"تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم رواية سجين، أُفرج عنه ليعود إلى حياة الحرية، وذلك بعد معاناة فظيعة في معتقل، أهدر إنسانية من كانوا فيه، وقضي على حياة بعضهم، كي يكونوا عبرة لغيرهم، ونموذجاً رادعاً لمن يحاول أن يكون مثلهم. ولم يخرج منه أحد إلا بعد أن حمل، في داخله، من آثار التعذيب، ما يترك الوعي واللاوعي كالداء الذي لا برء منه ولا دواء. هكذا، يواجه السجين السياسي الحياة خارج المعتقل، معزولاً، مراقباً، محكوماً عليه بالاغتراب في عالم لا يتردد في إظهار لا مبالاته، ولا يخلو من أنواع القبح والمرض والشذوذ والعنف، ولا يفارقه الفساد الذي تزكم رائحته الأنوف، كأنها رائحة المجاري الطافحة التي تغدو وطأة الإحساس بها العلامة المتكررة في رحلة السجين السياسي الخارج من السجن الصغير إلى السجن الكبير. وعندما تتخذ الرواية من "تلك الرائحة" عنواناً لها بصيغة التنكير، وهي صيغة لا تقع على مسمّى محدد بعينه، فإنها تفتح أبواب التأويل على مستوى التفسير، وأبواب التوقّع على مستوى القراءة، فتتعدد احتمالاتها، ابتداء من رائحة دم "البق" الذي يمتزج برائحة عرق الأجساد المشحونة في غرفة الحبس الموقت بقسم الشرطة، مروراً برائحة الغبار في الطرقات، وانتهاء برائحة المجاري الطافحة في البلد كلها فيما تقول أخت البطل، أو مياه المجاري التي رآها البطل تملأ الأرض بالقرب من شارع سليمان باشا، وتنتشر في كل مكان، تحملها المضخات من داخل المحلات إلى الطرقات، فتنتشر الرائحة التي لا تطاق، والتي تظل في أنف البطل علامة لا تفلتها الرواية في الدلالة على التفسّخ والتحلّل والتعفن الذي انتشر، والذي بقيت رائحته الكريهة علامة على عالم فاسد معطوب. هذا العالم الفاسد المعطوب لا ينتسب فيه البطل إلى أحد، ولا يتقبّله أحد. ومنذ اللحظة الأولى التي يخرج فيها من السجن، يسأله الضابط عن عنوانه، فيجيبه بأنه لا عنوان له، ولا يأبه بدهشة الضابط عندما يؤكد له أنه لا يعرف إلى أين يذهب، أو أين يقيم، فقد كان يعيش بمفرده قبل السجن، وسيظل يعيش بمفرده بعد السجن. أين؟ لا يعرف. وكيف؟ لا يدري. كل ما يعرفه أو يدريه أنه سيمضي إلى العالم مدركاً في قرارة نفسه أنه سيحيا وحيداً، معزولاً، منبوذاً، متوحداً. ويتأكد لنا ذلك عندما يصحبه العسكري ليمرّ به على الأهل والأصدقاء، لعل واحداً منهم يتقبّله موقتاً، فينكره أخوه الذي يبلغه أنه على سفر ولا بد أن يغلق الشقة، وينكره الصديق الذي يتعلل بإقامة شقيقته معه، فلا يجد في النهاية إلا غرفة الحبس الاحتياطي في القسم، يستضيفونه فيها إلى الصباح، في انتظار أن تأتي أخته لتتسلمه بعد أن تكون قد تدبّرت أمر غرفة معروفة العنوان لإقامته، وذلك حتى يسهل على رجال الشرطة مراقبته في عالم السجن الكبير الذي انتقل إليه بعد مغادرة عالم السجن الصغير، والذي لن تفارقه تجليات "تلك الرائحة" على امتداد صفحات تلك الرواية. والرواية كلها سياحة في تفاصيل عالم ما بعد المعتقل من هذا المنظور. وزمنها الداخلي لا يجاوز عشرة أيام. يبدأ من اللحظة التي يسأل فيها الضابط السجين عن عنوانه الذي سيتابعونه فيه، يومياً، كما تقضي تعاليم المراقبة التي هي