يُروى ان مبتكر الخلطة السرية لوجبة "كنتاكي" كان عاملاً بسيطاً في احد مطاعم أميركا، قبل ان يطرد من الخدمة، فاتجه الى محاولة ابتكار وجبة سريعة جديدة، ثم بدأ بعرض ابتكاره على المطعم الذي كان يعمل فيه، ولكنه قوبل بالرفض، حتى وصل مجموع المطاعم التي رفضته 1008 مطاعم، ومع ذلك لم يمل يوماً واحداً، حتى حقق أمله في المطعم التاسع بعد الألف، الذي تبنى ابتكاره وأصبح اليوم من أشهر مطاعم الوجبات السريعة في العالم. ويمثل الفشل أو التعثر في واقع الحياة، ظاهرة موجودة بكامل أبعادها، في جميع المجتمعات بلا استثناء، والمجتمع السعودي أحد تلك المجتمعات، ويرجع الأمر الى مجموعة من العوامل، من ضمنها الفروق الفردية بين الأشخاص في جميع جوانب الحياة، أو الظروف النفسية أو الأسرية وغيرها الكثير. كما تختلف ردود أفعال الناس تجاه الفشل، فمنهم من يجعله بداية للنجاح، وآخرون يجعلونه ديدناً لهم، والبعض يرى ان الفشل موجود في حياة كل انسان ولو في شكل ضئيل، أو في جانب مهمل في الحياة، ولكنه يبقى فشلاً مهما صغر حجمه. التقت لحياة بحامد الشريف 24 عاماً، طالب جامعي فبدأ بسرد قصته بقوله: "قدمت الى الرياض لإكمال دراستي الجامعية، وأنا محمل بآمال وطموحات أسرتي، انخرطت في دراسة تخصص لا أريده، ارضاء لوالدي الذي تمنى ان احصل على معدل مرتفع، لكي استطيع ان انتقل الى التخصص الذي يريده وهو "الهندسة"، وبدأت الدراسة وأنا أحمل كرهاً دفيناً للتخصص الذي أدرسه، انعكس ذلك سلباً على المحاضرات وأساتذة التخصص، والكلية بأكملها، وانتهى الفصل الدراسي الأول، والنتيجة معدل متوسط ورسوب في مادة واحدة. لم استطع ان احقق رغبة والدي، وهكذا مرت خمسة فصول دراسية، والذي يتمنى ان احقق أمنيته، وأنا أزداد كرهاً للتخصص، فيما معدلي في انخفاض ومواد الرسوب تتراكم الواحدة تلو الأخرى، حتى جمعت من الانذارات الأكاديمية ما كان كافياً لفصلي من الجامعة، ونزل الخبر عليّ كالصاعقة، ليس لأنني فشلت في النجاح - لأن فشلي نتيجة طبيعية لكرهي التخصص - بل لأنني لا أريد ان أتسبب في جرح كبير لوالدي وأسرتي. واستطعت ان اكتم الخبر لمدة سنة كاملة، والانخراط في وظيفة بسيطة جداً، مرت عليّ أيام مريرة عدة. أحياناً كان يمر أسبوعاً كاملاً لا أتحدث مع أي انسان، وأصبحت في عزلة عن العالم، وأثناء ذلك فوجئت بأن والدي عرف بالأمر، وأخذ يؤنبني، ويردد لماذا لم تخبرني من البداية؟ لماذا لم تجعلني أساعدك في تجاوز هذا الموقف؟ هل تريد ان تشمت الناس بي؟ لقد دمرت حياتنا وحياتك؟ الله يسامحك... الله يسامحك، ولم يسألني، لماذا فشلت"؟! ويضيف "وبما انني كنت بعيداً من المنزل، ولا أعرف ماذا جرى لوالدي، الذي امتنع عن الكلام معي، حتى عند عودتي الى المنزل، لم أسمع منه على مدى شهر كامل، سوى جملة واحدة "الحمدلله على السلامة"، كانت نظرات كل من في المنزل تجاهي مملوءة بالشفقة والرحمة لما آلت اليه حالتي، كان صمت والدي أكبر عقاب لي في تلك الفترة، مع ان الناس في الحي، كانوا يسألونني دائماً، ولا يملّون من ذلك، "ها، خلاص تخرجت، وكم باقي لك على التخرج؟"