لمن لا يعرف الباشا نوري السعيد، فهو أشهر من حكم العراق بعد تحرره من العثمانيين، عبر عقود انتهت بثورة 14 تموز (يوليو) 1958 التي طوت الحكم الملكي الهاشمي وافتتحت عهوداً من الحكم العسكري، المقنّع حيناً بالشيوعية وأحياناً بالبعث. في أوائل الخمسينات من القرن الماضي اقتضت مصلحة شركة ف. أ. كتانة اللبنانية أن تهدي أرضاً لائقة بمقام الباشا رئيس الوزراء العراقي المخضرم، فاشترت من والدي قطعة من بستان يطل على نهر دجلة. وأنشأ نوري السعيد على جرف النهر مسنّاة لتحصين ملكه درءاً لأخطار الفيضان العاتية في ربيع بعض السنين. عدت الى العراق عام 1957 بشهادتي BS وMS من جامعة كاليفورنيا بعلم الفاكهة. كنا نسكن ببساتيننا بكرادة مريم – بغداد، وذات يوم ارتأى والدي اصطحابي لزيارة الباشا (نوري السعيد) في قصره الذي يبعد بضعة عشرات الأمتار عن دارنا القديم. في الواجهة كانت ثلة من الشرطة تحرس القصر ذا الجبهة الواسعة، أما الضلع الآخر فهو أضيق ويتجه صوب شاطئ النهر. كما أن مساحة الحديقة طمرت لترتفع عن مستوى سطح النهر. تلك الواجهة ما كانت تنم عن روعة كما نشاهد في قصور الرؤساء أو النبلاء في البلاد المماثلة كمملكتي أيران ومصر، أما الداخل فأثاثه وتزيينه يليقان بمقامه بلا شك. جلست متوسطاً والدي والباشا، في حين جلس قبالته ممثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي كان يزور العراق، يسترسل بعرض معاناة شعبه الشقيق من نير الاستعمار الفرنسي. لما توقّف بادره صاحب الفخامة: «ما هي مشكلتكم مع فرنسا؟!» التفت فخامته ليسألني: «لماذا لم تأت بزوجة أميركية؟» أجبته: «ليس كل طالب يتزوج أثناء دراسته.» نبهني الوالد الى أن أرفع صوتي فالباشا في عقده الثامن ضعف سمعه. اليوم أدركت أن هذه سمة مشتركة لمن يتجاوز السبعين! في مطلع 1958، لاحظت أن أحد شرطة الحرس كان يطرق باب بيتنا الذي يبعد عشرات قليلة من الأمتار في الجهة المقابلة للقصر، ليبلغنا أن الباشا يطلب أبي لزيارته، في حين أن الوالد يكرّر علينا أن نجيب السائلين بأنه خارج الدار، ثم تبيّن لأبي أن السعيد يحاول شراء بستاننا المجاور لمُلك الباشا، وهو الوحيد الذي بقي بجبهة تطل على الشاطئ. في حديقة الباشا ذات مرة وإذ كان أبي خارج الدار (بالفعل)، دفعني فضولي لأرافق الشرطي طارق الباب. كان الباشا بجلبابه (دشداشته) الأبيض. أمسك بيدي ليريني الحديقة الواسعة في الفناء الخلفي المطل على النهر فتشكل لوحة خلابة تجمع الحديقة بالنهر. مررنا بشجرة مشمش، فسألني عن سبب اكتساء ساقها بالتصمّغ. رددت بأن ساقها مغروس مباشرة على حافة الساقية، بحيث أن الماء وهو يرويها يحمل معه فطريات وميكروبات أخرى إلى أسفل الساق فتنتشر الإصابة صعوداً. في موسم الربيع يبلغ منسوب النهر المنذر بالفيضان ذروته. لما وصلنا إلى المسنّاة، ألتي شيّدها لدرء أخطار الفيضان