في عدد "الحياة" الأول من تموز يوليو 2001 نشر ميلاد حنا في "الحياة" مقالاً تحت عنوان "ارتجاج في العلاقات الحميمة بين الأقباط والمسلمين... وقد تعقب الأزمة الأخيرة حركة تنوير ديني". والمقال يتناول أزمة راهب دير المحرق المفصول وما تبعها، وهو مملوء بما يستحق الرد وما يستوجب المناقشة، ولنا عليه الملاحظات الآتية: أولاً: عرض الكاتب لقصة النشر على صفحات "النبأ" بإسهاب، وعرض لرد الفعل القبطي، حتى إذا وصل إلى وصف التظاهرة التي شهدتها البطريركية اكتفى بوصف شعارات الشباب القبطي بثلاثة أوصاف: "لم تكن متوقعة"، "لم تكن مناسبة"، "لم تكن لائقة". فلماذا لم يتسلح بالمقدار نفسه من الشجاعة لينقل إلى قارئ "الحياة" الذي لم يحضر التظاهرة صورة واضحة عنها، كما فعل عندما تعرض لعدد جريدة "النبأ" ووصفه وصفاً تفصيلياً نقل فيه المانشيتات محدداً الصفحة والسطر؟ وهل الهتاف لأعداء الأمة رد فعل يوصف فقط بالأوصاف الرقيقة السالفة الذكر؟ ثانياً: وصف تجمع الشباب في غير موضع بأنه تم من دون تخطيط، وهو استنتاج لا يشاركه فيه كثيرون، ولعل ما كتبه الدكتور يونان لبيب رزق في مجلة "المصور" القاهرية من أن التجمع والشعارات أمر مدبر، هو نموذج لتفسير آخر كانت الأمانة تقتضي عرضه كتفسير وارد، بما أنه لم تكن لدى الكاتب معلومات محددة. وعلى رغم أن ميلاد حنا لا يكتفي بالسرد، بل يخضع الأحداث للتحليل، فإنه لم يعلق على هذا السلوك العفوي بحسب تفسيره وما معنى أن يفزع الأقباط إلى الكاتدرائية في الشؤون الدنيوية والدينية على السواء؟ ومن المسؤول عن نظرتهم إلى الكنيسة بوصفها مثلاً سياسياً لهم؟ ثالثاً: إن بعض التفسيرات التي طرحها يشير إلى تصور محدد اختار أن يطرحه في شكل أسئلة تحمل الإجابة في طياتها، وعلى رغم أنني غير مقتنع بأن شريط المشاهد الفاضحة وصل إلى يد ممدوح مهران إلا من خلال أجهزة الأمن، إلا أن تساؤلاته تتجاوز الانحياز إلى هذا الفرض الذي يبدو أقرب إلى الرجحان إلى إضفاء مشروعية على محاولات اجهزة الأمن السيطرة على الصحافة المصرية، فهو يتساءل عن السبب في ترك الموضوع حتى ينشر ويوزع، وكأن منع النشر من خلال إجراء أمني أمر مقبول. رابعاً: من بين التساؤلات الخطيرة التي يطرحها تساؤله عما إذا كان التسريب رسالة من أجهزة الأمن إلى الكنيسة لتقول لها إنها تعرف ما يحدث في كواليس الكنيسة، وهو يتعارض أولاً مع قوله في المقال: "فقد ثبت بوضوح أن هذا الراهب سيئ السمعة منحرف تم فصله من الدير عام 1996، ولذلك فإن أياً من هذه الجرائم لم ترتكب داخل الدير". وإذا صح أن هذه الجرائم لم ترتكب داخل الدير فإن رسالة أجهزة الأمن تفقد تأثيرها وتساؤله يفقد مغزاه. فأجهزة الأمن، كما يبدو من التفسيرات التي يرجحها، أكثر ذكاء من أن تنقل مثل هذا التحذير إلى المؤسسة الدينية إلا من خلال وقائع تقع فيها المسؤولية - الأخلاقية على الأقل - على الكنيسة. وما تجاهله الكاتب عمداً أن هذا السلوك إذا صحّ أنه صدر عن أي جهاز أمني بهذا الهدف، فهو أخطر مما فعله الراهب