قد يكون من الصعب، بعد اقل من خمسة شهور، الحكم على اداء الادارة الاميركية الجديدة، ومع ذلك استطاعت في هذه الفترة القصيرة استفزاز الكثير من اصدقائها، بدءاً من اوروبا في التلويح بسحب القوات الاميركية من البلقان، والتراجع عن اتفاقية كيوتو حول البيئة، الى اثارة مخاوف اوروبا والصين وروسيا باعتماد سياسة دفاع صاروخي تذكّر بسياسة "حرب النجوم" للرئىس السابق ريغان. وحتى كوريا الجنوبية اسقطت مساعيها للتقارب مع الشمال الكوري، عندما تراجعت الادارة الجديدة عن سياسة كلينتون بالانفتاح على كوريا الشمالية. وسرعان ما تلاشى التفاؤل العربي بمجيء بوش الابن عندما فضل الاخير عدم التدخل المباشر في الصراع الفلسطيني - الاسرائىلي، الامر الذي اعتبرته الاوساط العربية بمثابة ضوء اخضر لحكومة شارون لقمع الانتفاضة الفلسطينية، والذي تجسد في اعتذار ولي العهد السعودي الامير عبد الله عن عدم تلبية دعوة البيت الابيض لزيارة واشنطن. وحتى مصر فوجئت باعلان واشنطن عن رغبتها في تقليص قواتها في سيناء بموجب اتفاق السلام بين مصر واسرائىل. وشملت هذه الخيبة ليبيا وايران عندما تلاشى الامل بتغيير واشنطن سياسة العقوبات والمقاطعة تجاه هذين البلدين. وقد يكون فشل الولاياتالمتحدة اخيراً في تجديد عضويتها في لجنتي حقوق الانسان والمخدرات التابعتين للامم المتحدة وجهاً آخر لمشاعر الخيبة على نطاق دولي. يعزو البعض هذا التخبط الى حداثة الادارة الجديدة، بل الى "عدم وجودها" أصلاً، على حد تعبير "التايمز" اللندنية 22 ايار/ مايو 2001. فمن اصل 489 تعييناً جديداً كان على رئيس الجمهورية الاميركية ان يقدمها للكونغرس لاعتمادها قبل تنصيبه، لم تتقدم ادارة بوش إلا بما يزيد قليلاً عن 200 مرشح، ولم تحصل موافقة الكونغرس لغاية نهاية ايار مايو إلا على 55 مرشحاً. * * * وقد انتقد بوش الابن - ابان الحملة الانتخابية - سياسة كلينتون تجاه العراق المعروفة ب "الاحتواء زائداً التغيير"، وتعهد بأن يكون اكثر حزماً من اجل التغيير. فطلب الرئىس بوش حال استلامه السلطة مراجعة سياسة الولاياتالمتحده تجاه العراق. ولكن ضغط الاحداث، وعدم اكتمال فريق العمل المختص في الخارجية والدفاع الاميركيتين فرض على الادارة الاميركية التعامل مع الشأن العراقي من منطلق ادارة الازمات وليس تسويتها، من دون بلورة استراتيجية متكاملة. فكانت الغارات الجوية في منتصف شباط فبراير الماضي لمعالجة ازمة فرضها تصاعد المواجهة الجوية العراقية للطائرات الاميركية والبريطانية التي تفرض منطقة الحظر الجوي على شمال العراق وجنوبه، من دون التوصل الى قرار نهائي في كيفية التعامل مع مناطق الحظر الجوي، الامر الذي يؤكده البيان الصادر أخيراً عن اثنين من كبار القادة العسكريين الاميركيين بضرورة تقليص أو توقف هذه الطلعات الجوية. وينطبق الامر ذاته على سياسة العقوبات، التي سبق ان وصفها الرئيس بوش بالجبنة السويسرية لكثرة ثغراتها. ارادت الخارجية الاميركية - من دون جدوى - بلورة سياسة جديدة بشأن العقوبات قبل انعقاد القمة