على قصره، توقف عند الجدار الفاصل بين ملكه وبستاننا. ثم أخذ يسرد لي استعداده لشراء نصف البستان، بحيث يتماثل طولاً مع ملكه بالطبع، لو حوّل الجدار الفاصل إلى حد ما بعد الشراء، تصبح المساحة أكثر فسحة. عندها غمرني ذهول مفاجئ. ثم وصل إلى بؤرة ‘focus' مبتغاه، بدأت أفهم الغاية. فبادر: «ابني صباح يتصرف بما يغاير سمعتي، فأضحى لزاماً عليّ أن أجعله تحت ناظريّ. عندما أشتري نصف بستانكم سأُسكنه بجواري. واعلم يا بني أن جرف بستانكم متآكل (حفره الشط) لأنه محصور بين مسنّاتي ومسنّاة آل الشابندر. عليه فإن كلتا المسنّاتين ممتدتان داخل الشط بالنسبة الى بستانكم. كما أن في وسعي شراء بضعة أمتار من أمانة العاصمة ليكون ضلع الشاطئ بنفس سياق داري. عندها سيصبح بمقدوركم توسيع مساحة نصف البستان المتبقي لكم، إن عملتم بالمثل. بهذا الإغراء أرادني أن أستميل والدي. فما كان مني إلا أن أبادر بالرد السريع قبل أن تتلاطم الهواجس بخاطري عاكسة امواج الشط المرتطمة بحافة المسناة الخرسانية. أسعفتني فكرة السرعة لأرد بحزم: «آسف! (لا أذكر أن كنت أخاطبه بلقب، باشا، أم أستاذ، يومئذ) ألملك ما زال بإسم جدّي، ليس بأسم أولاده الأربعة والدي وثلاث عمّات، وهنّ معتزّات بميزة هذا الملك الوحيد المتبقي المعروف بأسم أبيهم ‘الشيخ شكر، فضلاً عن أنهن لسن بحاجة إلى المال. أعرف مقدّماً أن الوالد لن يفلح بإقناعهن.» فردّ: «مع ذلك، بهذه المزايا، أرى أنهن سيوافقن». عندما كان يشرح لي مشروعه ذلك كان شرطي يتخطى ببستاننا المجاور موضوع المداولة. أمر طبيعي فلرئيس الوزراء حق حمايته من أضلاع داره الثلاثة اليابسة. بعد تأكيده على عرض طلبه على والدي، استدار للعودة للقصر بينما كانت أمواج النهر، بدافع هبّات نسائم الربيع، ترطب حافة الحديقة، مما أدّى إلى انزلاق قدمه فسرقت الأمواج نعله. انحنى بجسده الثخين ليغترف بكفه الماء كيما يعود النعل إليه حتى أفلحت المحاولة. في حين ظللت مندهشا لهذا المشهد الطارئ. فكأنني بين خيارين – أعينه أم أبقى غير مبالٍ، فما قيمة ذلك النعل؟ لو رجحت الأختيار الأول ماذا سيظن الشرطي الرقيب وهو على بعد 20متراً. قد يشكك أنني أحاول دفع الرجل الكبير إلى الماء! بقائي متفرجاً اقتضاه الظرف. أعترف أنني قد تجاوزت الحدود المتاحة بهذه الزيارة الارتجالية. على كل حال ليس لي إلا أن أسلّم بما سيؤول إليه موقف الوالد الحاسم. لعلي تعللت بأنني، بعد أختي، كنت الابن الوحيد. تفهّم الوالد أن تصرفي كان عفوياً. لكنه في قرارة نفسه أحسّ بتخفيف كاهل مؤرق لفترة لا يستهان بها من الزمن. بعد ذلك دارت الأيام مسرعة. انهمك بها الباشا، بل جل نظامه، بخلق سلطة موازية لتيار الجمهورية العربية المتحدة بزعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ألا وهي الإتحاد الهاشمي (العراق والأردن) المعلن في 14 شباط (فبراير) 