يوارى فيصل الحسيني 60 عاماً الثرى اليوم الى جانب والده عبدالقادر في ساحة المسجد الأقصى، حيث تنطلق جنازة رسمية لمسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية، وقد نعاه الملوك والرؤساء والمسؤولون العرب الذين يعرفونه عن قرب، وبينهم أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، الذي أبلغ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أول اتصال بينهما، أحر تعازيه. وقال أحد منظمي مؤتمر "مقاومة التطبيع" مع اسرائيل الذي يعقد في الكويت، حيث توفي الحسيني انه عثر عليه "ميتاً في غرفته في الفندق"، مضيفاً أن طبيباً شرعياً أكد وفاته فجر الخميس. ووصل جثمان الحسيني أمس الى عمان حيث كان في استقباله عدد من المسؤولين الفلسطينيين والسفراء العرب، ومن المنتظر أن يعود عرفات اليوم من بروكسيل ليحضر الجنازة. وفي شارع صغير في القدس كان شهد معارك كبيرة مع المتطرفين اليهود وقوات الاحتلال الاسرائيلي، على مدار السنوات العشرين الماضية، تقاطر مئات الفلسطينيين الى مبنى "بيت الشرق" يسألون عن "أبو العبد" كما اعتادوا أن يفعلوا، وهم واثقون بأن فيصل الحسيني هناك بانتظارهم وما سمعوه عن وفاته في الكويت ليس إلا اشاعة في اطار الحرب الاسرائيلية على القدس. حلقات صغيرة وأخرى كبيرة، أطفال وشيوخ، شخصيات دينية وسياسية، نساء ورجال يتحدثون ويبكون، وحين وصل ابنه عبدالقادر الى "الاورينت" فوجئ الجميع بصلابة هذا الشاب النحيل وبدل أن يبكي كان يشد أزر المعزين ويقول: "لا مكان للحزن، علينا أن نرتب جنازة تليق بفيصل". في الصفوف الأولى كانت حنان عشراوي تذرف الدمع بصمت، فهي واكبت فيصل منذ عقود ومن خلال دموعها قالت ل"الحياة": "خسارة، فاجعة شخصية ووطنية وانسانية، كان بحق مرتبطاً بوطنه وقضيته، انه يجسد القدس وهو أفضل ما يمكن أن يكون عليه المناضل من نظافة اليد والاستعداد العالي للتضحية والعطاء رغم الاعتقال والتعذيب والهجوم الشخصي. لم يفقد الأمل والالتزام والعمل بأمانة واخلاص وأخلاق، وهذا ما تفتقده الأمة". الى جانبها جلس القيادي الفلسطيني عزمي بشارة والأسى يعلو ملامحه ليقول: "فجيعة كبيرة لأصدقائه الشخصيين وللقدس وللشعب الفلسطيني، اغتالته يد المنون ونحن في أوج المعركة على عروبة القدس وفي أمس الحاجة اليه لما يمثله في القدس، وهو جمع بين نظافة المسلك وشجاعة المناضل وعقلانية السياسي وهذا ما نحتاج اليه الآن". وأضاف بشارة الذي ارتبط بعلاقة صداقة حميمة مع الحسيني ان فراغاً كبيراً سيتركه غياب فيصل الحسيني "ولكن الشعب الفلسطيني لن يعدم ابناءه وسترى عشرات الآلاف ممن يعاهدون على استمرار المسيرة وسيكون هناك من يستمر ولكن لا شك أن بصمات فيصل الشخصية من طهارة اليد ومثابرة النضال وما تفرد به كل ذلك سنفتقده كثيراً". الجميع يتذكر "أبو العبد" متحدثاً عنه وباكياً، بينهم أيضاً مدير المجلس الفلسطيني للاعمار محمد اشتيه الذي عمل مع الحسيني في الترتيب لمؤتمر مدريد، يقول ان فيصل "مات مديوناً، كان يقترض ليحل مشاكل أهالي القدس المحتاجين، انه أحد رجالات فلسطين الذين واكبوا مسيرة الشعب من البداية، وشخصية مركزية وأحد أهم قيادات حركة فتح. لقد كان نقطة الالتقاء بين مختلف المختلفين ونقطة اللقاء لكل محبي فلسطين وجميع أولئك الذين يشكلون الفسيفساء السياسية الفلسطينية من مختلف التنظيمات الدينية واليسارية والوطنية وكل من عمل من أجل تحرير فلسطين. وكان سفير القدسوفلسطين وياسر عرفات الذي اعتمد على "أبو العبد" ليدق أبواباً مغلقة عربياً وعالمياً ومنها الكويت...". نقل جثمان الحسيني