أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    الذهب يرتفع بعد تهديدات الرسوم الجمركية الأميركية.. وارتفاع الدولار    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب المزدوج الهوية : نحو هجنة ثقافية ؟
نشر في الحياة يوم 06 - 06 - 2001

} الأدباء الذين يكتبون بلغات غير لغتهم الأم، أين يحضر أدبهم هنا أو هناك؟ هل يقاومون الآخر بلغته أم يذوبون فيه؟ أم ان الأمر سائر الى هجنة ثقافية تفاقمها العولمة ولم تتضح معالمها بعد؟ هذه الأسئلة تطرحها مراجعة لمجلة "ألف".
استطاعت "ألف" في عددها الأخير سنوية عن قسم الأدب المقارن في الجامعة الاميركية في القاهرة رئيسة التحرير فريال غزول أن تعاود التأكيد على جدارتها بالاهتمام العام والقراءة الجادة. وحرصها على أن تجمع بين مفكرين مصريين وعرب وأجانب. كما تلتزم نشر المقالات التي تتسم بالجدة والجدية معاً، باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية. وتخصص جزءاً منها لتلخيص محتوى المقالات كلها، ما يساعد القارئ على مراجعة شاملة، مع تعريف بكتاب العدد، ما ييسر على القارئ مراجعة أعمالهم إن شاء.
يناقش العدد قضية تُطرَق للمرة الاولى في الثقافة العربية، على رغم تعدد الدراسات الغربية حولها منذ أمد، وهي "النص الإبداعي ذو الهوية المزدوجة: كتّاب عرب يكتبون بلغات أجنبية"، يناقشها اثنان وعشرون مقالاً: مقال باللغة الفرنسية، وعشرة مقالات باللغة العربية، وأحد عشر مقالاً باللغة الإنكليزية. وتغطي هذه المقالات حقبة طويلة من الكتابة الإبداعية ذات الهوية المزدوجة، تمتد منذ النصف الأول من القرن العشرين مع أعمال ألبير قصيري وأحمد راسم وجويس منصور وجورج حنين ودرية شفيق، وحتى كتّابنا المعاصرين إدوارد سعيد وآسيا جبار وحنان عشراوي وشريف موسى وجورج شحادة وإيتل عدنان وأهداف سويف وغيرهم. كما تمتد المقالات أفقياً لتتابع هذه الإبداعات في مجالات الشعر والقصة والرواية والسيرة الذاتية والسينما والمسرح. فضلاً عن متابعتها للكتاب ونصوصهم في مجالهم الثقافي المزدوج: من حيث المنبع أو المصب، فهي تعرض لكتّاب مصريين وفلسطينيين ومغاربة وجزائريين ولبنانيين وموريتانيين يكتبون باللغات الفرنسية والانكليزية والالمانية والهولندية والعبرية. ومع اتساع مناحي البحث تتعدد مناهج دراسة النصوص ما بين المحاورة أو الشهادة أو التحليل اللغوي للنصوص أو التحليل السياسي والاجتماعي لها.
ما لفت انتباهي في هذه الدراسات على تنوع مناحيها ومناهجها أنها لم تستطع الفرار من إبراز صلة الأدب بالمجتمع وهويته الثقافية. كأنه لا يمكن فصل النصوص المزدوجة الهوية عن إشكال الهوية وإشكال الصراع الشرقي الغربي في فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار. كما بدا لي أن أزمة هذا النوع من الأدب ليست خاصة بالنقد العربي الذي يتردد في احتساب آدابهم على رصيد الأدب العربي، بما أنهم لا يكتبون بالعربية ولا يخاطبون جمهوراً عربياً، وإنما هي أزمة تمتد إلى النقد الغربي ذاته الذي يرفض بدوره ضم هذه الآداب ذات الأصول العربية إلى رصيد أدب الخلصاء من أبناء أمته، اللهم إلا بعد تصنيفها تحت باب يسميه "بأدب الملونين أو المهاجرين"، ولا يعني هذ الاستثناء التقليل من قيمة هذه النصوص، بقدر ما يوحي بتقدير لها مشروط بمدى نجاح هذه النصوص الأدبية ذات الأصول الثقافية المختلفة - وفقط بوصفها كذلك - في إثراء أدب الأمم الغربية.