1958، فلم نسمع أي تعقيب عن حلمه بالبستان والحمد لله! خلال الأشهر العشرة التي تلت عودتي لبغداد وأنا أرتاد النوادي المهنية بصحبة رفاقي، وعلى الأخص العائدين من الولاياتالمتحدة، تجسّد أمامي اتجاه خط بيان (بل خط غليان) التذمر الشعبي من استمرار تدهور الأوضاع على كافة الأصعدة، في مقدمها التضييق على الحريات العامة، تزوير الانتخابات. باختصار، انحطاط متواصل ينخر في حياة المجتمع واستفحال الفقر على الرغم من الثروة النفطية. في 13 تموز 1958 تقدم شرطي مرور ليغرّم صاحب سيارة راكنة في موقف حافلة نقل الركاب. لكنه سرعان ما تراجع بعد أن عرف أن صاحبها إبن رئيس وزراء آخر (كان في حينه غير الباشا) حفاظاً على شرطيته! تذمّر صاحبي (وهو ممثل سينمائي) الجالس بجواري في الحافلة لهذا المشهد. ليس لهذه الحركة العلنية أهمية قياسا بما كان يجري بالمحاكم العرفية وما يتبعها من سجون خاصة، وفي أعماق الصحارى، من أشهرها سجن ‘نقرة السلمان' في اقصى الجنوب. مثال آخر يبعث على السخرية: كان ثلة من الشخصيات البارزة في المملكة يحيون سهرة ماجنة ذات ليلة صيفية على جزيرة صغيرة في نهر دجلة (يسمّيها البغداديون ‘جزرة')؛ بلا شك كانوا يحتسون الخمرة فينطلقون بلهوهم مطلقين النار بالهواء، مما أزعج سكان المنطقة في محيط قصر السعيد. شكا الأهالي لمركز الشرطة من المجهولين الذين عكّروا صفو نوم أطفالهم. جاب رجال الشرطة في اليوم التالي سائر بيوت الحي جامعين أي سلاح تقع أيديهم عليه؛ من بينها بندقية صيد لوالدي. علهم بذلك يشخّصون الأسلحة المزعجة. بعد يوم آخر، حضر شرطيّ ليعيد البندقية؛ لكنه نبهنا إلى أن الإبرة التي يدفعها الزناد لقذف الطلقة قد نزعت في المركز، وهو مستعد للتكرم بإعادتها لقاء ربع دينار! صحيح أن هذين المثالين عن الشرطيين سطحيان وإن كانا مدعاة اشمئزاز في ذلك الحين، لكن لو نسبت مثل هذه الأحداث إلى ما حلّ بالبلاد في العهود التالية لأمكن التعبير عنها رياضيا كنسبة أي عدد مهما كبر إلى ما لا نهاية! مع كل ذلك لا يسع المرء إلا أن يقيس الأحداث بمفاهيم وقيم زمنها. ذلك أن نزعة زعماء الحكم الملكي لإرضاء حلفائهم هو ما خزّن جذوة تحت الرماد المتراكم عبر 37 عاما. وللتذكرة فالعهد الملكي تلى تسلطاً عثمانياً ظالماً، لم يرحم أبداً، ليس فقط الشعوب العربية بل شعوب أي أرض وطأتها جيوشهم باسم الفتوحات الإسلامية. العراقيون عانوا أكثر الشعوب الرازحة تحت نيره بحكم محاذاتهم له جغرافيا، فلم يهنأوا بأبسط حقوقهم طيلة قرون عجاف. فجر ثورة 14 تموز قبل أن تتطور وسائل تبريد المنازل صيفاً، كان البغداديون ينامون على السطوح. في فجر الاثنين 14 تموز 1958 أفزعتنا صليات متواصلة على مسافة بضعة عشرات من الأمتار من بيتنا. بصصت بحذر من الشرفة فلاحظت حركة عسكرية نشطة اعتراها مزيج من دخان القصف والغبار المتطاير عند ارتداد