ثمة تحولات بنيوية عدة حدثت منذ نهاية الالفية الثانية وفي مقدمها تطور نظام دولي جديد ينقلنا من مفهوم الدولة القومية الى مفهوم الدولة العالمية, ومن المجتمع الطبقي الى المجتمع الافقي المفتوح الذي ينتج ظروفاً وشروطاً عالمية وردود فعل وتحديات لا نعرف بعد نتائجها. وهذه التحولات البنيوية التي باتت تشغل العالم اليوم تضعنا امام مغامرة معرفية شديدة التعقيد والاثارة، ترتبط بتكنولوجيا المعلومات الالكترونية والثورة الاتصالية التي جعلت العالم اشبه بقرية كونية الكترونية صغيرة اتخذت ابعاداً عدة ومواصفات شديدة الخصوصية وقامت على تقنيات مكثفة سريعة التغيّر والتغيير والانتشار، كما انتجت حالة من الاعتماد المتبادل بين نظم الاقتصاد والسياسة والثقافة والاعلام تمتد عبر الحدود والدول والحضارات. وهذا الواقع الجديد الذي يفرض نفسه على العالم يحدث انقلاباً معرفياً كبيراً ويبشّر بطوبى كونية تتمثل بهذه الآلة الذكية المتعددة الوسائط والوسائل والاهداف، التي رفعت نفسها الى مستوى التقديس واخذت تؤثر في حياة الناس كباراً وصغاراً وعلى تفكيرهم وعملهم وسلوكهم الاجتماعي، وكذلك على علاقاتهم الاجتماعية، ودفعتهم الى العيش على آمال مستقبلية عريضة، في مقدمها نشر المعلومة بسرعة فائقة وفي كل مكان من المعمورة وما يتبعها من نشر للديموقراطية والتعددية السياسية وتوسيع قاعدتها، وبخاصة في المجتمعات التي تفتقر الى الديموقراطية والتعددية السياسية وذات الانظمة الفردية التي تكون فيها الذات مقموعة. ومع ان الكومبيوتر لن يلغي الكتاب والمجلة والجريدة بعد، لكنه بالتأكيد سيؤثر علىها ويفتح عصراً جديداً للمعرفة المعلوماتية المكثفة والسريعة الاستخدام التي دخلت كل مؤسسة ومدرسة وبيت، حتى بات من الصعب بل المستحيل ايقاف قطارها السريع. لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن: ما هي آثار الكومبيوتر في مجمل العملية التربوية والتعليمية والثقافية؟ واذا كانت النتائج ما زالت غير واضحة اليوم، فان عملية التربية والتعليم في الدول الصناعية المتقدمة تخطو خطوات جادة وسريعة وتهدف الى تغيير ملامح المدرسة القائمة وتحويلها الى ما يدعى اليوم ب"المدرسة - المؤسسة" التي تأخذ على عاتقها تكثيف التعليم وتسويقه بوتائر سريعة، وفي الوقت ذاته دمقرطة التعليم وربطه بآليات السوق بحيث ينسجم مع التحولات البنيوية التي يشهدها عصر العولمة والثورة المعلوماتية - الاتصالية. وقد شجعت منظمة اليونيسكو وكذلك البنك الدولي والمجلس الاوروبي الخطوات التي تعزز الكفاءات الانتاجية وتحريك عملية الانتاج والاستهلاك. واصدر المجلس الاوروبي امستردام 1997 توصيات مهمة حول تطوير المدرسة - المؤسسة التي ينبغي ان تحظى بأولوية قصوى في مجال تنمية المهارات والكفاءات الفنية المتخصصة وقدرتها على التعامل مع الآلة الالكترونية الجديدة وفك رموزها وتطورها والاستفادة من طاقاتها الانتاجية الى اقصى ما يمكن. كما دعت وزارات التربية والتعليم والثقافة في المانيا التلاميذ والطلاب والاساتذة الى الاستخدام الامثل والمكثف والمستمر للانترنت، وبدوره دعا المستشار الالماني غيرهارد شرودر الى الاهتمام المكثف بالانترنت، وقال: "ان على المرء ان يكون كولومبوس وان يسافر سنوات طويلة من اجل ان يكتشف عالماً جديداً". اما وزير التربية والتعليم الالماني بلومان فقال:"نريد