في ضوء هذه المشكلة النقدية المزدوجة يحاول بعض كتّاب العدد تبيان فاعلية الأدب المزدوج الهوية ودوره فى تثوير الأدب العربي، وتطويره، كأنهم - بذلك - ينتزعون له شرعية الوجود في إطار الثقافة العربية، حتى وإن كان هذا الأدب مكتوباً بلغة أجنبية، فإدوار الخراط في مقاله: "مصريون"... عن لغة منحوتة من العامية المصرية، صورها تصف حضيض المدينة القاهري وفاجعة المعدمين وشطحات المدمنين والبغايا، ونزعتها هي الواقعية المفرطة التي تكشف خبايا القاهرة الشعبية. ومع أشعار جويس منصور نتجاوز الاعتدال والتوسط والاتزان التي تميز الذائقة المصرية التقليدية لنكتشف وجهاً آخر لهذه الذائقة يتمثل في الشطح الجسدي والروحي والعقلي الذي نلقاه في حلقات الذكر الصوفي، وفي تراث مصر الصعيدية الافريقية، وفي الأيقونات القبطية وقباب المساجد والأضرحة الإسلامية التي تتجاوز المنظور المألوف. ومثل هذه الروح المصرية المجنحة هي التي تبرز في كتابة جويس منصور الإيروتيقية القاتمة الموشاة بومضات من السخرية والدعابة السوداء. أما إدموند جابس اليهودي المصري الذي رفض أن يذهب إلى إسرائيل أو أن يصبح فرنسياً تماماً بعد هجرته الى فرنسا، فقد تمسك في كتاباته باللغة الفرنسية بفلسفة الروح المصرية التي تتمثل في تحدي الزمن وتأمل معضلاته. وينتهي المقال إلى أن دور هؤلاء الكتاب - في الأربعينات - لم يكن مقصوراً على إبراز الروح المصرية بشكل جديد، وإنما يتعداها إلى التأثير على تقنيات الكتابة الأدبية العربية في السبعينات، ويشهد إدوار الخراط أنه هو نفسه كان واحداً ممن تأثروا بهذا المنحى التجديدي. في هذا الإطار لا يمكن للنقد العربي أن يتجاهل أعمالهم، "لكن مسألة الكتابة بلغة أجنبية تظل عائقاً يدعو للتساؤل عن حدود الاعتراف بهم كأدباء مصريين؟".
وينضم بشير السباعي - بمقاله التوثيقي العام عن جورج حنين وأقرانه من جماعة "الفن والحرية" التي تأسست العام 1939 - إلى زمرة الكتاب الذين يرون هذا الأدب جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية، لا لأن هذا الأدب يكشف خبايا الروح المصرية كما يرى إدوار الخراط، ولكن لأن الهمّ الأساسي لجورج حنين ورفاقه رمسيس يونان وأنور كامل وكامل التلمساني وغيرهم كان إصلاح المجتمع المصري، تحدوهم جميعاً إرادة التحديث الجذري للثقافة المصرية، وإن كانوا في هذه الدعوة متأثرين ومعاصرين لنزعة التحديث التي رادها السورياليون الفرنسيون في فرنسا، وللنزعة الأممية للأحزاب الشيوعية في أنحاء العالم. وعلى رغم "أن الجماعة لم تكن تنوي أن تكون جزيرة فرنكوفونية معزولة، بل كانت تهدف إلى تحقيق انغراس واضح في الثقافة المصرية"، إلا أن الحال انتهى بها إلى تأثير محدود في الأدب العربي، والى هجرة رائدها حنين إلى فرنسا عام 1960. مع ذلك تظل لدعوتهم وترجماتهم ومنظوراتهم السياسية إسهاماتها القيمة في تقليب التربة المصرية.