وأكثر تهديداً للأمن والاستقرار مما نشره ممدوح مهران. فهذه الأجهزة منوط بها حفظ الأمن لا التورط في مناورات السياسيين ونصب الفخاخ لمن تعتبرهم "مستهدفين"، سياسيين كانوا أم رجال دين، وأنا أضم صوتي إلى صوت المطالبين بتوضيح شاف ومسألة صارمة لكل من يثبت تورطه في تسريب الشريط، وأود أن أقرر أنني أصبت بصدمة من العبارة التى تلي تساؤلاته مباشرة إذ يقول: "وكل تلك الأمور معتادة وتتكرر، لذلك سيتم استيعابها بشكل أو بآخر"، فما التقويم الأخلاقي لها؟ وهل تكرارها يضفي عليها مشروعية حتى لو أصبحت معتادة؟ خامساً: يشبه مقال ميلاد حنا كل ما يكتب في الصحافة عن القضية لجهة أنه صبّ جام غضبه على الراهب أو الصحيفة وأجهزة الأمن، أو جميعهم. وبعضهم استفزه رد الفعل القبطي الذي يرى كثيرون أنه لم يكن عفوياً، ولم تكن الكنيسة فيه، كما هو معلن، صاحبة خيار التهدئة. لكن ما لم يتعرض له أحد على الإطلاق، لفت نظري إلىه نص شكوى السيدة القبطية لأجهزة الأمن، إذ ورد فيها أن الراهب مارس ألواناً من السحر والشعوذة لتحطيم إرادتها وتطويعها لرغباته. فأين تعلم الراهب هذه المهارات؟ داخل الدير أم خارجه؟ وما مدى مشروعية ممارسة هذه الأفعال التي يجرمها القانون ويعاقب مرتكبيها من غير رجال الدين؟ هل هي محظورة على البعض ومباحة للآخرين؟ وما صلة ذلك بأديرة ورهبان اشتهروا بالمقدرة على شفاء الأمراض المستعصية؟ وهل المشكلة في الراهب وحده أم في من سمحوا بأن يقدم بعض الأديرة خدمات علاجية من دون رقابة الدولة؟ سادساً: الانتقال من وقائع القضية إلى التساؤل: "هل للأقباط مظالم أو هموم؟"، مع وصفها بأنها القضية المحورية، هو موقف غير مفهوم من كاتب له خبرة ميلاد حنا وتاريخه، فسياسة ليّ الذراع وتقديم تفسيرات مسمومة للوقائع التاريخية والواقع المعاش لا يليق أن تصدر عن مثله. فالخطاب الإسلامي الذي تبناه الحزب الوطني كان الخطاب القديم الوحيد على الساحة السياسية المصرية قبل 1919، وهو لم يكن خطاباً طائفياً بأي معنى، وثورة 1919 عندما قامت لم تستهدف جعل الانتماء الى الوطن مقدماً على الانتماء الى الدين، بل كان هذا نتيجة من النتائج المترتبة عليها من دون أن يكون مستهدفاً في شكل أساس. فهل تصور وجود تعارض بين الانتماءين تصور صحيح؟ وإذا كان التعارض قائماً فلماذا يجب أن يكون الانتماء إلى الوطن مقدماً على الانتماء إلى الدين؟ أليست هذه خيارات ثقافية ينحاز المرء إليها ولا يتوصل إلى صحتها نتيجة قياس عقلي أو تجربة؟ فلك أن تنحاز إلى ما ترى وللآخرين أن ينحازوا إلى النقيض أو حتى أن يرفضوا منطق التعارض مبدئياً، من دون أن يكون ذلك مؤدياً إلى غياب المساواة. سابعاً: تحول ثورة 1952 إلى العلمانية لم يكن ضماناً للمساواة أو تكافؤ الفرص، إن كانت الفترة المشار إليها شهدت أي مساواة إلا في القمع. والقول إن النفط كان سبب الصحوة الإسلامية يتناقض مع قول الكاتب في المقال نفسه: إن عودة المجتمع المصري إلى الدين ارتبطت بنكبة 1967، وهو تفسير أقرب إلى الصواب، فهذه الهزيمة كانت زلزالاً دمر أسس الدولة القومية العلمانية التي كان عبدالناصر يطمح إلى تأسيسها، وهذه الأحكام التاريخية تعرضت لها في عجالة بأسلوب "نظرة الطائر" كما يقولون. غير أن ما لا تكفي الإشارة العابرة للرد عليه قول الكاتب: "وفي 14 أيار مايو العام 1980 ألقى الرئيس السادات خطاباً نادراً قال فيه إنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، فكانت أحداث الزاوية الحمراء في تموز يوليو 1981". وأول المغالطات في العباراة محاولة إيهام القارئ بأن حكم السادات اصطبغ بصبغة إسلامية. وهو أمر يكفي للرد عليه أن نذكّر القارئ بأن السادات انتهت حياته برصاصات تنظيم إسلامي استند في استباحة دمه إلى فتوى أصدرها عالم أزهري هو الدكتور عمر عبدالرحمن. ثامناً: التركيز على أحداث الزاوية الحمراء في حقيقة الأمر محاولة مكشوفة لإخفاء احداث أخرى أكثر دلالة في ملف الفتنة الطائفية، فأول حوادث الصدام الطائفي الخانكة وقع العام 1972، أي أنه لم يحدث بعد العام 1973 الذي يعتبره ميلاد حنا عاماً مفصلياً بسبب ارتفاع اسعار النفط وهجرة العمالة المصرية... إلى آخر المتوالية التي تصور الصحوة ظاهرة وافدة غريبة عن المجتمع المصري. وسبقت الخطاب الناري المشار إليه حوادث عدة فلماذا تجاهلها الكاتب؟ وإذا كان السادات سبب الفتنة الطائفية بخطاباته النارية وميوله الإسلامية المزعومة، فلماذا لم تتوقف أحداث الفتنة الطائفية حتى الآن بعد مرور عشرين عاماً على وفاة السادات؟ وما مبرر قصر المسؤولية على الدولة والمسلمين؟ أليس للكنيسة دور في نشوء هذه الظاهرة وتناميها؟ هل يجهل الكاتب أن الانبا شنودة خسر نزاعاً قضائياً مع الحكومة المصرية سنة 1983 عندما قرر مقاضاتها مطالباً بالعودة إلى منصبه، فأصدرت المحكمة الإدارية العليا حكماً تاريخياً برفض إعادته إلى منصبه ونسبت إليه تبني مطالب طائفية جعل البديل لها "بحراً من الدماء"؟ وفي النهاية إن الغضب مما نشر على صفحات "النبأ" مشروع، لكن حجمه مبالغ فيه إلى حد جعل كثيراً من المثقفين المصريين يذهب إلى أنه دليل حساسية مفرطة لدى الأقباط تحتاج إلى تحليل، والغضب من المبالغة في النشر يعطي مشروعية للغضب من المبالغة في رد الفعل القبطي، وما فعله الراهب المخلوع أكثر من مجرد انحراف شخصي. فالمواطن العادي الذي يرتكب جريمة مخلة بالشرف يصبح موضع تجريم، فكيف تسمح إدارة الدير باستمراره بعد أن ضبطت لديه قبل الواقعة والفصل من الدير ذهباً مسروقاً تمت إعادته إلى أصحابه، وهي لم تفصله عندئذ بل وضعته تحت المراقبة. وحال غياب الثقة في أجهزة الدولة التي عكستها الأحداث الأخيرة لا تعالج بالمطالب الطائفية، بل تعالج بأن تتحول الآلاف المؤلفة من الأقباط الذين تظاهروا وهتفوا ورفعوا الصلبان وواتتهم الشجاعة لرشق الشرطة بالحجارة، إلى غضبة لأجل الحريات العامة المسلوبة، لا كأقباط، بل كمصريين، فما حدث يؤكد أن الأقباط قادرون على المشاركة، لكن هناك من يريد احتكار هذه المقدرة وحبسها داخل أسوار الكنيسة. * كاتب مصري.