لا ىخطئ محللون اسرائيليون يرون في سياسة الرئيس ياسر عرفات وتعامله مع توصيات لجنة ميتشل، ثم ورقة مدير ال"سي.آي.اي" جورج تينيت، تكتيكاً واقعياً يراهن في مداه البعيد على اسقاط حكومة ارييل شارون، الذي أكمل مئة يوم في الحكم. ولعلهم لا يخطئون ايضاً في تقدير المأزق الذي سيصطدم به زعيم ليكود، في حال انصاعت السلطة الفلسطينية لشروط تينيت الاسرائيلية. والواقع ان كلا الطرفين يواجه طريقاً مسدوداً اذا انهار وقف النار، على رغم كل مساوئ شروطه بحق الفلسطينيين. فلا تمديد مذابح المئة يوم كافٍ لاخضاع شعب بعدما قدم مئات الشهداء، ولا امتداد مواكبهم كفيل بوقف عاصفة الجنون التي يحتمي بها شارون بذريعة حماية الاسرائيلي.... أو بإزاحة العمى عن بصيرة ادارة بوش. واذا كان أقرب الى التخيلات التكهن بمسار أكيد للاحداث الدموية في الأراضي الفلسطينية، فوقائع المئة يوم من حكم شارون والأسبوع الأخير من الانتفاضة تظهر حقائق دامغة، معظمها اسود تحت سحب رمادية: أن لا حدود للاستبداد الذي يمارسه نيرون اسرائيل وهو مطمئن الى ان أحداً لن يبادر الى انقاذ الفلسطينيين. ان التحريض الاميركي يترك له حرية إلغاء السياسة والتفاوض، لأن المرحلة زمن حرب فيما واشنطن مطمئنة الى الارتماء الأوروبي الكامل أمام نهج ادارة بوش الذي نعى اوسلو وكل مفاعيله، ويسعى مع شارون الى دفن الانتفاضة. وهي مطمئنة ايضاً الى تمديد الاندحار العربي الشامل بعد أيام معدودة هزت الشارع من المحيط الى الخليج، وانتهت كذكرى لدى الملايين الذين يتفرجون على محنة الفلسطينيين في سجنهم الكبير، كأنهم في أبعد جزر اندونيسيا... حتى بدا كاسترو في هافانا، مرتدياً الكوفية، أقرب منهم الى الضفة الغربية وغزة. حقيقة أخرى من لون مغاير، فرضت ذاتها بشجاعة الفلسطينيين، وعلى رأسهم عرفات، اذ قلبوا صورة المرتمي في قبضة الاسرائيلي، والجاهز للعب دور العميل، لذبح شعبه في مقابل إرضاء شهوة السلطة واغراءات النفوذ. أما الواقع الذي لا يمكن الرهان على قدرته في إحداث صدمة تنهي السبات العربي، المديد رغم ضجيج المذابح، أو حتى وقف أصوات نشاز ما زالت تأخذ اليهود بحسن نية أحلام السلام المستحيل، وامكان التعايش مع الاستبداد المريض، هذا الواقع تكشفه بعض الأرقام الاسرائيلية في قياس شعبية شارون: فهو الأكثر قبولاً واستحساناً لدى يهوده منذ ابرم مناحيم بيغن اتفاقي كمب ديفيد مع مصر، وليس منذ صافح عرفات اسحق رابين في البيت الأبيض. وهكذا فثلاثة أرباع الاسرائيليين يجتمعون على إلغاء كل ما حصل منذ مؤتمر مدريد، ويرون ان السبيل الوحيد للتعامل مع الفلسطيني هو التقتيل والتشريد وتدمير كل ما يملك، لتسقط كذبة السلام والتعايش والمسارات، والمصافحات التي تطوي تاريخاً يأبى اليهودي الا ان يكون بالدم... ومع ذلك يجد في أوروبا واميركا صناع القرار الذين يرونه حملاً أمام "الذئب" الفلسطيني. ألا ينبئ ذلك، بعد ثمانية شهور على الانتفاضة، بحقيقة الخديعة، وكون عرفات وشعبه يواجهان تواطؤ العالم كله، ومعه كثيرون من العرب؟! المعلق في صحيفة "هآرتس" يوئل ماركوس يقدم خدمة للقادة العرب لعلهم يستكشفون آفاق المستقبل، وهو قريب، يستنتج ان ثلاثة رؤساء وزارات خلف شارون فشلوا وخيبوا أمل الاسرائيلي، أما هو فأمامه فراغ قيادة مذهل، ليبقى النموذج "الصالح"... اي اليهودي "البطل" الذي آل على نفسه كتابة تاريخ محرقة وقودها الفلسطينيون. انها قمة الاستبداد المرضي، وطالما ثلاثة أرباع الاسرائيليين يرون في شارون الحل - القدوة، يبقى للعرب انتظار النكبات بصمت، ويكفيهم انهم رفعوا الصوت كثيراً، بالبيانات واللجان.