المدفع عيار 106 ملم المقابل لقصر الباشا بعد كل رمية. تجمهر سكان الحي وبدا كل واحد يعبّر بازدراء وسخرية، كل على سجيّته. كتردادهم «دار السيد مأمونة»، عبارة طالما أطلقها جناب الباشا في وصف أمانه بسلامة داره من أي مكروه. استمر رشق القصر ساعات. في تلك الأثناء لجأ إلينا أحد الشرطة الحراس. ألبسناه دشداشة (جلابية) وجلس معنا يحتسي الشاي. ثم طلب ضابط عسكري برتبة مقدّم استعمال الهاتف. كان يقول لقيادته بانفعال: «لم يظهر نوري من داره مستسلماً حتى خلال فترات توقّف القصف!» في إحدى استراحات الرمي افتتح مقدّم آخر مشرف على عملية الهجوم على القصر الحوار مع الجمهور المتجمّع حوله: «عله هرب عن طريق الشط قبل أن يبدأ الرمي من جانب الضفة المقابلة.» فسألته: «ألا تخشون أن تتبادلوا الرمي من جهتي النهر؟» لكنني أجهل الخطط العسكرية. ثم وصلت سيارة جيب، أنزل عسكري منها خليل لالو – من أتباع الباشا – سأله الضابط عما إذا كان يعلم عن مخابئ القصر من دهاليز (علماً أن المصعد الكهربائي عطله القصف). فرد بالنفي، لكن الضباط عاملوه برفق. وكذا كان جواب من شهد من المتجمهرين عملية تشييد الدار. مفردات الإذاعة إذاعة بغداد صارت تًسمعنا كلمات لم نألفها: الخونة، العملاء، حلف بغداد المفروض قسراً، الأمية، المرض، الفقر والجوع، يقابلها من جهة أخرى: الضباط الأحرار، الحرص على ثروات البلاد في مقدمتها النفط، حرية الرأي، ألعدالة، الإخلاص للوطن....الخ. ثم ما لبث أن تعرّف الشعب عن طريق الإذاعة على الأخص على قيام ثلة من الضباط الأحرار بإسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية، مستغلين أوامر صدرت لهم بالتحرك لنصرة حكومة رئيس لبنان كميل شمعون ألمعرضة للانهيار، علما أن ذلك كان يتطلب أن يمر الجيش العراقي عبر الجارة سورية. أزال بيان الثورة الأول الغمامة التي اكتنفت تحركات قطعات الجيش من محافظة ديالى شرقا نحو بغداد فتوقفت في بغداد قاطعة خطة المواصلة غرباً. في صباح يوم الثورة كان الوصي والباشا يستعدان لمغادرة البلد إلى تركيا، بريطانيا و/أو الولاياتالمتحدة. فعمد الضباط الى السيطرة على المرافق الحساسة كالمعسكرات، الإذاعة والتلفزيون... مرورا بقصر الوصي وانتهاء بالدار المأمونة (!)، وقد ألهبت الأناشيد والأغاني الوطنية الحماسية أحاسيس الجماهير المتعطشة للحرية، فهرعوا إلى الشوارع تعبيرا عن اغتباطهم. كما أوردت بيانات لاحقة أسم أبرز ضباط الثورة، في مقدمهم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف. كما تبيّن أن الضابط المسيطر على قصر الباشا كان المقدّم وصفي طاهر وهو المرافق الشخصي (الحامي) للباشا ذاته (شر البلية ما يضحك)، ألذي عزّز اندفاعه: «على الرغم من مشاهدتي مصرع الوصي عبد الإله في شرفة قصر الرحاب؛ لكن لو أفلت نوري السعيد من أيدينا ستتعرض الثورة إلى مصاعب جمّة.» أتوقف