تصور بأمان. كان يتفحص مسدسه وهو يتحدث الينا عن خطته للذهاب الى الباب الشرقي. سأله الجميع: ماذا لو تعرف الناس اليك، او تعرف سائق التاكسي الذي سينقلك الى هناك، هز مسدسه بابتسامة، وقال: لا تخافوا! اعترض السيد جلال والنساء أيضاً، وساد الصمت برهة. عندها، ولا أدري من أين، جاء الاقتراح: أن يبرقع نفسه بعباءة نسائية، مع غطاء الوجه للنساء المحجبات وأن أذهب أنا معه أيضاً. لم يعترض نوري، كان كمن سلم قياد نفسه الى الآخرين أو استساغ الفكرة! يريد الوصول الى صاحبه في الباب الشرقي مهما كان، وبأي وسيلة، بأمان. قبل خروجنا جاءت النساء بالعباءة وبغطاء الوجه، كانت هناك مشكلة الحذاء، إذ سرعان ما سيفتضح سره. خلع حذاءه وقال: سأمشي حافي القدمين. لم يستسغ الفكرة جلال الاسترابادي، ولم يكن لدى النساء حذاء بمقياس قدميه. وجدت شقيقة السيد جلال ما يناسبه، فقد كانت ممتلئة الجسم هي أيضاً، وكانت العباءة والجوارب السميكة السود بمقياس رجله، اضافة الى حذاء من أحذيتها المستهلكة القديمة. بعدما ارتدى نوري كل هذه الأشياء قام الى المرآة وتطلع الى نفسه من كل الجهات، وقال: لا أعتقد ان احداً سيعرفني الآن! وضع مسدسه في خصره وطلب مني مرافقته. اتفقنا على أن أقوده كامرأة عمياء الى مسافة تبعد قليلاًمن البيت، حتى لا يعرف أحد مكان اختبائه فيما لو انفضح سره. ثم أوقفت سيارة تاكسي، وجلس هو في المقعد الخلفي كي يستطيع السيطرة على السائق بمسدسه، فيما لو تعرف اليه، ثم يوجهه الوجهة التي يريدها. وكان عليّ أن أجلس بجانب السائق وأختصر الحديث معه على الشكل الآتي: ان هذه المرأة هي والدتي، وهي شبه عمياء وطرشاء وخرساء! ومصابة بالضغط وضعف القلب... ونحن قادمون من مدينة النجف، وهذه هي المرة الأولى التي آتي أنا فيها الى بغداد مع والدتي، ففي السابق كان أبي هو الذي يأتي معها، ولكنه مريض في الوقت الراهن، لذا نحن ذاهبون الى الطبيب الذي تتداوى عنده والدتي، وهي تعرف مكان عيادته في الباب الشرقي، وستدلنا عليه عندما نصل الى هناك! طلب مني نوري السعيد أيضاً أن أنتبه الى الاشارات التالية عند ركوبنا التاكسي، فعندما يضرب نوري على كتفي الأيمن أطلب من السائق الانعطاف الى اليمين، وعندما يضرب الى كتفي الأيسر أطلب من السائق الانعطاف الى اليسار، وعند الوصول الى المكان المحدد للقاء، يضرب الكشن أي كرسي السيارة بقوة، وهكذا كان... عند الباب الشرقي، وفي المكان المحدد للقاء، طلبت من السائق أن يمشي ببطء كي تستطيع "والدتي" التعرف على مكان العيادة نظراً الى ضعف بصرها، وحتى أتيح الوقت لنوري السعيد كي يتفحص المكان، ويتأكد من وجود صاحبه كما اتفقنا. فجأة انهال نوري السعيد بضربات متلاحقة وقوية على "الكشن" الذي أجلس عليه، وصار يصدر أصواتاً متقطعة قوية باعتبار انه أخرس. طلبت من السائق التوقف حالاً، أعطيته الأجرة وطلبت منه الانصراف. كانت تقف على بعد أمتار منا سيارة وكان يتكئ بظهره عليها أحد الأشخاص، ولم يهتم بنا عندما رآنا ننزل من التاكسي. أخذني نوري السعيد بالقرب من الرصيف، وأخرج من جيبه حفنة دنانير وقال لي: خذ هذه فلم أعد بحاجة الى النقود، هذا هو صاحبي... قلت سأصطحبك اليه وخذني معك. رفض، وقال: انصرف حالاً. وضعت المبلغ في جيب الدشداشة التي ألبس وخطوت مسرعاً في الاتجاه الآخر لمكان اللقاء... ما هي إلا خطوات على الرصيف حتى سمعت صوتاً يصرخ: هذا نوري السعيد! نوري السعيد... التفت الى الوراء فوجدت نوري السعيد وقد أزاح العباءة، وغطاء الوجه بيده اليسرى ورماهما بعيداً، وفي يده اليمنى المسدس مصوباً الى ذلك الشخص! وقبل أن أسابق الريح في الهرب سمعت صوت الرصاص، لم ألتفت ولم أعرف من الذي أطلق النار؟! ومن قتل من؟ غصت في الشوارع لا ألوي على شيء، لا أحد ولا مكان أذهب اليه... تقاطعت في مسيري مع متظاهرين كانوا يسحلون فيها نوري ويصرخون. * كاتب عراقي مقيم في السويد. * شاهد العيان هو رئيس طباخي البلاط، وهو من أصول تركية، اسمه محمد أوغلو، قدم الى العراق مع فيصل الأول من مكة. وكان جده ووالده قدما الى مكة من اسطنبول مع الشريف حسين.