الحضارات لا تنشأ من غير شرعية توجه سلوك أفرادها فيقتنعون بأن ما يقومون به من عمل في سبيل حضارتهم هو عمل مشروع لا يلحقهم بالقيام به حرج أو معرة إثم. وهذه قاعدة في نشأة الحضارات والمجتمعات جميعاً، فأصحابها لا يبنونها على ما يرونه إثماً، ولا ينتجون بمجموعهم ما يرون أنه يتناقض مع الفضيلة. ذلك أن الإنسان لا ينتج طويلاً وهو يعاني صراعاً مع ضميره الخلقي. والشرعية تتناقض مع القلق. والقلق في الحضارات يمكن تصنيفه إلى نوعين: نوع باعث نحو الإنتاج ومحرك للحضارة، وآخر معيق لها. وهذا النوع هو ما أعنيه بقولي إن الشرعية في الحضارة تتناقض مع القلق. والنوع الأول هو قلق الأداء، وهو ما يشعر به الفرد من قلق باعثه الخوف من عدم الوفاء بالوظيفة المكلف بها أو عدم بلوغ الواجب الذي آمن به. والفرد يرى هنا أن ما كلف به فضيلة، بل يرى أن أهداف مجتمعه وحضارته فضائل يجب عليه القيام بها، فهو يتحرك بدافع الواجب والفضيلة. وهذا القلق إيجابي يسهم في بناء المجتمع والحضارة، بل إن الأفراد يستمتعون به، والمؤسسات المجتمعية والحضارية تسعى إلى تنشيطه في نفوس الأفراد من خلال التذكير بشرعية الفعل والوفاء بالواجب. وهو شرط لنمو الحضارة واستمرارها. والنوع الثاني من القلق هو قلق الشرعية، وهو القلق من أداء الوظيفة، فيرى الفرد أن وظيفته تتناقض مع الواجب والفضيلة، وأن الوظيفة التي يؤديها تهدد هويته. وقلقه هنا معيق لفعله، مانع له من الإبداع بل مانع له من أداء الوظيفة بصورة سليمة. وهو يرى أن سبيله في التخلص من القلق هو ترك الوظيفة إن استطاع أو عدم أدائها على الوجه المطلوب. أي أن سبيله في تخفيف قلقه هو نقض المجتمع وهدم الحضارة. بينما في النوع الأول يرى سبيله في تخفيف قلقه هو بناء الحضارة وتنمية المجتمع. ويظهر لي أن فهم كل حضارة وإدراك طبيعة أصحابها وتفسير الأطوار التي مرت بها وتعليل نهوضها وانحطاطها هو في إدراك مصدر شرعية الفعل في نفوس أصحابها. وفي الحضارة الإسلامية مصدر الشرعية الكتاب والسنة أو ثوابت الشريعة، والمعبر عن ذلك هو الفقيه مهما كانت صورته التي يظهر بها للناس، فقد يظهر في صورة العالم او يظهر في صورة العابد وفي صورة الصوفي أو الواعظ، ولكن وظيفته محددة هي معايرة سلوك الأفراد ومسيرة المجتمع أو الحضارة كي تتفق مع مصدر الشرعية. وتخلف الفقيه عن القيام بوظيفته أو غيابه عن المسرح ربما نشأ بسببه النوع الثاني من القلق وهو قلق الشرعية الناقض للحضارة. وليس كل فقيه يستطيع القيام بهذه الوظيفة، بل لا يقوم بها إلا أولئك الذين يمثلون الشرعية النمطية التي استقرت في أذهان أفراد المجتمع. ومن أولى صفاته أن يكون في منحه لشرعية الفعل ومعايرة السلوك الاجتماعي مستقلاً في إرادته عن أي مؤثرات أخرى تخل بالشرعية. فاستقلال الإرادة شرط لازم لقبول الفقيه اجتماعياً، والإكراه أو ارتهان الإرادة لجهة أخرى غير مصدر الشرعية يتنافى مع ذلك. ومصدر الشرعية يختلف من حضارة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، ولكن تكاد تجمع الحضارات والمجتمعات القديمة أن مصدر الشرعية مصدر مقدس. وأقول "تكاد" احترازاً، وإلا فلا أعلم حضارة أو مجتمعاً في القديم لم يضْفِ القداسة على مصدر الشرعية. وكما تتعدد مصادر الشرعية بين الحضارات يتعدد كذلك المعبرون عنها، ففي بعض الحضارات ربما كان رجل الدين وفي المجتمعات الوثنية البدائية ربما كان الساحر أو الكاهن. وعند كثير من الحضارات والمجتمعات - ماعدا الإسلام - تسري قداسة مصدر