وفي تقديري أن التربة المصرية تستجيب لتقليبها من حين لآخر بالأفكار الوافدة المخصبة المحفزة للابتكار، لكنها لا تقبل هيمنة هذه الأفكار أو زرعها كنبتة غريبة في أرضها. وهذا يتطلب جهداً آخر غير التعريف والترويج للأفكار الجديدة، جهداً أشد وأطول مدى يصبو الى الفرز والنقد والمواءمة. فإذا كانت نيات الكتاب - السالف الذكر - هي تحديث المجتمع المصري من خلال الأفكار الغربية الوافدة، كما يرى بشير السباعي، فإن نيات كتّاب آخرين كانت - على العكس من ذلك، أرادوا الانتقال بقضايا الوطن العربي إلى قلب الثقافة الأجنبية نفسها، دفاعاً عن هذه القضايا، وذوداً عن حقوق شعوبهم لدى الجمهور الغربي. وهو ما يتضح لنا في مقال شيرين أبو النجا عن الشعر الإنكليزي لكل من حنان عشراوي وشريف موسى في تبنيه للقضية الفلسطينية. واستطاعت الباحثة من خلال منهج التحليل اللغوي لهذه القصائد أن تبرز الدور المهم الذي يلعبه هؤلاء الكتاب في ضرب الهيمنة الثقافية للمستعمر من داخلها، أي من خلال استخدامهم لغة إنكليزية مشحونة بأفكارهم القومية. "وهنا لا يصبح تبني لغة المستعمر مجرد استكمال للخضوع إليه، وإنما تحدياً للسيطرة الاستعمارية، وتأكيداً على الخلاف الذي لا يمكن تجاوزه بين المستعمِر والمستعمَر". فشعر حنان عشراوي يصف تجربة الموت اليومي في الأراضي المحتلة من منظور الأم الثكلى، ومنظور الجندي الإسرائيلي الذي يجد نفسه في موقف متوتر متناقض، وهو يتصدى بالسلاح الدموي الفتاك لحجارة الأطفال. أما تجربة شريف موسى الشعرية فهي تجمع بين الكتابة الشعرية والسرد القصصي لحكاية الشاب العربي - الفلسطيني حسين الذي يُستأنس وتسطح هويته. وذلك من خلال تبدد أمانيه في التحرر تحت مظلة السلطة الفلسطينية في الداخل، وعبثية الآمال التي يتطلع إليها بعمله في بلاد الخليج. من هذا المنطلق تصبح الكتابة باللغة الأجنبية من قبل الكتّاب العرب نوعاً من المقاومة.
يمكن للأدب العربي المكتوب بلغة أجنبية، إذاً، أن يكون نوعاً من المقاومة للغطرسة والهيمنة الاستعمارية، وهذا ما تستشعره أيضاً أهداف سويف في حوارها مع سامية محرز، إذ نجحت أعمالها الروائية "عين الشمس" و"خريطة الكتابة" في تصوير الذات في مواجهتها للآخر، كما نجحت في اقتحام اللغة الإنكليزية وتطعيمها ب"الوجدان المصري والروح العربية". وهو ما يبرز بوضوح في مقال أمين ملك عن أهداف سويف التي تهتم بوصف المرأة العربية في خصوصيتها وتحررها المخالف لتحرر المرأة الغربية. كما تبرز روح الأدب المقاوم نفسها في مقال محمد اللوزي عن مسرحية كريم الراوي "أرض الميعاد" المكتوبة بالإنكليزية، وفي السيرة الذاتية لإدوارد سعيد، كما نرى في مقال نادية الجندي.