العربية في عمان في اذار مارس الماضي. فانتظرت موعد تجديد العقوبات في الرابع من حزيران يونيو الجاري لطرح مقترحاتها التي عرفت ب "العقوبات الذكية" على مجلس الامن والتي تهدف الى: انهاء حالة التداعي التي تعاني منها العقوبات من جراء عمليات التهريب عبر دول الجوار، ضبط ما يدخل الى العراق لمنع تسرب مواد محظورة، اعادة صدام حسين مجدداً الى قفص العزلة، حرمانه من ورقة العقوبات في كسب الرأي العام العربي والعالمي بتحميله مسؤولية التلكؤ في فتح قنوات الامداد الغذائي والانساني للشعب العراقي. واذا كانت "العقوبات الذكية" هي مجرد معركة في حرب طويلة، فالسؤال ما هي الحرب التي تخوضها واشنطن؟ هل هي عودة المفتشين الدوليين؟ ام اطاحة النظام العراقي؟ ام الاستمرار بسياسة الاحتواء اعتماداً على نظام عقوبات محسّن؟ سياسة الاحتواء التي اعتمدتها ادارة الرئىس كلينتون انتهت عملياً الى تحاشي المواجهة مع صدام حسين، فتوصية مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية آنذاك لفريق التفتيش الدولي للاسلحة كانت بعدم تحدي او دخول مواجهة مع صدام تتطلب رد فعل عسكري اميركي، وذات "النصيحة" قدمتها للطرفين الكرديين العراقيين ابان مباحثات السلام بين الحزبين في واشنطن عام 1998، الى ان بلغ التراجع الاميركي مداه عندما طرد صدام حسين المفتشين الدوليين من العراق لتضطر واشنطن برد عسكري وصف ب "وخز ابر" استفاد منه النظام العراقي. فأي عمل لا يطيح بصدام حسين سيقويه على الاقل اعلامياً ومعنوياً. ان دخول واشنطن معركة "العقوبات الذكية" من دون ان تكون جزءاً من استراتيجية واضحة الهدف، وبدون اعداد كامل للاحتمالات، ستعرض الادارة الجديدة نفسها لاختبار سياسي صعب. اذ انها قد تجد نفسها، بعدما تحاشت التورط في حقل الغام الصراع الفلسطيني - الاسرائىلي، واقعة في مستنقع العراق السياسي. ولذا فإن اي فشل على صعيد العقوبات سيكون نصراً مجانياً لصدام حسين. فهناك المخاطر الآتية: * ان لا يتوصل مجلس الامن الى قرار بشأن الاقتراحات الاميركية - البريطانية، وتحاشياً لاستخدام فيتو روسي او صيني، يتم تمديد برنامج "النفط مقابل الغذاء" من دون تعديل لمدة ستة شهور كما تلوح وتريد كل من روسيا والصين، بحجة الحاجة الى مزيد من الوقت لدرس الاقتراحات. * ان يتم الالتفاف على الاقتراحات باعتمادها مبدئياً على ان يتم تنفيذها بعد الاتفاق على تفاصيلها، خصوصاً في ما يتعلق بقائمة المواد المحظورة ذات الاستعمال المزدوج. وفي غضون ذلك يستمر العمل ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" لمدة ستة اشهور اخرى. * ان يتم تعديل الاقتراحات الاميركية، وهذا ما لوحت به فرنسا بحجة التوفيق بين المقترحات الروسية والاميركية، بما يترك الكثير من الثغرات لمصلحة بغداد، ما يفرغ القرار من محتواه. * الاقتراحات الاميركية تعتمد على استجابة دول الجوار وتعاونها، والحدود الأطول للعراق هي مع ايران. الا ان قرار الادارة الاميركية باستمرار العمل بقانون المقاطعة لايران لا يدفع الاخيرة الى التعاون مع واشنطن، الامر الذي قد يدفع ايران الى مزيد من التعاون مع بغداد تحت شعار محاربة الامبريالية والصهيونية. * واذا كانت واشنطن تعوّل على العداء التاريخي بين صدام حسين وبعض دول الجوار، فإن التقارب الاخير بين سورية والعراق انهى هذه المقولة، الامر الذي سيجعل واشنطن خاضعة لخطر الابتزاز السياسي والمالي من جانب هذه الدول. * رغم اختلاف متطلبات وظروف دول الجوار تركيا، سورية، الاردن، ايران، الا انها تطالب جميعاً بأن تكون الاجراءات من خلال قرارات مجلس الامن، وان يكون التعامل بشكل متكافىء ومتساو، مع التأكد من ان مصالح هذه الدول الاقتصادية لا تتضرر بأي رد فعل عراقي، فلا يحصل اي طرف على صفقة أفضل من صفقة الآخر. * هناك عقبات في تنفيذ الاقتراحات الاميركية - البريطانية على صعيد المراقبة المطلوبة على الحدود وغيرها من مناطق الشحن للعراق، خصوصاً ان الآلية المقترحة للمراقبة تعتمد على اجهزة الرقابة المحلية لدول الجوار. واذا افترضنا ان واشنطن نجحت في تجاوز هذه العقبات وتم اقرار العقوبات الاميركية "المحسّنة"، فهل ان واشنطن مهيئة لمواجهة الاحتمالات الآتية: - امتناع بغداد عن تصدير النفط، علماً بأن النظام العراقي تمكن من الصمود بدون تصدير النفط لفترة امتدت من 1991 لغاية 1996. فالمشكلة ستصبح: كيف يعوض مجلس الامن الدول المتضررة عن خسائرها؟ وهذا يتطلب حزمة من المساعدات تتجاوز الاموال العراقية المعلقة تحت اشراف الاممالمتحدة. هنا يأتي دور الاتفاقات الثنائية، خصوصاً الكويت والسعودية في مساعدة تلك الدول المتضررة. قد تكون هذه الدول مستعدة للمساعدة اذا كانت هذه الاجراءات خطوة في مشروع شامل للتغيير السياسي في العراق، وإلا فإنها ستجد نفسها عرضة لنزيف اقتصادي اضافة الى نزيف سياسي على صعيد الشارع العربي. - ان الخط البياني للسياسة الاميركية في شأن العقوبات يعكس تراجعاً متواصلاً: بدءاً من قرار 986، الى مذكرة التفاهم، الى قرار 1284، واخيراً الاقتراحات الحالية. السؤال: ماذا في جعبة واشنطن في حال فشل الاقتراحات الاخيرة؟ هل هناك تراجع آخر؟ * * * ان بوادرالانقسام في مراكز صناعة القرار السياسي في الادارة الاميركية اخذت تطفو على السطح. فهناك الخارجية بقيادة كولن باول الذي يميل الى "الاعتدال" واعطاء العقوبات بشكلها المحسّن فرصة لتأخذ مفعولها، ومن الجهة الثانية هناك نائب رئىس الجمهورية ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد اللذان يميلان الى موقف اكثر حزماً تجاه العراق. أما موضوع المعارضة العراقية وامكان التغيير في العراق فلم يأخذ دوره في المراجعة بعد أو على الاقل لم يحسم. لكن مشاعر الاحباط التي انتابت الكثير من الاوساط العراقية المناهضة للدكتاتورية امتدت لتشمل حتى قيادة المؤتمر الوطني العراقي التي عبرت أخيراً للمسؤولين الاميركيين عن عتبها الى حد رفض المساعدة المالية اذا كان دورها مجرد اداة اعلام، كما تريد لها الخارجية الاميركية، بدلاً من العمل الجدي للتغيير في العراق. * كاتب عراقي، لندن.