هنا لأبين أن الشعب وإن التفّ حول الجيش إلا أن إزدواجية انتابت مشاعره حيال مصرع الملك فيصل الثاني (23 سنة) أثناء إصابة خاله الوصي على العرش الأمير عبد الإله بن علي، فقد كان يتيم أبيه وهو في الرابعة وأمه وهو في الخامسة عشرة، ناهيك عن بساطته وبعده عن الخيانات منذ نعومة أظفاره. كنت مع فرقة الأطفال بدار الإذاعة ننشد له ونحييه تعبيراً عن اعتزازنا به في يوم ميلاده العاشر بقصر الزهور. ما زالت صورة براءته عالقة بذهني. كان ينتظر إرشاد مربيته في شرب عصير البرتقال! كفة الانقسام كانت لمصلحة التأسّي على شبابه. من أهم ما أقدم عليه الثوار المدنيون تحطيم تمثالي ألفاتح البريطاني الجنرال مود (الذي أزاح الحكم العثماني - 1916) وفيصل الأول (أول ملك على العراق - 1921). في المساء، هجع أزيز الرصاص وعلى الأخص مدفع الهاون الأقرب لبيتنا، في حين ظل الناس منهمكين بمتابعة التوجيهات التي انصبت على ملاحقة أذناب «العهد البائد» وهي تركز على ما تركوه من إرث ثقيل، فلا مفرّ من اقتلاعه من جذوره للأبد. إلا أنه على الرغم من التصرفات الفوضوية العفوية، فقد أحسنت القيادة بنقل جثمان الملك فيصل ليوارى الثرى بالمقبرة الملكية. في الليل لجأ كلب الباشا إلينا مسرعاً، حاولت تهدئة دقات قلبه المرتعدة حتى صباح يوم 15 تموز من دون جدوى. فما لبث ان عاد الى عنوانه فجراً. * كلب الباشا من فصيلة poodle، ذكي ووفي. أبيض وله شعر كثيف مجعّد. من المفارقة الطريفة أنه في عام 2002 تظاهر في لندن مليونا بريطاني بمؤازرة جنسيات أخرى مناوئين لتدمير العراق. رفع بعضهم لافتات تنعت رئيس وزراء المملكة المتحدة بأنه ذلك الكلب المطيع (البودل) لسيده الرئيس الأميركي جورج بوش! مقارنة بين الثورات ما من ثورة جامحة إلا اعترتها الفوضى. فالثورة الفرنسية (14 تموز 1789) والروسية (17 تشرين أول/ أكتوبر 1917) حصلت فيهما انتقامات بليغة أغلبها يحاكي همجية إنسان ما قبل الحضارات. على سبيل المثال إبان الثورة الفرنسية، كانت جموع من الطبقة المحرومة من عمال وفلاحين تجري مشياً من ميناء مارسيليا متجهة شمالاً نحو قصر فرساي وسجن الباستيل بباريس لدعم الثورة. بصورة ارتجالية ردّد أحدهم أبياتا حماسية تدفع على التصدي بل السحق. فرسّخ الشعب تلك القصيدة الحماسية بلحنها الشجي كنشيد وطني la marseillaise (دخل قرنه الثالث بعد 1989م)، مطلعه: هيا! يا أبناء الوطنية لقد أزف يوم مجد الحرية هلموا لنقارع الهمجية... في رواية «حكاية مدينتن» ألتي دارت بين باريس ولندن لتشارلز ديكنز رواية ما جرى أيام تلك الثورة ووصف مشاهدي عمليات الإعدام بالجملة وهم يتراهنون على عدد الرؤوس التي ستتدحرج جراء قطعها بالمقصلة متشفّين، فذا يقول 22 وذاك يزايد بتوقعه كلا، 25... أما وقد سمت الأذواق بمرور القرون وصولاً إلى عصرنا الراهن، فلم يعد الشباب الحيوي المتحضر