إكمال للعقوبة. وينتهي هذا الزمن في اليوم العاشر، بعد أن نكون قد طُفْنا مع البطل في عالم ما بعد السجن، وتعرفنا على هذا العالم من خلال وعيه، وعبر حواسه التي تلتقط التفاصيل الدالة من هذا العالم والدالة عليه في آن. وضمير المتكلم هو ما يخاطبنا في تلك الرواية القصيرة، المشحونة والمكثفة، مستخدماً لغة عارية لا تعرف الزخارف اللفظية. لغة خشنة، جافة، إشارية، كأنها لغة التقارير، أو المذكرات اليومية التي تتدافع فيها تفاصيل، يحكم تتابعها وعي يراقب كل شيء، في كل لحظة من لحظات الأيام العشرة التي يمتد عبرها زمن الرواية الخاص. والراوي الذي يدلّ عليه ضمير المتكلم هو كائن لا نعرف اسمه، ولا يناديه أحد باسمه، تخلو ملامحه من البطولة، ولا يدّعي بطولة من أي نوع. يعرف الجميع أنه خارج من المعتقل، لكن لا أحد يسأله عن هذا المعتقل. وهو نفسه ينظر إلى الأشياء والأحداث والمواقف وسلوك الأشخاص نظرة من لم يعد ينفعل، أو يندهش، أو حتى يتعجّب، فلم يبق منه، بعد ما عاناه في سجنه، إلا قدرته على التسجيل الذي يبدو محايداً في الظاهر، بارداً على مستوى السطح، ولكنه تسجيل ينداح حياده وبروده على مستوى تتابع الدلالات التي يُخلفها فينا نحن القراء، سواء بسبب توجيه التتابع، أو اختيار المشاهد، أو التوقف عند شخصيات بأعيانها، أو أحداث ومدركات من دون غيرها، فنحن - في النهاية - لا نرى إلا ما تريد لنا عينا هذا البطل أن نراه، ولا نشمّ إلا تجليات "تلك الرائحة" التي يمتلئ بها إحساسه الشمّي، ولا نسمع من الحوارات والتعليقات إلا ما يحدده لنا إدراكه لتفاصيل العالم الذي يعاد تركيب علاقاته في وعي يقظ. وربما كان من قبيل التأكيد الإشارة، في هذا السياق، إلى دلالة "الفضول" في الجملة التي هي أول ما ينطق به هذا البطل، بعد خروجه من السجن إلى الشارع مع العسكري، حيث يقول: "تلفَّتُّ حولي في فضول". فهي جملة دالة، ينطوي دال "فضولها" على ما يمكن أن نعدّه أحد المفاتيح الدلالية لتشابكات الرواية كلها، فالبطل مفعم برغبة التعرف على ما حدث للعالم خارج السجن في غيابه، ورغبته المعرفية عارمة في التواصل مع هذا العالم الذي لا بد أنه تغير خلال سنوات السجن الطويلة، ولا بد من معرفة ملامح تغيره، وملامح ثوابته إن كان له ثوابت باقية. ولذلك فالعين المحدقة عنصر دلالي تكويني في الرواية، والأنف توازي العين في حساسية التقاط روائح المدركات المنظورة، لا تقل رهافة عن الوعي المنتبه إلى كل ما حوله، والمتلهف على معرفة ماذا جرى طوال سنوات الغيبة القسرية في السجن. وأولى أدوات الإدراك المعرفي الحاسمة، لجولة البطل في العالم الذي يعانيه بعد انتهاء اعتقاله، هي الحواس المرهفة المشرعة لالتقاط أصغر التفاصيل، ما ظلت لها دلالة يمكن أن تعين الوعي على الفهم، والعين على إبصار الطريق، والأنف على تمييز كل ما يأتلف مع أو يختلف عن "تلك الرائحة" التي تعود بالوعي إلى تداعيات السجن الكريهة. ولذلك لا تخلو نظرات العين المحايدة للبطل، ظاهريا، أو صورها البصرية، من الدلالة على مرامي المفارقة، أو الإشارة إلى معاني السخرية، شأنها في ذلك شأن الأنف التي تلتقط من الروائح ما لا يبتعد بنا عن مناط السخرية أو