في بداية اقامتي في اليابان وعندما سألت للمرة الأولى عن كيفية قول "حظاً سعيداً" باللغة اليابانية، كان جواب مدرّستي: "غامباثه"، وكان ذلك جواباً شافياً لي في ذلك الوقت. ولكن في ما بعد وعندما وصلت الى مرحلة تحليل الكلمات اليابانية الى ال"أشكال" أو الحروف التصويرية التي تشكلها، فوجئت بأن "غامباته" تتألف من قسمين يعني أحدهما "تشنج" والآخر "جبهة"، فاليابانيون عندما يريدون أن يقولوا "حظاً سعيداً" لأحد ما فإنهم في الواقع يقولون حرفياً "شنّج جبهتك"! والحق ان طريقة القول تلك تعكس الى حد كبير طريقة التفكير اليابانية إزاء موضوع ال"أداء" في الحياة في شكل عام، فلا مجال للاعتماد على الحظ أو التذرع بفقدانه، ولا بد من بذل أقصى الجهود للوصول الى الهدف المبتغى. والكفاح بحد ذاته قيمة اجتماعية مطلوبة وإن كانت مفصولة عن النجاح. الشباب الياباني اليوم لا يزال يعيش هذا المفهوم على رغم انه نشأ في عهد هو الأكثر رخاء في تاريخ اليابان على الاطلاق. والسبب في بطء التغيير الطارئ على التفكير الشبابي هو تجذر هذا المفهوم في الممارسات الاجتماعية والتربوية اليابانية وفي كل خطوة عملية يخطوها الياباني في طريق نشأته. فالمراحل الدراسية الرئيسية هنا تبدأ كلها بامتحانات أولها تلك التي يخضع لها صغار الأطفال قبل دخول الصفوف التحضيرية في المدارس الابتدائية. ونحن هنا لا نتحدث عن امتحانات شكلية أو لهدف طبي، بل هي امتحانات وفقاً لنتائجها يتوزع الأطفال على المدارس ال"ملائمة" لقدراتهم الذهنية، والتي تختلف كمية المعلومات الملقنة فيها للتلاميذ ليس في شكل جذري ولكن الى حد يؤثر بالتأكيد على أداء التلميذ في امتحانات الدخول الى المرحلة الدراسية التالية. وتمتد السلسلة عبر السنين ويتطور التنافس معها ليصل حداً فظيعاً لا يعرف الرحمة في امتحانات الدخول الى الجامعات اليابانية الرفيعة المستوى، ويشكل ذلك ظاهرة يسميها اليابانيون "جوكن سينسو" أي "حرب الامتحانات". وحرب الامتحانات لها ضحاياها المادية والبشرية، بدءاً من المبالغ الطائلة التي يدفعها الأهالي كأقساط للمدارس التحضيرية المتخصصة بتأهيل المتقدمين للامتحانات الجامعية، ومروراً بالسنوات التي يهدرها من يقرر عدم الاستسلام للفشل وخوض غمار المعركة مرة أو مرات اخرى ولفترة قد تمتد لسنوات عدة، ووصولاً الى حالات الانتحار المأسوية التي يقدم عليها بعض من أدرك ان "لا أمل". أما من ينعم بالدخول الى احدى تلك الجامعات والتخرج منها بنجاح فقد فتحت أمامه أبواب مستقبل مشرق سيأتي على شكل عروض وظيفية ممتازة من القطاعين الخاص والعام. ففي شهر شباط فبراير من كل عام، أي قبل انتهاء العام الدراسي بأسابيع قليلة، يأتي موسم المقابلات التي تجريها غالبية الشركات اليابانية لاختيار موظفيها الجدد. وهنا تأتي لحظة قطف ثمار الانتماء الى احدى المؤسسات التربوية المرموقة كجامعة طوكيو أو "واسيدا" أو "كيو". هيساكي تاناكا البالغ من العمر عشرين عاماً والذي يدرس في احدى الجامعات ذات السمعة المتواضعة في مدينة أوساكا عبّر ل"الحياة" عن الوضع قائلاً: "إن آمالي في دخول احدى الشركات الكبرى بعد التخرج من الجامعة شبه معدومة. فحتى لو افترضنا انني سلحت نفسي بإمكانات مهنية مغرية كقدرات لغوية متميزة ومهارات عالية في مجال الحاسوب، فإن الوظائف الجيدة ستذهب لخريجي الجامعات المشهورة وإن لم يتملكوا مهارات مماثلة". ولا شك