لم ينفع تصعيد حملة الإشاعات على حفلة السيدة فيروز في الكويت في إفشالها، وإن كانت الإشاعة الأخيرة التي وصفتها الصحافة المحلية ب"الدعابة السمجة"... خطرة. اذ فوجئ أعضاء الفرقة الموسيقية والتقنيون في قاعة التزلج الكبرى في الكويت العاصمة، ب"إنزال أمني" لوحدة متخصصة بنزع المتفجرات، أخلتها من كل من فيها، للتفتيش عن قنبلة قيل إن مجهولاً اتصل بإدارة المسرح للابلاغ عن وجودها، قبيل الحفلة مباشرة، في الثامنة مساء أول من أمس. كانت الفرقة الموسيقية تتهيأ للحفلة المقررة في التاسعة والنصف. فأخرجت فتياتها من غرفهن، وهنَّ بنصف ماكياج الى الباحة الخارجية، وكذلك ذكورها وجوقة المنشدين، فاختلطوا بالجمهور المحتشد فيها، في حين ادخلت الكلاب المدرّبة الى القاعة لتفتش كل ركن فيها، ليتكرر المشهد نفسه الذي شهدته حفلة فيروز الأخيرة في الكويت، قبل اثني عشر عاماً. ولم يكن ينقص عناصره إلا هبوب عاصفة وهطول مطر كما حصل وقتها... لولا ان العاصفة هبّت فعلاً في الليلة السابقة، اثناء البروفات وحملت أمطاراً غزيرة في غير وقتها. وعليه... تأخرت الحفلة ساعة عن موعدها. ولم تكن بدايتها تبشر بالخير. فالناس كانوا ملوا الانتظار الطويل، واقفين في ثياب السهرة، في حرارة مرتفعة، ثم أن المنظمين تركوا أبواب القاعة مفتوحة ليتابع بعض "المتأخرين" دخولهم القاعة حاملين... هواتفهم النقالة برنينها وأنوارها... ودخلت الفرقة الموسيقية المسرح، فانتزع مجرد دخولها تصفيق الجمهور الحار، لتبدأ الحفلة بالنشيد الوطني الكويتي فالنشيد الوطني اللبناني، فمقدمة "نزل السرور" الموسيقية لزياد الرحباني. وما ان أطلت فيروز بتسريحتها القصيرة مبتسمة حتى التهبت الأكف، ووقف الحضور جميعاً مرحباً... لكن المايسترو قطع هذا الترحيب الطويل بمقدمة أغنية "كيفك انت" التي ما أن تناهت أولى نوطاتها الى الأسماع حتى دوى التصفيق. ومنها الى "في شي بدو يصير" ف"اشتقتلك" لتخرج فيروز ويغني الكورس "يا خيل بالليل اشتدي" التي لحنها الرحابنة لصباح، وبدت بمثابة تحية لها إثر المرحلة الصحية الحرجة التي مرت بها. ثم غنى الكورس "مراكبنا ع المينا"، لتعاود فيروز الدخول بفستان أسود وتنشد "شادي" و"وقف يا أسمر" و"سلملي عليه". ثم غنى الكورس "طلي اضحكيلو" و"قلتيلي تاركتك"، لتعود السيدة ب"يا جبل الشيخ" التي ألهبت الأكف بالتصفيق والمدرجات الخشب ب"الدبيك". ثم بقيت لتغني مع الكورس، في نهاية الفصل الأول، "ملهب جايي" التي بدا ان بعض الجمهور يكتشفها للتو. بدأ الفصل الثاني بمشهد العرس موسيقى لتدخل فيروز بالأبيض اللؤلؤي وتغني "أهواك" لزكي ناصيف و"يارا" من شعر سعيد عقل و"آخر أيام الصيفية" التي لم يكف الجمهور عن مرافقتها بالتصفيق، الا عندما كانت فيروز ترسل صوتها شدواً. وبدت أغنية "يا ربوع بلادي"، وهي من القديم الرحباني - الفيروزي، غير معروفة من الجمهور. وعلى رغم ذلك، ما ان ذكرت جملة "يا هل ترى نعود... صوب أرض الجدود؟" حتى عصفت القاعة تصفيقاً... كمن وجد ضالة مشاعره في كلامها. ثم توالت "سألوني الناس" عزفاً، فغناها الجمهور، لتتمايل أجساد الشباب جلوساً وتوقِّع أكفهم على إيقاع "عايشي وحدا بلاك". ثم تدخل فيروز لتغني: "نحن من الأرض الخصيبة" من أوبريت "راجعون" التي انتزع مقطعها "القدس في البال" كالعادة صياح الناس. ثم "ردني الى بلادي" التي قاطع فيها الجمهور اكثر من مرة فيروز بالتصفيق، ف"ضاق خلقي يا صبي" التي رحب بمرحها، وإن لم يسمعها قبلاً. وعندما حان وقت "سهرتنا ع دراج الورد" أدرك العارفون برموز اختيار الأغاني الفيروزية اقتراب نهاية الحفلة، وكأن ذلك الاحساس صعد من تفاعل القاعة فوقفت الصفوف بالتتابع، كموجة بشرية، مع "إذا الأرض مدورة" لتخرج فيروز محيية الجمهور بعدما قدمت له المايسترو كارن دورغريان والفرقة المؤلفة من خمسة وأربعين شخصاً... وكانت الساعة تشارف الثانية فجر الجمعة. لم يشأ الحضور أن تنتهي الحفلة هنا، فأصر طويلاً حتى عادت فيروز ب"نحنا والقمر جيران" التي بدت موسيقاها كأنها تتساقط على القاعة المنصتة بكل جوارحها، ندف الثلج. والتمعت شعلة احدى الولاعات، لتتبعها مئات كانت تتمايل مرتجفة، كأنها نجوم ولدت للتو في فضاء القاعة. أما الوداع فكان مع "بكره برجع بوقف معكم". ومن لم يكتف بالوداع المغنى، قصد غرفة فيروز في الكواليس لإلقاء التحية عليها... وبدا أشدهم تأثراً شابان سعوديان أتيا من جدة، اتكأ أحدهما الى حائط، كمن لا يقوى على الوقوف، هاتفاً بفرد من الفرقة "توسط" له للدخول: "ما عندي كلام أشكرك... يمكن تنفع عيوني".