مجرى المفارقة، فتظل المدركات الحسية للعين والأنف علامات لا تكفّ عن لفت انتباهنا إلى مفارقات العالم الذي يُدخلنا فيه البطل، ويدفعنا إلى ملاحظة خلله الذي ينطوي على المفارقة ويبعث على السخرية. أما المفارقة فتتمثل - في ما تتمثل - في حدة المسافة التي تباعد بين شعارات وممارسات تدّعي بناء عالم اشتراكي، أساسه العدل الاجتماعي، والاشتراكيين الحقيقيين الذين كان يتم تعذيبهم في السجون. وهي مسافة تلفت الانتباه إلى المفارقة الملازمة لبناء عالم اشتراكي، من حيث إعلاناته وشعاراته، بغير الاشتراكيين، بل بأعداء الاشتراكية وأنصار رأسمالية الدولة في واقع الأمر. ومن هذه المفارقة الأساسية، تمتد المفارقات التي تبدأ من الوجوه الجامدة التي تواجه كل شيء بالوجوم، وانتهاء بتنويعات البحث عن إمكانات الحياة الواعدة؟! في عالم لم يعد فيه إلا كل ما يشير إلى الموت أو التحلّل الذي يسبق النهاية. وذلك كله في إيقاعات سردية لا تفارقها المواقف أو التعليقات الساخرة، أو حتى المشاهد التي تتبطن السخرية حيادها الظاهري. ومن ذلك، مثلاً، السخرية المتضمنة في الهجوم على البطل الذي ينسب إليه بعض شخصيات الرواية هدف إشاعة الفقر مع أنه ضحية للنظام الذي رفع، كاذباً، شعارات غير حقيقية عن العدل الاجتماعي. ومن ذلك، أيضاً، الإشارة إلى العلاقات الزائفة بين البشر: الرياء الذي يواكب الخوف في المواقف الإنسانية، ضعف الإرادة الذي يوازي فعل التبول اللاإرادي، تجاوبات المشابهة بين الإنسان والحيوان، صرخات الجنون التي تتجاوب مع مشاهد الموت المتناثرة في الطرقات، بل حتى مع عنوان أفلام عن "الطيور" التي تنهش البشر، أو "عالم مجنون مجنون". ويوازي ذلك انعدام التواصل حتى بين الأخ وأخيه، أو السخرية المضمرة من خطيب الأخت الذي لن يستطيع أخوها المراقب حضور زفافها، حيث لا بد من التتميم عليه، كل مساء، في غرفته. وأضيف إلى ذلك السخرية حتى من الكتابة التي تعوّد البطل على أساليبها قبل سجنه، والتي أصبحت عاجزة عن التعبير عن عالم سجنه الممتد من الداخل إلى الخارج، تماماً مثل "تلك الرائحة" التي تصل ما بين كل الأحداث والشخصيات والعلامات. ولكي يزداد هذا كله تعيّناً، فإن علاقات الزمن الداخلي للسرد لا تخلو من إشارات إلى الزمن الخارجي الذي يدل عليه الزمن الداخلي، أو يوازيه، في تلك "الرائحة". فهو زمن ينتسب إلى الستينات الناصرية، غير بعيد عن العام الرابع والستين الذي أُفرج فيه عن كثير من المعتقلين اليساريين الذين أُلقي القبض عليهم في أول كانون الثاني يناير سنة 1959، وصدرت ضدهم أحكام متفاوتة بالسجن الذي احتوتهم زنازينه، ما بين ليمان أبي زعبل الذي مات فيه شهدي عطية الشافعي من التعذيب وسجن القناطر ومعتقل الواحات الخارجة، إلى أن أُفرج عن معظم المعتقلين الذين صدرت ضدهم أحكام، ومنهم صنع الله إبراهيم الكاتب الذي حكم عليه بالسجن سبع سنوات في عام 1960. وكان الإفراج عنه في أيار مايو 1964، حيث خرج إلى عالم ما بعد المعتقل، وأخذ يعاود الكتابة، ويسعى إلى اكتشاف لغة قصصية، قادرة على تجسيد خصوصية وعيه بعالم ما بعد المعتقل الذي لم يخلُ، قط، من ذكريات المعتقل أو آثاره. ولا تقول لنا رواية "تلك الرائحة" ذلك كله بشكل مباشر، على رغم أننا يمكن أن نعدَّها رواية من روايات السيرة الذاتية بأكثر من معنى، أو رواية تتصل بمرحلة بعينها من مراحل حياة بطلها الذي هو كاتبها. ففي تفاصيل السرد الروائي ما يتطابق وبعض تفاصيل حياة المؤلف نفسه، ابتداء من مهنة الكتابة التي يعانيها البطل والمؤلف على السواء، وانتهاء بمعاناة تجربة الاعتقال التي تصل بين الاثنين وصل الصوت بقناعه الروائي في غير حالة. وتعزز دلالة استخدام ضمير المتكلم احتمالات هذه المطابقة وتؤكدها، مبرزة معاني خاصة تكتسبها بعض الأسماء، وذكريات محددة عن الرفيق الذي مات من التعذيب، والذي يومئ إلى شخص شهدي عطية الشافعي، ويجعل من بعض ذكريات بطل الرواية ذكريات الشاهد الذي رأى أول القتل، وما كان يستطيع أن يفعل شيئاً يحول بين رفيقه والموت تعذيباً، فقد كانت نيّة الاغتيال مرفوعة كالسيف على رقاب الجميع من دون استثناء. وأتصور أن الطابع التسجيلي للرواية، من حيث علاقاتها بواقع متعيّن تشير إليه على سبيل التضمن أو اللزوم أو المطابقة، وهو الطابع الذي يقترب بها من خصائص المذكرات العفوية التي تشبه التقارير الأولية للكتابة السردية، هو المسؤول عن طبيعة الملامح المائزة لكتابتها النوعية، خصوصاً ما يبين عنه السرد في هذه الكتابات من بعض العلامات التي يشير بها الزمن الداخلي للقص إلى الزمن الخارجي ومناخه العام. وتتمثل بعض هذه العلامات في نوع الملابس الصيفية التي ترتديها شخصيات الرواية في أيامها العشرة التي هي مدى زمانها الداخلي، أو في النادي الذي يصحب إليه البطل -الراوي ابنة صديقه الذي مات من التعذيب في السجن كي تلهو مع الصغار في حمام السباحة، أو في النوافذ المفتوحة في مواضع عدة من السرد، أو في وجوه السيدات المتعبات في المترو، وقد "ساح" كحل العيون من الحرارة. وتتصل، أخيراً، بالغبار الذي أفسد هندام البطل -الراوي أو تراكم على مكتبه. ويضاف إلى مثل هذه العلامات التي تحدّد فصل السنة، أو تدل عليه، العلامات التي تعيننا على تحديد السنة أو الاقتراب منها. ومثال هذه العلامات ما نراه بعيني الراوي، عندما يحاذي المترو الذي يركبه قطاراً خارجاً من محطة "باب الحديد"، وكان القطار مليئاً بالجنود العائدين من اليمن، يهلّلون من النوافذ، ويهتفون ويلوحون بأيديهم. وكان ذلك قرين التدخل العسكري المصري في اليمن لدعم ثورة التحرر الوطني التي بدأت في ايلول سبتمبر 1962، بقيادة عبدالله السلال، والتي سرعان ما واجهت تحديات القوى المضادة، الأمر الذي فرض نفسه على جمال عبدالناصر الذي قرر دعم الثورة عسكرياً من منطلق المسؤولية القومية. وهو الدعم الذي لم توافق عليه تيارات معارضة لسياسة عبدالناصر القومية. أقصد إلى التيارات التي يكشف البطل -الراوي بوصفه قناعاً عن جانب من موقفها بواسطة صياغة المشهد التالي: "وعندما تركنا ميدان رمسيس سار بجوارنا قطار في الاتجاه نفسه. وكان ممتلئاً بالجنود العائدين من اليمن. وكانوا يهللون من النوافذ ويهتفون ويلوحون بأيديهم. وعندما أصبح المترو في حذائهم، ازداد حماسهم وهم يتطلعون إلى ركابه. وتأملهم هؤلاء في جمود ولا مبالاة. وشيئاً فشيئاً هبط حماس الجنود. وكان المترو قد سبق القطار الآن. وأدرتُ رأسي إلى الخلف. كانت أيدي الجنود تتدلّى من نوافذ القطار. ولمحتُ أحدهم يرمي بغطاء رأسه إلى الأرض". وفي جمود ركاب المترو ولا مبالاتهم بحماسة الجنود العائدين ليستريحوا من الحرب التي قيل لهم إنها دفاع عن القومية العربية في مواجهة الاستعمار ما يعكس لا مبالاة الركاب نتيجة الأوضاع السيئة التي كانوا يعيشونها، الأوضاع التي تسللت بسلبها وإيجابها إلى حوارات شخصيات الرواية، سواء في تعليقات البطل الذي يقول لإحدى قريباته: "كل الناس أراهم في الشارع وفي المترو متجهّمين دون ابتسام". أو عبارات نهاد، أثناء تبادل الآراء حول قرارات التأميم الاشتراكية التي حدثت أثناء اعتقال البطل: "قالت: تصور ماذا فعلوا بأبي؟ طردوه من شركته بعد أن أخذوها. وقالت: إنهم تآمروا عليه، واتهموه بأنه يتلاعب... وقالوا: أتعجبك الحال؟ وقال الأب: إنه قابل ناساً قادمين من روسيا، وإن الفقر هناك شديد. وقال: إن الرأسمالية أفضل. وقالت نهاد في حماس: هل يستطيع أحد أن يجادل في ذلك". وهي آراء لا تتباعد عن تعليقات خطيب أخت البطل في منحاها العام، خصوصاً حين يأتي هذا الخطيب ذات مرة، ويقول: "إنه وقف ساعتين أمام الجمعية ليشتري اللحم" و"إن الحال لا تطاق" وقال: "أنتم تريدون أن تنشروا الفقر" كما قال: "ليست أمامي فرصة للثراء، لو كوّنت أي شيء ستأخذه الحكومة". ويمكن أن نضيف إلى ذلك ما قاله شقيق الراوي: "تلف كل شيء منذ أصبح العمال في مجالس الإدارات"، أو تقوله زوجة صديق خطيب الأخت: "إن العمال لم يعد أحد يعرف يكلمهم". وكلها تعليقات تشير في الاتجاه الدلالي نفسه الذي تفضي إليه، ولكن من مجرى مغاير، تعليقات موازية تتصل بحضور العسكر، أو الضباط الموصوفين بأنهم "أولاد زنا"، الذين يمثل حضورهم زوج الابنة الصغرى للشقيق، خصوصاً في وقفته إلى جوار زوجته "وهو يداعب نجوم بدلته العسكرية بأصابعه". ويبدو حضور هذا الضابط ببدلته العسكرية الوجه الآخر من المشهد الذي يدخل إليه عادل صديق خطيب الأخت وزوجته ليقول: "إنه بعكس الموظفين الآخرين لا يرتشي" فتقول له زوجته: "خيبة!". وتدل العلامات السابقة على المناخ العام، وعلى تجليات الخطاب السائد، وعلى وقائع خارجية تعيدنا إلى سياق العام 1964 الذي خرج فيه المعتقلون من السجن، ذلك السياق الذي أصدر فيه علي صبري كتابه "سنوات التحول الاشتراكي". وذلك كله في تداعيات سردية لا تخلو من علامات أخرى على الزمن الخارجي لوقائع العالم التاريخي الذي يوازيه الزمن التاريخي للقص في "تلك الرائحة" ويتطابق معه في حالات عدة، منها -في ما أحسب - حال الإشارة إلى عروض الأفلام التي شاهدها البطل -الراوي، أو سعى إلى مشاهدتها، في سينمات وسط المدينة أو حيّ مصر الجديدة، حيث الإشارة واضحة إلى فيلم هيتشكوك الشهير عن "الطيور" التي "يزداد حجمها وعددها حتى تتوحش وتطارد الناس، وتفترس الأطفال". أضف إلى ذلك الإشارة إلى فيلم "عالم مجنون مجنون" الذي لم يستطع البطل الراوي مشاهدته بسبب الزحام الشديد الناتج عن الإقبال الجماهيري الواسع على ذلك الفيلم الشهير الذي قام ببطولته الممثل العالمي سبنسر تراسي مع كوكبة من نجوم السينما الأميركية.