في أن نخبوية من هذا النوع موجودة في بلاد كثيرة، إلا أنها في اليابان تصل الى ما يقارب الهوس الذي يحول أسماء الجامعات الى ما يشبه العلامات التجارية المطبوعة على جبهات خريجيها. أحد الأمثلة موجودة في نادي "أوكوبو" الذي يرتاده رجال الأعمال في حي غينزا الراقي في طوكيو وحيث يعمل عدد من طلاب الجامعات بدوام جزئي. وعلى رغم أن الأعمال التي يقوم بها الطلاب في النادي بسيطة لا تتجاوز تقديم الأطعمة وما الى ذلك، فإن مالكة النادي السيدة يوكو اوكوبو تقول: "منذ سنوات وأنا أحرص على أن يكون جميع الشباب العاملين هنا من طلاب جامعة كيو. لا أستطيع أن أشرح لماذا، ان لهم جواً خاصاً وأنا أثق بهم". ويخطئ من يظن بأن من رضي بمستقبل غير نخبوي من الشباب الياباني فقد حظي بتجنب ضغوط المنافسة. فحتى الراغبين في ملء شواغر أكثر الأعمال تواضعاً بما في ذلك العمل في تنظيف مكاتب ومراحيض الشركات الكبرى يتوجب عليهم الذهاب الى مقابلات جماعية يشترط فيها ارتداء اللباس الرسمي ويساق المتنافسين الى قطاعات يخضعون فيها لامتحانات كتابية يتلوها مقابلات فردية. وبعدها يترقب الجميع قدوم الموعد الذي تحدده الشركة لإعلان نتائج المسابقة. ونتيجة لهذه الأجواء فإن قدرة الياباني على الإحساس بأنه في خانة الناجحين قد تبلورت حول شرطين متداخلين هما القدرة على "الاستمرار" و"الانتماء"، وكل من هذين الشرطين بدوره يوضح جانباً من جوانب مفهوم النجاح على الطراز الياباني. فعلى صعيد الشرط الأول يرى اليابانيون النجاح بصفته أمراً بحاجة لتجديد دائم، وذلك ضمن اطار نظام طبقي من نوع خاص جداً في هذا البلد. فاليابان الحديثة تميزت بغياب الفروق الطبقية الاقتصادية الواسعة وبشمولية الطبقة الوسطى، إلا أن هناك طبقية بديلة وهي الطبقية الذهنية التي يبدأ تشكلها مع أولى مراحل التمييز التربوي وتستمر في التراتبية الصارمة في أماكن العمل. ويبدو ذلك جلياً في شكل خاص من خلال ما يتعرض له الشباب الحديثي العهد بالعمل. فمن المعهود ان يتعرض هؤلاء لأنواع عدة من الاهانات الصغيرة التي تجعلهم دائماً على أهبة الاستعداد وفي صراع دائم مع الزمن والامكانات وذلك للحصول على رضى المشرفين عليهم. وأحد المشاهد غير المستغربة في أي شركة يابانية عند قيام احد الموظفين الجدد بخطأ ما هو تلقي ال"مذنب" صفعة خفيفة على مؤخرة الرأس مرفقة بكلمة "أحمق!". وتقبُّل الموظف الشاب لتلك المعاملة وسعيه الحثيث لرفع مستوى أدائه وإبقاء عدد تلك الاهانات عند أدنى حد ممكن هو الحلقة الواصلة بين مفهوم الدأب المستمر وبين الشرط الثاني أي التعبير عن الانتماء الى المجتمع الوظيفي. فالصفعة على الرأس لا تهدف الى مجرد الاهانة، بل هي ذات طابع أبوي وتكرس انتماء الشاب الى الشركة/ الجماعة، هذا الانتماء الذي ينظر اليه اعضاؤها على أنه قائم الى "النهاية" بناء على مبدأ نظام التوظيف مدى الحياة الذي يعتبره اليابانيون أحد أهم أسس نجاح تجربتهم الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية. في أكثر الثقافات غير اليابانية فإن من يعاني من النواحي السلبية لل"عقد الاجتماعي" المحلي هم عادة أهل الطبقات الدنيا، أو فلنقل ال"فاشلين" ضمن النظام الاجتماعي. أما في اليابان فيبدو أن الوضع معكوس. فضمن نظام التوظيف مدى الحياة المهم هو عملية بذل الجهد بحد ذاتها وليس النتائج التي يمكن تقويمها موضوعياً، فالترقيات الوظيفية تجرى بناء على الأقيمية وليس على التفوق ومن يلزم بالعمل يضمن نوعاً من التكافل الاجتماعي وإن كانت قدراته الشخصية محدودة. وفي مقابل ذلك فإن تخلي الموظف عن الشركة يعتبر خيانة لا تغتفر وفشل في التأقلم مع النظام الاجتماعي. أما من يجلب على نفسه "مصيبة" التفوق فقد حلت عليه لعنة التوقعات المستمرة حوله من دون كلل بوجوب اعطاء نتائج ملموسة. إذاً فالاستمرارية واجب على الجميع ولكن نوعية الاستمرار المطلوب تتحدد بما يتماشى مع الوضعية التي آل اليها الفرد في النظام الطبقي - الذهني الآنف الذكر. وما يحدث اليوم في عالم مشاهير الناجحين في اليابان كفيل بتأكيد ذلك. فعلى سبيل المثال هزت الدوائر العلمية اليابانية العام الماضي فضيحة كان في مركزها شينيتشي فوجيمورا، وهو أشهر منقب أثري في اليابان وقد لقب ب"يد الإله" نظراً لكثرة اكتشافاته المهمة التي قدمت مساهمة أساسية في وضع خريطة تاريخ الجزر اليابانية في العصر الباليوليتيكي. فقد اعترف فوجيمورا بأن بعضاً من أهم "مكتشفاته" الأثرية هي في الحقيقة أشياء كان قد دفنها بنفسه في المواقع التي أمر بالتنقيب فيها في ما بعد. وما يهمنا هنا من تلك الفضيحة هو فهم الدافع وراء سلوك فوجيمورا، فعندما صرح في ذلك الوقت بأن ذلك كان بسبب الضغوط من الذين حوله فهم الكثيرون وخصوصاً الصحافيين الأجانب ذلك في سياق التنافس بين الزملاء على مصادر التمويل المادي لأبحاثهم. إلا أن جونيتشي ناغازاكي الذي عمل مع فوجيمورا في أحد المواقع الوهمية فنّد ذلك التفسير وأكد حصول الأخير على الموازنة التي طلبها ذلك العام من دون نقصان. الأمر إذاً يتعلق بالضغوط النفسية التي تمارسها الجماعة على شخص بمستوى فوجيمورا، وذلك بربط الرضى الجماعي على فرد ما بقدرة ذلك الفرد على المتابعة بالمستوى نفسه، وتصوير أي انجاز له على انه خطوة لا بد منها على طريق طويل. أما في عالم الفن فكثيراً ما نسمع عن حالات انتحار أقدم عليها من هم في قمة الشهرة. وفي الغرب فإن التعليل الشائع هو ان "كل القمم ضيقة وباردة" وأن المنتحر قد وصل الى مرحلة إشباع من كل شيء. أما في اليابان فكثيراً ما يرد التعبير الياباني الشائع بأن المنتحر "لم يعد يبيع" بما معناه ان الفنان قد وصل ابداعياً الى عنق زجاجة لم يستطع الخروج منه، وهذه كانت أقوى الشائعات التي أحاطت بانتحار نجم الروك الياباني الشاب "هيده" العام الماضي. ونشاطات مشاهير الفن في اليابان مرنة الى حد مفاجئ فالواحد منهم يتنقل بين التمثيل والاخراج والغناء والظهور في الاعلانات وتقديم البرامج التلفزيونية الفكاهية ستاند - أب كوميدي. فكل شيء مسموح والمهم هو القدوم بجديد دائماً. أما الخروج من دائرة الضوء فلا يعني الاعتزال كما في بلادنا، بل هو وصم تلقائي بالفشل. وختاماً فلعله من الواجب ملاحظة التغييرات المقبلة وإن ببطء في الكثير من النقاط المعالجة هنا، وذلك تفادياً لحشر صورة المجتمع الياباني في قالب نمطي ثابت. وأكثر التغييرات جدارة بالملاحظة هو بدء الشركات الموظفة أخيراً بإيلاء أهمية أكبر للامكانات الفردية للمتقدمين وصفاتهم الشخصية، وتنامي عدد الشباب الباحثين دائماً عن فرص أفضل بغض النظر عن الشركة "الأم". ولكن يبقى قريباً من الصواب ان نقول بأن النجاح في مفهومه الياباني التقليدي يمشي على ساقين الأولى تحتم التطور الدائم والثانية تملي وجوب ممارسة ذلك في شكل يتناسق مع تطلعات الجماعة.