لكن مقاومة الهيمنة من خلال الكتابة بلغة المستعمر مسألة أكثر تعقيداً مما نظن، وهذا ما نستشفه من مقال تحية عبد الناصر في تبنيها للمنهج المقارن بين كل من الرواية العربية "اللحن الأول" والرواية الإنكليزية "متسولة عند باب العمود" وكلتاهما للكاتبة الفلسطينية ياسمين زهران، وبين الرواية الإنكليزية الأخيرة وبين الرواية العربية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح. وترى الباحثة أن كلاً من الرواية الإنكليزية لياسمين زهران والرواية العربية للطيب صالح، تعالج قضية "الهجنة الثقافية" التي تعيشها مجتمعاتنا العربية المعاصرة. فرواية "متسولة عند باب العمود" تتكون في الحقيقة من روايتين متداخلتين: الأولى عبارة عن رواية ريا الفلسطينية لسيرتها من وجهة نظرها، والثانية قراءة صديقها الإنكليزي أليكس لهذه السيرة وتعليقه عليها من وجهة نظره هو. وعلى هذا النحو تقدم لنا الرواية الإنكليزية الهوية الفلسطينية من وجهتي نظر متقابلتين أو متصارعتين. في حين أن رواية الطيب صالح تحكي الصراع بين العادات التقليدية لقرية البطل وبين تعليمه الأجنبي الذي يرغب في بث الحضارة في البلاد، فينتهي به الأمر إلى بث جرثومة العنف الأوروبي فيها. أما مقارنة الباحثة بين روايتي ياسمين زهران فينتهي بها إلى: أن الرواية العربية "اللحن الأول" تعبر عن تشكل الذات الفردية والجماعية وعنف اقتلاعها عن ترابها، بينما تعبر الرواية الإنكليزية "متسولة عند باب العمود" عن مواجهة الأنا الفردية والجماعية مع الآخر بكل ما في هذه المواجهة من رغبة وكراهية.
المسألة إذاً ليست بهذه السهولة، فمقاومة المستعمر من خلال لغته تنطوي على إحساس متناقض بالعشق والكراهية معاً. وهذا ما تعبر عنه بمهارة درامية فائقة آسيا جبار الكاتبة الجزائرية باللغة الفرنسية. ففي تحليل أندريا فلوريس لرواية "واسع هو المعتقل" تحاول آسيا جبار الكشف عن زيف الكتابة الفرنسية لتاريخ بلادها، وإعادة كتابتها لهذا التاريخ من خلال خيالها الروائي. لكنها في بحثها عن الأصول البربرية للهوية الجزائرية، تكتب كتابة فرنسية. وهذا الوضع المتوتر تعبر عنه آسيا جبار حين تصف كتابتها بالفرنسية بأنها أشبه بالارتداد أو الخيانة التي تردها إلى معسكر الأعداء. وبما أنها أجبرت على تعلم الفرنسية وعلى ألا تعرف غيرها للتعبير عن نفسها وعن هويتها، فستظل أسيرة الشعور بالفقد والقيد. وربما كان هذا هو دافعها الى استخدام لغة الكاميرا، لغة السينما، للتعبير عن حنينها إلى وجه الأم وإلى اللغة الأولى التي لم تعد سوى أثر TRACE بالمعنى الدريدي نسبة إلى دريدا حين يقول: "ليس لدي سوى لغة واحدة، لكنها ليست لغتي".
هذا الشعور الدرامي المتوتر تعبر عنه ثريا أنطونيوس، فترتد بنا إلى أصول المشكلة، أي إلى عهود الاستعمار التي لم يكن من الضروري فيها أن يتعلم المرء اللغة العربية: لغة العامة والخادمات. كأن تعلم اللغة الإنكليزية وحدها يشبع غرور الطبقات العليا ويؤكد وهمها بالسيطرة على الثقافة والعلم. فنشأ جيل عاجز عن معرفة نفسه وعن قراءة تاريخه، جيل مغترب عن ثقافته ومعزول عنها. ويحكم المسكوت عنه في لغة المعلمين الأجانب كان لدى هذا الجيل شعور بأنه هو وأجداده لا وجود لهم على خريطة العالم وأن لغتهم العربية ليست إلا لغة ميتة تقف عند حدود العصر الجاهلي أو الإسلامي الغابر. على هذا النحو كان علينا إما أن نعيش مغتربين في مجتمعاتنا وإما أن نهاجر إلى البلاد التي تشبَّعنا بلغتها. لم يكن البغي الاستعماري والعجز العربي هما سبب نكسة بلادنا وإنما جهلنا بالغرب كان السبب، في نظر بعض آبائنا في فلسطين، كانت معرفة اللغة الإنكليزية ونطقها بطلاقة مناظرة لطلاقة المندوب الصهيوني لإسرائيل في الأمم المتحدة هي طريقنا للتحرر من الاحتلال في رأيهم. تؤكد ثريا انطونيوس بعد هذه الشهادة، أننا توهمنا أن الغربيين ليسوا إلا أناساً طيبين، وأن موقفهم منا ليس إلا سوء فهم ناتجاً من عدم مقدرتنا على التعبير عن أنفسنا بطلاقة، في حين أن الأمر لم يكن كذلك، وكان الأحرى بنا تأدية الخدمة العسكرية عن الاستغراق في هذا الوهم، وبما أني لا استطيع الآن الكتابة بالعربية، فعلى الأقل أستطيع الكتابة كعربية، وربما يكون هذا هو سبيلي للتحرر وللخروج من المنفى.