، وأرى في عيونهم الكثير من السخرية والاحتقار والاستهزاء!! ومع ذلك بقي الى جانبي بعض الناس في أصعب المواقف التي مرت عليّ، وعلى رأسهم والدتي، وأخي الذي يصغرني بسنتين. وأصبحت مشكلتي حديث الحي، وأصبحت هدفاً دائماً لنظرات أفراد مجتمعي، حتى أن الأسرة التي أريد الزواج من ابنتها، خففت من زيارتي لها، شهر كامل على هذا الحال، وأنا مسجون بين صمت والدي ونظرات ساكني الحي". وفيما يذكر بندر الدوسري 25 عاماً، عاطل من العمل أن للفشل في حياته مساحة كبيرة جداً، "ألقت بظلالها على حاضري و مستقبلي، بعد أن استولت على ماضيي، ولسطوة والدي على شخصيتي، دور كبير في ظهور الفشل في حياتي، فمنذ عامي العاشر بدأ الفشل يبني له في حياتي مسكناً دائماً، من خلال رسوبي في السنة الرابعة الابتدائية، ومعاقبتي على ذلك بعدم الخروج للعب في الاجازة الصيفية، والبقاء في البيت للدراسة، ومع ذلك لم استطع تجاوز الاختبار التكميلي، وبدأ أصدقائي في المدرسة يسخرون مني، خصوصاً أنني الوحيد في العائلة الذي تعثر دراسياً، إما أخوتي فكانوا من الأوائل دائماً في كل المراحل التعليمية. و عاد الفشل مرة أخرى، ليجدد العهد بيني و بينه في بداية المرحلة الثانوية، ليقضي على ما بقي من طموح وآمال في داخلي، ولكنني هذه المرة استطعت أن أجتاز الاختبار التكميلي، وعند وصولي للمرحلة الأخيرة من التعليم العام، قررت أن أحسن صورتي الذهنية امام أسرتي ومجتمع أصدقائي، وتحقق ما كنت أصبو إليه حيث حصلت على تقدير مرتفع، أهلني للقبول في كلية الهندسة التطبيقية، وارتحلت حاملاً معي الماضي والمستقبل من أجل الحصول على شهادة في الهندسة، تعطيني مكانة اجتماعية مرموقة، وتهيئ لي حياة رغيدة. ومثّل انتقالي إلى مدينة الظهران "شرق السعودية" انعتاقاً من رقابة الأهل المحكمة في السنوات الماضية، واستقلالاً بشخصيتي وحياتي و قراراتي، فلم أعد أسمع الجملة المشهورة التي يكررها الوالدين في كل وقت "ذاكر دروسك، ترى ما لك غير الدراسة شيء"، وأصبح القرار بيدي، وتعرفت الى مجموعة من الشباب لا هم لهم سوى المظاهر ومعاكسة البنات في الأسواق، وأدمنت على أفعالهم، وتعثرت منذ الفصل الدراسي الثالث وبشكل شبه كامل، وحصلت على انذار أكاديمي، ثم حاولت النهوض ولكنني لم استطع وحصلت على انذار آخر، ثم قصم ظهري الانذار الثالث، الذي كان بمثابة تذكرة سفر حقيقية إلى عالم الفشل الذريع. وأضاف حامد، إنني أؤمن بأن الفشل أو التعثر - كما أحب أن أسميه - طريق النجاح، لذا حزمت أمري وعزمت على مجابهة الأمر وتحدي هذا الموقف، والخروج منه منتصراً، فدخلت تحدياً آخر من نوع خاص مع نفسي ووالدي وأسرتي ومجتمع الحي، فتقدمت بطلب للقبول في جامعة أخرى، وأخترت التخصص الذي أريده أنا، وأنا فقط لعل ذلك يساعدني في كسب التحدي والرهان - وانخرطت في الدراسة من جديد، في مناخ غير صحي بدءاً باللامبالاة التي يعاملني فيها والدي، والنظر إليّ كعنصر فاشل و مدمر، مروراً بعامل النظر إلى الماضي وتذكر الأيام السود في حياتي، ووصولاً إلى ضعف اللياقة لمواصلة الدراسة، أما الآن فأستطيع القول بأنني اجتزت أكثر من نصف الطريق للحصول على شهادة الليسانس بتفوق، وبدأت نظرة الوالد والأسرة والمجتمع في التحول من نظرة الفشل، إلى نظرة النجاح. على العكس من - بندر - الذي أشار إلى أنه ما زال حتى الآن وبعد مرور عامين على فصله من الجامعة، يعيش وحيداً بعد أن تخلى عنه الأهل والأقارب، ويذكر بأنه يعمل حالياً في احدى كبائن الاتصالات، ويؤكد أن فشله في الحياة يعود في المقام الأول الى شخصيته وسلوكه، لكن ألا يتحمل هذا المجتمع جزء من المسؤولية ؟ وهل من يتعثر في حياته العلمية أو المهنية يحكم عليه بشكل نهائي ؟ ولكن لا أقول سوى أن الله أرحم بعباده من أنفسهم، والأمل ما زال موجوداً، لكنني حالياً أسكن في ملحق الفشل على سطح احدى البنايات، ولا أعرف أحداً غير الفشل والوحدة والصمت، حتى أنني آمنت بأن الفشل وجد من أجلي فقط!