ان نجعل من الانترنت اداة اعلام جديدة حتى نستطيع ان نوازن بين فرص التعليم وبين الطبقات الاجتماعية". غير ان هذه الظاهرة الجديدة اثارت مخاوف وقلق عدد من المفكرين وعلماء الاجتماع والتربية من مخاطر هذه الآلة، وبخاصة ما يتصل بمنهجية التعليم والمستوى العلمي، وما يتصل بالساعات المقررة لتدريس الانترنت في المدارس، وضرورة ان لا تكون على حساب الدروس الاخرى وبخاصة اللغات والتاريخ والجغرافيا والموسيقى التي لا يمكن تغطيتها بفيض من المعلومات غير المنظمة عبر الانترنت. كما ينبغي ان لا يكون هناك تنافس بين الدروس الاساسية ودروس الكومبيوتر. وهنا يأتي السؤال المركزي: ماذا ينبغي على التلاميذ ان يتعلموه من الكومبيوتر وما هي المعلومات التي يريدون الحصول عليها؟ وهل الكومبيوتر درس منهجي ومرجع علمي ام وسيلة لنقل المعلومات والترجمة وبيبليوغرافيا للبحث؟ وهل سيبصبح الكومبيوتر درساً كالرياضيات او اللغة؟ من المؤكد ان الكومبيوتر سوف يفتح آفاقاً جديدة للعمل، ولكن الى متى؟ وفي الوقت ذاته سيتضاعف عدد جمهور المعلوماتية من خريجي معاهد وجامعات تكنولوجيا المعلومات، الى الحد الذي لا يعود هناك حاجة او مجال لاستيعابهم. وعندذاك ستتضاعف نسبة البطالة واعداد المتسكعين في الشوارع بحثاً عن عمل. والاهم من كل ذلك ان شبكة الانترنت تقدم للاطفال والتلاميذ دروساً ذات اهداف خاصة وحقائق مختارة ومتميزة ومصلحية واحياناً لااخلاقية مفزعة. ان شبكة الانترنت حرّة ومتحررة وديموقراطية، فكل انسان يستطيع الدخول اليها كيف ومتى شاء ومن دون استئذان، لكن الاطفال والتلاميذ لهم حقوقهم الانسانية ايضاً التي ينبغي ان لا تتجاوز حقوق الكبار وحريتهم في الحصول على المعلومات. وفي اية حال فان شبكة الانترنت لا تعرض نصوصاً وافية وشافية ومعمقة دوماً. والمشكلة ان التلاميذ الذين يستمدون منها معرفتهم وثقافتهم العامة تكون مشكلتهم التجريد الذي لا يساعدهم على التركيز والتعمق والنقد في دراسة نص ما واستيعابه بصورة دقيقة. وهو ما دفع بعض "المتشائمين" الى الاعتقاد بأنه سوف تتطور وبالتدريج "امية حضارية" من جهة، كما يؤدي التوسع في أفق المعرفة "الكومبيوترية" الى تبسيطها من جهة اخرى، مثلما يعني ذلك ايضاً بقاء القلة المتخصصة والمنتجة لها تتحدث بلغة غير لغة العامة من الناس، وحتى المتعلّمة احياناً، وتصبح في الاخير مشروع "سلطة" جديدة. لقد دلّت الدراسات الاجتماعية الميدانية التي اجريت مؤخراً على أن الكومبيوتر يخلع الشباب والطلاب عن محيطهم العائلي وعلاقاتهم الاجتماعية اكثر من السابق ويجعلهم اسيري هذه الآلة لساعات طويلة، حتى ان البعض منهم اصبح "مدمناً" عليه لا يستطيع مفارقته. وبهذا تحول كثير من هوايات الشباب الاساسية الى الكومبيوتر. ان "الاوهام" التي ابتكرتها الثورة المعلوماتية نوع من الخطاب المغفل بحسب عالم الاجتماع الفرنسي فرانسوا برون، خطابٌ تقف وراءه مؤسسات كبرى تجعل من المتلقي كائناً يتلقى المعلومات بصورة اوتوماتيكية تجبره على المشاركة في اللعبة المعلوماتية الخطرة، وهو ما يقود الى تغييب الفكر العقلاني - النقدي وتقليص قابليات الذهن ودوره في الاستخدام العقلي لما يتلقاه من معلومات. ولهذا فإن الآلة الالكترونية الذكية سوف لن تكون المخلّص وهي، في الوقت ذاته، فهي ليست وباء خطراً اذا ما استُخدمت استخداماً عقلانياً رشيداً.