يتقبّل سفك الدماء الواردة بعبارات بقية ذلك النشيد التليد، فقد برزت دعوة لاستبدال تلك الكلمات بأخرى إنسانية. الخلاصة ليس هناك ثورة أرحم من أخرى. نهاية مأسوية أما عن تطوّر رحلة الباشا العجفاء، فقد اتضح في ما بعد أنه ركب قارب صياد سمك ليقله عكس تيار النهر لدار أحد الوجهاء من أخصائه. من هناك تم تهريبه إلى عائلة الإستربادي نحو 15 كم بعيدا عن قصره المقصوف. هناك عرف بالأمر ألسيد عمر هاشم فأوصل السر إلى القيادة. أما نوري فقد آثر تغيير العنوان إلى البتاويين في الضفة المقابلة لداره (ألرصافة). تنكّر في عباءة نسائية وبرقع (بلا شك). لاحظ شرطي أن الخطوات كانت مرتبكة بحيث أظهرت أطراف بيجامة رجالية من تحت العباءة. نادى بالتوقّف فلما حاولت الهرولة بعيداً – أطلق النار فسقطت. عندئذ تجمهر القوم فكشفوا الهوية. أخذوا يربطون الجسم الهاوي بحبل ليسحلوه نحو مركز المدينة عند ساحة الرصافي الحالية. طلب ثلة رعاع من سائق حافلة نقل ركاب أن يدهس الجثة فأبى. أليس التمثيل بالجثة يعد كفراً لدى المسلمين؟! وللعرب ظروف خاصة مقارنة بالشعوب الأوروبية. فالعراقيون مثلاً لم تتح لهم الدول المحتلة فرصة لاستعادة شخصيتهم ليستنشقوا أوكسجين الاستقلال الناجز كيما ينعموا بالحرية، بدءاً من تدهور الخلافة العباسية منذ أكثر من زهاء عشرة قرون مروراً بالتسلط العثماني وصولاً للإنتداب والهيمنة البريطانية وعملائها بالداخل. فلما انتهى مفعول معاهداتهم لجأوا إلى حلف بغداد الذي ضم إلى جانب سيدتهم بريطانيا، تركيا جلال بايار وعدنان مندريس فضلاً عن إيران الشاه وباكستان مع تبريكات أميركا العم سام! وقد ترك اختيار اسم «بغداد» لحلف المعاهدة المركزية جرحاً عميقاً في نفوس العراقيين! من وجهة نظر الباشا أن المعاهدات على اختلافها كانت تروم حماية العراق بأرضه ومائه وسمائه، أما في الداخل فكان من جملة ما يشكو منه المثقفون هو جور الشيوخ الإقطاعيين على الفلاحين الكادحين وإن كانت حال أمثالهم بالمملكة المصرية أسوأ. فقد كان البيه أو الباشا هناك يأكل لب الفول ويرمي قشوره ليتلقفه الفلاحون الجياع – هذا مجرد مثال بسيط. أقطاعيو العرب تقمصوا شخصية النبلاء في أوروبا القرون الوسطى. يرد عليهم الباشا أبو صباح أن الإقطاعي بعد وفاته (زواله) يرث مقاطعته البالغة عشرات أو مئات الهكتارات أولاده العديدون (في الغالب أبناء)، فتتجزأ المساحات الشاسعة إلى ملكيات أصغر فأصغر حتى يكاد ينعدم الأثر! وهكذا إنطوت صفحات الذاكرة لتبقى الصور معبرة عن ومضات من أواخر أيام نوري السعيد. كتب عنه طالب دراسات عليا محاولاً إبرازه كشخصية وطنية خاصة في مطلع معترك حياته السياسية، فعلق عليه أستاذه المشرف: «بالمفهوم العلمي، ليس من الضروري إبراز الإيجابيات لضمان نيل الشهادة العليا!» * أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا