ما أن رفعت السيدة فيروز ذراعها عالياً في تحية أخيرة لجمهورها في افتتاح "مهرجان موسيقى العالم" في مدينة بال السويسرية، حتى انقضت فتاة مغربية مولعة ب"شاعرة الصوت" على الفرصة التي أتاحها انشغال المنظمين... فتسلقت المسرح بخفة بهلوان، وهي تحمل باقة ورد، وأسرعت، قبل ان يفيق الحارس من ذهوله، نحو فيروز التي كانت تتصبب عرقاً، وقدمت إليها باقتها وحضنتها بذراعيها، في حين كان والدها، في أسفل المسرح يلتقط لها صورة بيد تحاول عدم الارتجاف، على رغم الدموع التي جرت على خديه، ما شجع آخرين على المحاولة، لولا تنبه الحراس إليهم في الوقت المناسب. وإذا كانت الحفلة التي أقيمت ليل الأربعاء الماضي، ودامت ساعتين ونصف الساعة، انتهت بنوع من الهستيريا الجماعية، فإن بدايتها لم تكن أقل انفعالاً. هكذا، وما أن خفضت الأنوار في القاعة الراقية لكازينو المدينة، التي تتسع لألف وخمسمئة وخمسين مقعداً، حتى شخصت الأبصار الى المسرح القديم، متسقطة أي اشارة لاقتراب ظهور فيروز. وبعد اعلان بالألمانية طلب عدم استعمال الكاميرات، حيا الجمهور بتصفيق حار الاعلان نفسه بالعربية، ما يتجاوز السرور باقتراب البداية الى محاولة هذا الجمهور التعريف عن نفسه بأنه، في معظمه، من الجالية العربية. وما أن دخلت الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو كارن دورغريان، حتى حياها الجمهور وقوفاً مصفقاً بحرارة. وما أن رفع المايسترو عصاه عالياً طالباً من الحضور السكوت ومن الفرقة التأهب، حتى علا صوت خاله البعض لآلة موسيقية ما، لكنه تبين انه زغرودة طويلة لسيدة لم تجد طريقة افضل للتعبير عن انفعالها وسرورها، ما أثار الضحك والترحيب في صفوف الجمهور والفرقة على السواء. بعد مقدمة "رابسودي" الموسيقية من توزيع زياد الرحباني، دخلت السيدة فيروز بفستان أسود مرصع بالفضة لغناء "كيفك انت"، فوقف الناس يصفقون لها، أكثر من دقيقة، وقد خفضت رأسها خاشعة امام محبة هؤلاء، لترفعه بعد هنيهة، اشارة البدء بالغناء. حرارة الجمهور رافقت الحفلة من أولها إلى آخرها، وانتقلت عدواها الى السويسريين الذين كانوا يتفرجون بدهشة وفرح على مجرياتها، وعلى جيرانهم من العرب، متمايلين ملوحين بمناديلهم طرباً. هكذا غنت السيدة فيروز "في شي بدو يصير" ثم "اشتقتلك" لتخرج فيغني الكورس "يا خيل" فأغنية "مراكبنا ع المينا"، لتعاود فيروز الدخول لغناء "ضاع شادي" و"وقف يا أسمر" و"سلملي عليه". فيتابع الكورس وحده غناء "طللي اضحكيلو" و"قلتيلي تاركتك". وعندما انسابت أولى نوطات "يا جبل الشيخ" أخذ البعض يهتف: "بحبك يا لبنان"! في حين انتقلت عدوى الزغاريد الى عدد كبير من الحاضرات انطلقت أصواتهن في القاعة الكلاسيكية التي يزين صدر مسرحها أرغن ضخم وقديم أضفى على المسرح جواً غير اعتيادي، نظراً إلى اختصاصه. وهذا ما أسعد الجمهور السويسري الذي يبدو ان موهبته الأساسية هي الانضباط عموماً. ثم غنت فيروز "يا جبل الشيخ" التي دفعت بشبان في مؤخر القاعة الى القيام من أماكنهم وعقد حلقة دبكة، لتؤدي بعد ذلك "ليلية بترجع يا ليل" ف"ملهب جايي" مع الكورس. استراحة عشرين دقيقة، بادلت بعدها الفرقة الجمهور حرارته، فعزفت وغنت بحماسة ألهبت الأكف بعد مقدمة "مشهد عرس" لزياد الرحباني، وأغنية "أهواك" لزكي ناصيف، لتظهر فيروز وقد ارتدت فستاناً سكري اللون مذهباً، ثم "يارا"... وكانت اغنية "آخر أيام الصيفية" مناسبة اخرى للجمهور لاطلاق العنان لانفعالاته توقيعاً بالأكف ورقصاً، من دون ان يمنعه ذلك من السكون التام ما أن ترسل فيروز صوتها شدواً. ومع ان فيروز خرجت من المسرح لتعزف الفرقة "سألوني الناس" موسيقى، استمرت حرارة الجمهور في تصاعدها، خصوصاً عندما انفرد البزق بمقطع من الأغنية قامت له الجالية الكردية في سويسرا ولم تقعد، وما أن سمعت دندنات العود في مقطع آخر، حتى ران الصمت، الى ان انتهت التقاسيم فاندفع الجمهور للرقص بين الصفوف، ليعيد السيناريو مع وصلة الناي. ثم غنى الكورس "عايشة وحدا بلاك" بحماسة قلّ نظيرها، فصبّ الزيت على نار الجمهور، وسمع صراخ بين فنية وأخرى باسم فيروز وزياد متقاطعة مع آهات الطرب. ثم دخلت فيروز وغنت "يا ربوع بلادي" التي نقلت المشاعر من التعبير الخارجي الى الالتفات الى الداخل، فسرت همهمات مع "نحن من الأرض الخضيبة"، وصفق الناس كالعادة لاسم القدس عند وروده، ثم بلغ التأثر أشده مع "ردني الى بلادي". وغنت من جديدها مع زياد "ضاق خلقي يا صبي" ومن قديمها "سهرتنا ع دراج الورد" التي بدت فيها تتصبب عرقاً لتغادر ويقف لها الجمهور منادياً بالتصفيق فتعود وتغني "إذا الأرض مدورة" ثم تختفي أكثر من ثلاث دقائق ملأها الحضور تصفيقاً ومناداة، ما دفعها الى العودة، فغنت "نحن والقمر جيران"، لتعود بعد خمس دقائق من التصفيق فترفع ذراعها... تحية وداع. وفي سيناريو كلاسيكي، هجم الناس على الكواليس وانهمرت باقات ورد، كانت أكبرها باسم الجالية العربية والفلسطينية في بال، حملت بطاقة كتب عليها: "يا روح العالم العربي الفنية ومصدر الأمل في ذاكرتها الجماعية، يا حاملة مفتاح زهرة المدائن: تقبلي حبنا واحترامنا واعلمي ان اغانيك مصدر أمل لأجيال وأجيال". يذكر أن المهرجان الذي يعقد تحت عنوان: "موسيقى العالم تستطيع ان تكون حديثة من دون ان تنسى التراث" يستمر حتى بداية تموز يوليو المقبل، وتتخلله نشاطات عدة للبنان الذي يحظى هذه السنة بأضواء المهرجان. اما النشاطات الأخرى فيشارك فيها فنانون من اسلام آباد وداكار ولاهور والجزائر.