الشرعية إلى الممثل عنها، فيصبح أولئك من القديسين وحينئذ لا فرق بين رفض تعليماتهم ورفض الشرعية نفسها. وفي الحضارة الإسلامية الفقيه هو المعبر عن الشرعية كما سبق، والفقيه لا بد له من فقه. وفي ما يأتي تحليل لدور الفقه والفقيه في هذه الحضارة ومقارنة ذلك بالفلسفة ودور الفيلسوف في الحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة المعاصرة. وهذه المقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لها سببان: أولهما أن الحضارة المسيطرة الآن التي تزاحم الحضارة الإسلامية وتحاول إقصاءها هي الحضارة الغربية وريثة الحضارة اليونانية، وصراعنا قائم معها. وثانيهما: أن الحضارة الغربية تشكل نموذجاً يقاس عليه عند كثيرين من أبناء الحضارة الإسلامية ممن استحوذ عليهم ما ذكره ابن خلدون رحمه الله في مقدمته من تقليد المغلوب للغالب. كلمة فقه في الدلالة اللغوية تعني فهم الكلام وإدراك الشيء والعلم به معجم مقاييس اللغة والمعجم الوسيط. والفعل "فلسف" philosophize من كلمة فلسفة philosophy يعني في اللغة الإنجليزية التعليل العقلي to reason. ومن المتحقق في الدراسات النفسية أن الفهم والإدراك والعلم والتعليل عمليات عقلية. والفقه كعلم وظيفته تحديد ما ينبغي من الفعل وما لا ينبغي منه في الحضارة والمجتمع للفرد والمجموع. والفلسفة في المجتمع اليوناني قديماً مهمتها أيضاً تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي من الأفعال للفرد والمجموع. أما الفقه فهو مصدر للفعل فَقِه والفلسفة هي مصدر للفعل "فلسف" philosophize فكلاهما يعني في نظري "فعل العقل"، ولكنه فعل من نوع خاص وهو "التوفيق بين الثابت والمتغير، وذلك بإنزال الثابت على المتغير وإعطائه حكماً". والمتغير في كل منهما هو مستجدات الحياة، أما الثابت في الفلسفة فهو مسلّمات العقل المكتسبة، والثابت في الفقه هو نصوص الشرع ومسلّماته. ومن هنا يمكن القول ان الفقه عند المسلمين هو الوجه الآخر المقابل للفلسفة عند اليونان وورثة حضارتهم من الغربيين. ولا شك أن هناك فروقاً في محتوى الفلسفة ومحتوى الفقه ينبغي أخذها في الاعتبار وسببها اختلاف مصدر الشرعية فيهما، ولكن هناك شبهاً كبيراً بين وظيفة الفقيه ووظيفة الفيلسوف. فكلاهما يعبر عن مصدر الشرعية ويفتي بشرعية فعل الفرد ويعاير سلوك المجتمع لينضبط مع الحضارة المهيمنة أو مع مصدر الشرعية. وفي تعريف الثابت الفلسفي فإنني ألح على تعريفه بالمكتسب، ذلك أن الثابت الفطري لا يحقق بحثه التمايز الفلسفي، والوقوف عنده يعجز عن تفسير التغيرات الفلسفية. ولو أن الفلسفة وقفت على الثابت الفطري فقط لامتنع عنها التعدد، ولأصابها الضمور والعجز عن التعامل مع المتغير. والثابت المكتسب منه الصواب ومنه الخطأ، فهناك ثوابت في الفلسفة قررها الفلاسفة بناء على استقراء ناقص أو نظر عقلي مجرد لا يقوم على دليل أو خرافة سبقت إلى ذهن فئة من الناس فاستقرت ولم يظهر لهم ما ينفيها. وكما اصطلح الفلاسفة على أبواب معينة خصوها بأنها مواضيع فلسفية وعلى قضايا معينة بأنها قضايا فلسفية اصطلح الفقهاء على أبواب وقضايا عدوها أبواباً وقضايا فقهية. ولكن هذا الاصطلاح ليس لازماً لأي فرد من الفريقين، فالفيلسوف يمكن أن يتفلسف خارج أبواب الفلسفة المعتادة بشرط أن يبرهن على وجود علاقة بين مسلّمة عقلية مكتسبة ومتغير، والفقيه يمكن أن يمارس الفقه خارج أبواب الفقه وقضاياه المعتادة بشرط أن يبرهن على وجود علاقة بين ثابت شرعي ومتغير. والفلسفة كانت تشمل قضايا نظرية ومنها قضايا الميتافيزيقا وقضايا عملية ومنها المنطق والأخلاق والطبيعة والرياضيات وتدبير المدينة وعلم الجمال المعجم الفلسفي. وكل باب من هذه الأبواب يشمل عدداً من الأبواب الفرعية، وكثير منها استقل عن الفلسفة في علم خاص به، له موضوعه ومنهجه في الوصول إلى قضاياه وبحثها. ومن هنا قال مؤرخو الفكر في الغرب إن "الفلسفة هي أم العلوم". والعلوم التي استقلت عن الفلسفة هي التي كانت تعاير السلوك الحضاري وتوجهه، والمتخصصون فيها أو ممثلوها في المجتمع هم صناع الحضارة. ولأن الفلسفة كما قلنا هي فعل العقل، وكانت من خلال تلك المسلّمات المكتسبة تملك منهجاً لتوجيه العقل ولم يكن هناك من منهج آخر يزاحمها كان لها سيطرتها على الدين والسياسة في الحضارة اليونانية. فرجل الدين كان أيضاً فيلسوفاً ويفسر النص الديني وفقاً للفهم الفلسفي أو للمسلّمات العقلية المكتسبة. والشرعية التي يعبّر عنها هي مزيج من قضايا دينية كنسية ومسلّمات العقل المكتسبة في الفلسفة. ومن ناحية تاريخية كانت الكنيسة مرتبطة بفلسفة أفلاطون حتى القرن الثاني عشر الميلادي حين زاحمتها فلسفة أرسطو حين ترجمت كتبه وشروحها من اللغة العربية. والتطور الحضاري في الغرب يمكن أن يفهم من خلال أمرين: الأول: الآليات، أي آليات الفيلسوف في العمل الفلسفي، وأعني به هنا منهجه في الوصول إلى الحقيقة وبحثها. وهذه الآليات كانت جامدة على مدى ألفي سنة لأن عقل الفيلسوف استسلم لتلك المسلّمات العقلية المكتسبة ومنحها صفة القطعية ولم يفكر خارجها. ويمثل تلك المسلّمات المنطق الأرسطي الصوري وكثير من قضايا الفيزيقا والميتافيزيقا الموروثة عن العقل اليوناني. ولم يحدث تطور حقيقي إلا حين تمرد العقل الفلسفي على تلك المسلّمات في القرن الخامس عشر فطور الآليات وتجاوز معضلة التأمل إلى مهمة التجريب واستكشاف المجهول. الثاني: التطبيقات، وهي قدرة الفيلسوف المبدعة في تطبيق المفاهيم الفلسفية والمسلّمات العقلية المكتسبة على مستجدات الحياة وابتكاره مفاهيم جديدة مرتبطة بالواقع المعاش. وهذا يمكن أن يفسر لنا حركة الحضارة في عصر ما قبل التجريب حين كانت أدوات الفيلسوف راكدة. والجمع بين التطبيقات والآليات في فهم التطور الحضاري الغربي المعاصر سوف يكشف لنا كثيراً من السنن التي كانت تحكم ذلك التطور. وفي عملية التحليل لا ينبغي أن يغفل المحلل عما يمكن أن يضيفه اعتبار تطور الآليات من تطور في مواضيع البحث، ذلك أن تطور الآليات مد عقل الفيلسوف وعينه إلى قضايا من مستجدات الحياة لم تكن في متناوله في فترة ركود أدواته. كما لا ينبغي أن يغفل عن التغير الحادث في اسم الفيلسوف، فهو في السابق "فيلسوف" وكفى، أما الآن فله أسماء متعددة، فهو فيزيائي أو طبيب أو عالم تربية أو عالم نفس أو قانوني أو مهندس أو...الخ. ولهذا تجد أن أعلى الشهادات التي تمنح لهؤلاء الفلاسفة الجدد في الجامعات القائمة في الغرب في أي تخصص تسمى Ph.D أو Philosophy Degree وترجمتها هي "درجة الفلسفة"، ويضاف إليها بعد ذلك التخصص سواء كان هندسة أو كيمياء أو علم نفس أو اجتماعاً أو سياسة أو رياضيات... الخ، فيقال مثلاً "درجة الفلسفة في الفيزياء". ترى ماذا استفادت الحضارة الغربية من هذا التطور في الأدوات والآليات، وما أثر هذا على الشرعية التي تستند إليها الحضارة الغربية؟ لعل الإجابة على هذين السؤالين إجابة تحليلية تكشف لنا شيئاً من تطور الحضارة الغربية وجوانب القوة والضعف فيها وتوجهاتها المستقبلية. وبإيجاز أقول إن الشرعية في الحضارة اليونانية قبل التحول إلى المسيحية كانت مزيجاً من قضايا الدين الوثني ومسلّمات العقل المكتسبة ويعبر عنها الفلاسفة ورجال الدين. وكان يجتمع في الشخص الواحد الصفتان فهو رجل دين وفيلسوف. ولما انتشرت المسيحية في الحضارة الرومانية وريثة الحضارة اليونانية أصبحت الشرعية مزيجاً من الديانة المسيحية ومسلّمات العقل المكتسبة. ولم تكن قضايا الدين المسيحي دينية خالصة بل كانت خليطاً من الوثنية والموروثات المسيحية. ويعبّر عن طبيعة المسيحية عبدالجبار الهمداني: "إن الروم ما تنصّروا ولكن المسيحية تروّمت" أي صبغت بالصبغة الوثنية. وهذا هو الذي جعل الكنيسة تقبل فلسفة أفلاطون وتتبناها، وتفسر من خلالها نسق القيم العقدية المسيحية. ولعل كيفية تكون نسق قيم الشرعية في الحضارة اليونانية والرومانية من بعدها لا يعنينا كثيراً الآن ولكن الذي يعنينا هو علاقة ذلك بآليات العقل وارتباطها بالحضارة وتطورها. بسبب تحريف الديانة المسيحية وعدم تطبيقها في قضايا المجتمع قبل تحريفها لم تنشأ آليات مسيحية مستقلة لتنزيل ثوابت الشرعية على مستجدات الحياة. وهذا الفراغ الفكري ملأه رجال الدين بآليات الفلسفة فتبنوا فلسفة أفلاطون، وكانت الآليات التي استوردوها من الفلسفة تتمثل في الغنوصية أو فلسفة الإشراق فيعتقد رجل الدين أنه يتلقى من الله عز وجل مباشرة. والسبيل إلى ذلك هو التأمل والوحدة وإضعاف مادية الجسد كي تنطلق أشواق الروح فتتصل بالملأ الأعلى. وكان رجل الدين أو الفيلسوف يقرر شرعية الفعل الاجتماعي للفرد والمجموع من خلال استناده إلى الإلهام أو الغنوص ومسلّمات العقل المكتسبة. والغنوص هو الذي تعدت من خلاله القداسة من مصدر الشرعية إلى ممثل الشرعية أي الفيلسوف أو رجل الدين فأصبح مقدساً أيضاً. وكانت آليات العقل المتمثلة في التأمل والغنوص قادرة على إنتاج قيم أخلاقية ومنحها من ثم القداسة. وكانت هذه القيم قادرة إلى حد لا بأس به في ضبط سير الحضارة، ولكنها عاجزة في التعامل مع مستجدات الحياة في جانبها المادي. وهذا العجز استمر ألفي سنة كما سبق، ولهذا يرى بعض مؤرخي الفلسفة أن الفلسفة توقفت عن النمو بعد أرسطو. ولكن الجانب الإيجابي هو استمرار الارتباط بين القداسة ومصدر الشرعية وإضفاء القداسة على النظام الأخلاقي. بعد التطور الذي حدث في الآليات والأخذ بمبدأ الحس في المعرفة والتجريب حدث أمران في غاية الأهمية: أولهما: سقوط القداسة وانفصالها عن الشرعية. واستقلت بالمرجعية مسلّمات العقل الجديدة المكتسبة، وأصبح الواجب في الحضارة الغربية ليس لأنه مقدس وإنما لأن العقل دل عليه أو لأن التجربة المعملية دلت عليه، وبهذا أيضا انفصلت القداسة عن النظام الأخلاقي. وثانيهما: تطور في التقنيات والإنتاج المادي. من الذي أصبح يمسك ببوصلة الحضارة ويراقب مسيرتها، أو يقرر شرعية الفعل ؟ الذين يقومون بذلك هم من سميتهم بالفلاسفة الجدد، وهم صناع الحياة المادية، ولكنهم يفتقدون في وجدان الفرد العادي القداسة في أشخاصهم، وكذلك مصدرهم في الشرعية لا يتصف بالقداسة. ونتج من ذلك انهيار في الجانب الروحي والمعنوي في الحضارة وتقدم هائل في الجانب المادي والتقني. ومع ذلك بقيت للفرد حرية إرادته وقدرته على الاختيار ولم ينفصل الفرد عن مجتمعه انفصالاً كلياً وذلك أن كثيراً من المسلّمات العقلية المكتسبة الجديدة هي قضايا مشتركة بين عامة الأفراد. هذا عن الفلسفة فماذا عن الفقه؟ * كاتب سعودي. ** غداً: دور الفقيه.