عندما اغتصبها جيفري كولي، كانت جاين تارانت في الرابعة عشرة من عمرها. حصل ذلك عام 1975، لكن جاين لم تدع على مغتصبها سوى بعد اثنتين وعشرين سنة، عام 1997. ويعود سبب ذلك الى ان ابنتها الوحيدة، ثمرة عملية الاغتصاب، اقنعتها تدريجاً بالادعاء على هذا الأب الغريب الذي ابتلتها الايام به. ولولا مساعدة ابنتها لها ومُظاهرتها لها اثناء المحاكمة التي استغرقت عاماً كاملاً، لما استطاعت ان تنتقل من وضعية الضحية المستسلمة والصامتة الى وضعية الضحية المطالبة بالعدالة. وجيفري كولي، الذي دخل السجن من قبل مرات عدة، لقيامه بعمليات اغتصاب طاولت قاصرات اخريات، كان طليقاً عندما ادعت عليه جاين وابنتها تشيريل، يعمل في متجر صغير في مدينة بريطانية بحرية. فوجئ بهذا الادعاء المتأخر وتنكّر لصحته طويلاً قبل ان يغيّر تكتيكه فيدّعي ان جاين كانت راضية بما كان يحصل لها. والحقيقة هي ان جاين كانت فتاة في ذلك السن، اغتصبها جيفري ثلاث مرات في بيت اهلها، مستفيداً من كونه صديقاً لهم، يزورهم ساعة يشاء. وكان يهدد جاين في كل مرة بالموت ان افشت سر ما كان يحصل. الى ان تركها وتحول الى سواها. ولم تتمكن جاين المرعوبة من المجاهرة بما حصل لها. فكتمت السر ووضعت طفلتها وادعت انها لا تعرف الوالد بالتحديد. وتابعت حياتها المثقلة بالصمت المسموم الذي حجب عنها متعة الحياة. فكانت ذاكرتها جاثمة في قعر البحر، كالغطاسين الذي يرتدون الثقالات الحديد للبقاء في القعر. الا ان شعورها المستكين هذا حركته ابنتها التي بدأت، منذ سنتها العاشرة، وبعد زواج جاين، تسألها عن ابيها الحقيقي. تقول تشيريل، الابنة: "عندما تزوجت امي، قالت رفيقاتي لي بأن الرجل الذي يأتي الى المدرسة ليرافقني الى البيت ليس والدي الحقيقي. وهنا بدأت اتساءل: لماذا لا توجد صور لأبي في منزلنا؟ لماذا لا تكلمني امي ابداً عنه؟". وكانت جاين، والدة تشيريل، صرحت لها بأن والدها الحقيقي حي، وفي مكان ما، من دون ان تشفي غليلها أكثر. وعندما كانت تشيريل تحاول حشر والدتها بالأسئلة، كانت هذه الاخيرة تمتنع من الاجابة، وتتجه نحو المطبخ. شعرت تشيريل بهذا الاحراج، فانحرجت وخجلت من نفسها وتوقفت لفترة عن طرح الاسئلة على امها. بعد ثلاث سنوات طلقت جاين من زواجها، فعقدت الابنة العزم على طرح السؤال المحرج مجدداً. وتقول تشيريل: "كنت بلغت الخامسة عشرة وأصبحت ناضجة نسبياً، فعند عودتي من المدرسة ذات يوم من فصل الشتاء طرحت على امي بقوة سؤالي الصعب: من هو ابي، يا أمي؟ وكنت اتصور انه فارس شجاع او ما شابه، واني ثمرة حب فريد من نوعه لم تتمكن امي من تجنب الاجابة على السؤال، وهي المدركة اني غدوت في وضع يسمح لي بفهم اشياء الكبار. لم ترد عليّ لكنها غادرت غرفة الجلوس لتتجه نحو غرفة النوم. ثم عادت وفي يدها علبة احذية حمراء فيها صور وقصاصات جرائد، اخرجت منها قصاصة مصفرة وناولتني اياها بعصبية وقالت لي: هذا هو! قرأت على احدى القصاصات العنوان التالي: أب يعتدي على ابنته ويدخل السجن". نظرت الابنة الى امها وسألتها: ما دخل هذا الانسان بأبي؟ فأجابتها جاين في حينه: "هذا هو والدك. والمقال الذي بين يديك سيسمح لك بالتعرف عليه والى النوعية التي ينتمي اليها!". شعرت الابنة وكأن جبلاً بكامله هبط على كتفيها، فأين هو بطل احلامها وتخيلاتها؟ ايمكن لهذا المغتصب الحقير ان يكون والدها الفعلي؟ تداعى عالم الطفولة في وعي تشيريل وقام عالم حقود وبغيض. فتمنت الابنة لو انها لم تطرح السؤال على امها اساساً، وندمت على اصرارها وحشريتها. ونظرت الى امها وفهمت ان هذه الاخيرة تغالب البكاء، محاولة الامتناع عن اظهار دموع قهرها امام ابنتها الحبيبة. قالت الأم بصوت متهدج: "اغتصبني عندما كنت في الرابعة عشرة، وحبلت بك من جراء ذلك...". بكت الأم بعدها. وبكت معها ابنتها. وأدركت بعدها تشيريل ان امها تعذبت طويلاً لكتمانها السر في قلبها طوال تلك السنوات. كما ادركت كم كانت امها تحبها لاخفاء هذه الوقائع عنها. "شعرت كم اني كنت محظوظة لكونها امي. لكونها ام سهرت على حمايتي طويلاً من هذه الحقيقة الفظيعة. لكني بدأت اتساءل عن طبيعة مشاعرها تجاهي: هل تحبني فعلاً؟ وما طبيعة حبها لي؟". تأثرت الابنة في العمق بصدمة الحقيقة التي جرحتها، وهنا يشير بالمناسبة اطباء النفس الى ان افضل طريقة للتخلص من الصدمة الجرمية Traumatism هي في استيضاح الحقيقة واخراجها من الظلام بالقاء الاضواء الكاشفة عليها. وهذا ما قامت به تشيريل وامها في المرحلة الاولى، حيث رافقت الابنة امها عند طبيب نفساني فأخرجت من رأسها كل كوابيسها القديمة. بعدئذ شجعت تشيريل امها على الدخول في محاكمة علنية لمغتصبها جيفري كولي. والحقيقة هي ان تشيريل التي لم تعرف ذلك الرجل، لم تشعر تجاهه بأي مشاعر بنوية، فهو الغريب الذي تسبب بالأذى لأمها. هذا كل ما كانت تعرفه عنه. بل توصلت الى خلاصة حياتية كبيرة ضبطتها في العبارة الآتية: "لا وجود لهذا الرجل بتاتاً في حياتي. وأنا اشعر اني ابنة انسان واحد: أمي". عندما بلغت تشيريل الحادية والعشرين قررت امها جاين الادعاء على جيفري كولي. ففرحت الابنة وساعدتها في الولوج الى محاكمة عادلة. وتقول تشيريل: "لم افاجأ بقرار أمي. اذ كانت مصممة تماماً بعدما قبلت الشرطة رفع الدعوة الى المحاكم. وعلى رغم معاضدتي لها في متابعة شؤون الادعاء والمحاكمة، كانت امي دائمة القلق عليّ. اذ كانت تخشى ان يكون بوحها بتفاصيل اغتصابها المتكرر مؤلماً بالنسبة اليّ. لذلك تمنت عليّ عدم حضور الجلسات والاكتفاء بحضور الجلسة النهائية، حين يصدر الحكم". وكانت فحوصات الدم اثبتت بما لا يقبل الشك ادعاءات جاين فثبتت التهمة على جيفري كولي الذي كان يحاول التفلت من مسؤولية ما حصل. استمعت المحكمة الى ردود جيفري الملتوية والمبنية على كذبة القبول الطوعي لجاين. الا ان المحكمة، وبعد مذاكرات طويلة لهيئة المحلفين فيها، رفضت حجج الرجل. فقال له القاضي: "تعلم تماماً، يا سيد كولي، انه في سن الرابعة عشرة كان يستحيل على جاين ان تكون، قانوناً، راضية. كما انك هددتها بالقتل، لذلك لم تتجرأ على البوح بالخبر لأحد في حينه. علاوة على ان سجلك العدلي مثقل بالأحكام بجرم الاعتداء الجنسي والاغتصاب. فقد حكم عليك، قبل الآن، ثلاث عشرة مرة بالسجن، لمدد قصيرة. اما اليوم، فستقوم محكمتنا، وبعدما اعتبرتك هيئة المحلفين مذنباً، بالحكم عليك لمدة ثماني سنوات كاملة من دون امكان تخفيض لهذه المدة". في ذلك اليوم، بكت جاين وتشيريل في المحكمة طويلاً، متأثرتين بما سمعتاه. وعلقت الابنة لاحقاً على الحدث قائلة: "بعد هذا الحكم، شعرنا امي وأنا، بأن حياتنا قابلة لأن تكون حياة عادية، مثل حياة كل الناس". كابوس الصمت وتبكيت الضمير والشعور بالذنب الذين كانت عملية الاغتصاب والحمل تسببت به ذهبت بعيداً بعد سجن الجاني. وبدأت كوابيسه هو ربما. او على الاقل مشاعر القهر التي تواكب المهزوم... صحيح ان الماضي لن يتغيّر، وصحيح ان ما حلّ بالأم والابنة لن يتعدل، غير ان شعور المرأتين تجاه ماضيهما اضحى جديداً. وكذلك النظر الى مستقبلهما. تشيريل تزوجت الآن وتربي طفلها برفقة زوجها. وجاين اصبحت جدة، تغمر الجميع بعطفها. ان مرارة بعض احداث الحياة لا تلغي حلاوة العيش عندما يصمم الانسان على المجاهرة بحقه فيها. فالمهم ليس في ماضيه، بل في مستقبله، خصوصاً عندما يكون الماضي تعساً. وصداقة جاين وتشيريل نوع مميز من التضامن النسوي والأسري البناء. فحقهما في الحياة غير قابل للدحض. تماماً كما هو حق جيفري في السجن.