ولكن، هناك كتاب آخرون ليسوا مضطرين للكتابة بلغة أجنبية، وإنما يلوذون بها كوسيلة للفرار من قمع الحريات في بلادهم، الحرية السياسية والإبداعية على السواء. بل يعانون ثقل اللغة العربية بكل محمولاتها من الموروثات التقليدية التي تعوق التعبير الحر عن النفس كما يرى عبد الوهاب مؤدب في مقاله عن ابن عربي ودانتي. وآخرون - مثل الكاتب الموريتاني موسى ولد إنبو - يكتبون العمل الإبداعي نفسه باللغتين الأجنبية والعربية، مع تكييف كل نسخة للثقافة المقبولة لدى كل من القارئ العربي والأجنبي. لكن هذا الاضطرار أو هذه الازدواجية يقابله عشق للغة الواقع الجديد، فإيتل عدنان التي عانت ما عانته ثريا في العهد الاستعماري من اضطرار الفخر باللغة الأجنبية والشعور بارتباط اللغة العربية بالتخلف والعار وبالفقراء، انتهى بها الأمر إلى التعايش مع واقع هجرتها إلى الولايات المتحدة. فهي في النهاية لا تريد أن تعيش ما بقي من حياتها لإدانة الاستعمار أو للنظر إلى الخلف، فهي تعشق اللغة الأجنبية التي تكتب بها وتستمتع - بكل ما أوتيت من قوة الحياة - بالحاضر، وبالطبيعة وبمعنى الإنسان كل إنسان في شعرها الإنكليزي، فلا يكتويها هذا التوتر الجارح الذي يحترق به قلب كل من آسيا جبار وثريا أنطونيوس في اضطرارهما للغة العدو للتعرف أو للتعبير عن ذاتيهما، بل تمضي قدماً وتغزو القمر.
هذا الاختيار للغة الجديدة نجده عند انطون شماس العربي الأصل الإسرائيلي الجنسية الذي - بخلاف إيتل عدنان - يتقن العربية، لكنه يكتب روايته "عربسك" بالعبرية. لكن هذا الاختيار - الذي يبرره محمد صديق في مقاله عن الكاتب - بأنه تعبير عن "هذه الرغبة في إحراج الآخر الإسرائيلي في قدس أقداسه القومية - اللغة العبرية"، لا يتسق البتة مع شهادة الكاتب بافتتانه بهذه اللغة التي كتبت فيها أجمل النصوص السردية على مر العصور". فالكتابة بلغة المستعمر - عنده - هي باب من أبواب العشق لا التآمر على هذا المستعمر، ولا تستطيع اللغة العبرية لغة من خططوا لتشريد الفلسطينيين وقتلهم، أن تنال من استمتاعه بالنصوص العبرية والكتابة بها". ولا أدري في الحقيقة أي عجب في النصوص السردية العبرية غير عجب عشق الدم والانتقام والكراهية للآخر! ومع ذلك رفض نقاد إسرائيل نفسها هذا الأدب ذا الأصول المسيحية العربية.
