في الأسابيع الأولى بعد التحرير تولت جهات مختلفة حصر أحوال الشريط المحرر وأوضاعه، وإعطاء تقديرات في شأنها، لجهة أعداد المقيمين أو أحوال النشاط الاقتصادي بقطاعاته المختلفة، وحتى العلاقات السياسية المؤثرة في وحدة المنطقة وثبات صيغة العيش المفترض ثباتها بين المقيمين فيها. ولكن هذا الاهتمام ما لبث ان تراخى. فلم يبق عملياً من الأخبار المنتظمة المتعلقة بهذه المنطقة إلا أخبار محاكمات الموقوفين أمام القضاء العسكري، فاستعصى حتى على المتابع أن يحيط بمعالم صورة المنطقة اليوم. ويفيد هذا الكلام ان الجمود الذي يضرب الاقتصاد اللبناني عموماً يخيم بقوة مضاعفة على الشريط المحرر. ولذلك سبب واضح هو فقدانه مصدر الدخل الإسرائيلي الذي كان يتمثل في رواتب الجنود في الميليشيات التابعة للمحتل، وأجور العمال في داخل إسرائيل وفي بعض النشاط الهامشي من تهريب وسواه، ولم يعوض بعض هذه الموارد إلا ما وظف في قطاع البناء، وما كان مصدره الاغتراب أو تعويضات فردية سددت في عدد قليل من القرى. وأثمر هذا كله أبنية نبتت على نحو عشوائي، مذكرة بانتشار مشهد الإسمنت الذي سبق ان شوه المنطقة نفسها أول مرة بين الخمسينات والستينات. وشهدت مدينة مثل بنت جبيل فتح ثلاثة فروع مصارف أو أربعة وهذا ما يدخل في تثبيت الوجود المعنوي أكثر مما يدخل في وجود مجال واسع فعلاً للعمل المالي، باعتراف المسؤولين عن هذه المصارف انفسهم. وفيما عدا ذلك لا يلاحظ إلا القليل من المنشآت الجديدة، تجارية أو حرفية، يسعها ان تؤمن اعمالاً بديلة، وأن تستدرج الى العودة مقيمين خارج المنطقة. لذا تقتصر العودة على فئات من الناس هامشية اقتصادياً ومحتاجة في معظمها الى الإعالة، من قبيل كبار السن والفقراء والمدقعين الذين وجدوا المعيشة في قراهم أرخص كلفة عما هي عليه في بيروت. وما تم في مجال البنية التحتية والخدمات مما يتعلق بالمياه والكهرباء والطرق والصحة والتعليم بقي خجولاً، ولم تلمس له نتائج فعلية، وخصوصاً بعد هجمة التصليحات الأولى التي شهدها الشهران الأولان على التحرير. وأما العلاقات داخل كل من القرى، وما بين هذه القرى، وخصوصاً العلاقات الطائفية السياسية فتبدو نائمة على مشكلات مؤجلة. بعض القرى المسيحية شبه فارغة، وثمة استئثار حزبي يمارسه وافدون، كانوا خارج المنطقة وعادوا إليها بصفتهم الحزبية، على من كانوا يسمون بالصامدين وقلما يحفظ لهم دور أو يؤخذ رأي، إلا شكلاً، في ما يحصل لقراهم، وما يخطط لحصوله فيها. وهذه القرى لا تزال من غير بلديات. وأما الدولة، بما هي مؤسسات معنية بتسيير شؤون المنطقة اليومية، وبحفظ الأمن والحقوق، فيبدو حضورها هزيلاً ومتردداً، وتتقاطع مرجعيته، عند طرح أية مسألة، مع المرجعيات الحزبية التي يقوم توازن راجح لمصلحتها مع ممثلي السلطات العامة. والقوى الأمنية التي تمركزت في المنطقة، وبعضها من الجيش، تبقى نادرة الظهور، وتبدو عند بروز مشكلة ما كأنها قوة تحكيم بين الأطراف الحزبية، أو بين هذا أو ذاك من أصحاب العلاقة بالمشكلة. * أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.