أما جورج شحادة الكاتب اللبناني الأصل صاحب "الانتاج الرحال دوماً" وفق منظور وليد خشاب، فهمش في أحايين كثيرة واستبعد من الانتاج القومي الفرنسي في الأدب، وذلك بالنظر إلى أصوله العربية من جهة، وإلى عدم انخراطه في أي من الخطاب القومي العروبي أو الخطاب القومي الفرنسي على السواء. على العكس من ذلك، نجد أن مهدي شرف المخرج السينمائي، حين أراد أن يناقش قضايا وطنه القومية في فيلمه الفرنسي الشهير الشاي في حريم أرخميدس 1985، استطاع أن يحوز نجاحاً فائقاً وشهرة واسعة. وحين بدأ يعبر في أفلامه عن مشكلات المجتمع الفرنسي بروح فرنسية تماماً، انطفأت جذوته، وكان ذلك سبباً لتهميشه في المجتمع الفرنسي وطن منفاه، كما يرى عبده قاسم.
الكتّاب المغاربة من الجيل الثاني المقيمين في هولندا أبدوا القلق من تهميش الثقافة الغربية لهم، وعدم إدراج اسمائهم ضمن قائمة الانتاج الأدبي القومي الهولندي، فهم لم يتمتعوا بتشجيع وزير الثقافة إلا في إطار التعددية الثقافية الهولندية التي تفسح مجالاً لما سمي "بأدب المهاجرين والملونين". هذا الأدب الذي يحتفي به بقدر ما يزيد من عافية الأدب الألماني الأصيل، كما نرى في مقال كارلوس ويلمسون. ليكتب كل بلغته إذاً، ولتكن الترجمة هي المجال الآمن للتواصل بين الشعوب دونما شعور بالمرارة أو الزهو أو التوتر الذي يشوب الكتابة بلغة المستعمر. لكن ريشار جاكمون يلاحظ أن بعض الأعمال الأدبية العربية التي تترجم إلى لغات أجنبية تخضع هي الأخرى لحسابات غريبة تعلي من شأن التناقض بين الغرب المتقدم و"الآخر" المتخلف، إذ لا ينجح من هذه الأعمال - في الغالب - إلا تلك التي تتوافق مع القيم الغربية. وهي الأعمال التي تنشد الحرية وتناهض واقع الكبت الجنسي أو القمع الاجتماعي في البلدان العربية، وهذا ما ينتقده ريشار جاكمون بشدة في مقاله عن "الترجمة في الحقل الأدبي المصري". وربما تكون مشكلة الكتابة بلغة أجنبية في بعض البلدان مثل الجزائر التي فُرْنِسَت تماماً، أشد مما هي عليه بالنسبة الى بلاد مثل مصر وتونس استطاعت الموازنة بين تعليم اللغة العربية والأجنبية كما ترى آن أرميتاج في عرضها للفرنكوفونية في المغرب. فمثل هذه الموازنة الدقيقة تضيع على اللغة الأجنبية فرصة الهيمنة على اللغة العربية وإزاحتها. وتتيح للغة العربية مجال الإفادة من اللغة الغازية كمعرفة، بكل ما تقتضيه المعرفة من استيعاب ونقد وتجاوز.
ولا شك أن مبدعي الأدب في هجرتهم إلى اللغات الأجنبية، اضطراراً أو اختياراً، بنية المقاومة للهيمنة الاستعمارية والسفارة لقضايا أوطانهم، أو بنية التعايش الراضي بهوياتهم الجديدة، ليسوا ضحايا الواقع الاستعماري - الذي أحياهم أغراباًَ في أوطانهم ثم أغراباً على أرضه - فحسب، وإنما ضحايا واقع وطنهم العربي أيضاً في حقبة ما بعد الاستعمار. إذ شكل هذا الوطن نقطة طرد مركزي لكتّاب يعانون أزمة الكتابة والنشر والوصول إلى الجمهور وعجز الاسهام الفاعل في مصير أوطانهم. على هذا النحو عاش هؤلاء الكتاب - على رغم رقي آدابهم - أزمة وجود وكتابة وتحقق في مجالي النقد العربي والغربي على السواء، وتاقوا لمناهزة قرائهم العرب والغربيين معاً، وهذا يقتضي إعادة الاعتبار للغة وللأدب والأدباء على المستوى القومي، وإعادة تعريف عادل لمعنى عالمية الأدب على المستوى العالمي، وهذا شأن يقتضي منا كفاحاً آخر.
* أستاذة في كلية الآداب في عين شمس - القاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.