من الكويت حيث توفي الى عمان، ومنها ينقل على طائرة أردنية ويرافقه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى رام الله صباح اليوم. ومن هناك ينطلق موكب الجنازة الى القدس حيث يصلى عليه في المسجد الأقصى ويدفن الى جواره والده في باحة الحرم القدسي الشريف. محطات في حياته القدسالمحتلة - أ ف ب - ولد فيصل الحسيني سنة 1940 في بغداد وعاش متنقلاً بين العاصمة العراقية والقاهرةوبيروتوعمانودمشق قبل ان يستقر في القدس التي كرس لها حياته. وبعد الاقامة في بغداد انتقل الى القاهرة حيث انهى دراسته الابتدائية والثانوية ثم حصل على شهادة في العلوم العسكرية من حلب عام 1966 قبل ان ينتقل الى دمشق ليستقر فيها لفترة. وحاول الحسيني الالتحاق بكلية سلاح الطيران المصرية ليصبح طياراً لكنه اخفق في اجتياز امتحان القبول "لاسباب تتعلق باللياقة البدنية". لكن ذلك لم يمنعه من العمل في الميدان، اذ غادر بعد حرب عام 1967 دمشق الى لبنان حيث عمل مسؤولاً عن مخيم تدريب عسكري في قرية كيفون شرق بيروت نقل لاحقاً باتفاق مع الجيش اللبناني الى بعلبك. وكان الحسيني انضم الى حركة القوميين العرب عام 1957 ثم انتقل الى صفوف حركة فتح منذ بداياتها الاولى وعمل في 1964 في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس قبل احتلالها. واهلته هذه المرحلة المبكرة من العمل الى قيادة العمل السياسي الوطني في القدسالمحتلة التي عاد اليها قبل احتلالها عام 1967 وظل فيها. وكان الحسيني بين اوائل الوطنيين الفلسطينيين الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال الاسرائيلية بعد الحرب مباشرة حيث قضى نحو سنة بتهمة حيازة سلاح في سجون اسرائيل. وواصل عمله الوطني على رغم تنقله بين مهن مختلفة مثل فني اشعة في مستشفى المقاصد الخيرية في القدس. وفي 1979 أسس بالتعاون مع مجموعة من الاكاديميين "جمعية الدراسات العربية" التي شكلت نواة "بيت الشرق" الذي تحول عملياً الى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس. ولم يخل الامر من مواجهات مع الاسرائيليين، حيث اغلقت الجمعية اكثر من مرة واخضع الحسيني لاقامة جبرية بين 1982 و1987 اضافة الى ثلاثة احكام بالحبس الاداري من دون محاكمة بين نيسان ابريل 1987 وحزيران يونيو 1988. وعملياً فإن نشاط الحسيني لم يتوقف لا سيما منذ اندلاع الانتفاضة الاولى عام 1987 حيث كان من قادتها وثم رئيساً للمفاوضين الفلسطينيين في المحادثات مع وزير الخارجية الاميركية الاسبق جيمس بيكر التي مهدت لمؤتمر مدريد للسلام عام 1991. ومنذ بدء تطبيق الحكم الذاتي عام 1994 والحسيني منشغل تماماً في قضية القدس يتنقل بين العواصم العربية والعالمية حتى وفاته صباح امس في الكويت، حيث كان يحضر مؤتمراً لمقاومة التطبيع مع اسرائيل. يأسفون لرحيله بعث أمير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح برسالة تعزية الى الرئيس ياسر عرفات، في أول اتصال له بالرئيس الفلسطيني منذ حرب الخليج. وقال مصدر رسمي ان الشيخ جابر عبر لعرفات عن تعازيه الصادقة بوفاة الحسيني. كذلك اشاد رئيس مجلس الوزراء بالنيابة، وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح بالحسيني وقال ان "السلطة الفلسطينية والأخوة الفلسطينيين جميعاً فقدوا برحيله ابناً باراً ومناضلاً فذاً كرس حياته لنصرة القضية الفلسطينية والدفاع عنها في المحافل الاقليمية والدولية، خصوصاً القدس الشريف والمقدسات الاسلامية فيها". ومن جانبه، وصف عرفات في بروكسيل امس وفاة الحسيني ب"النبأ الفاجعة" الذي من شأنه ان يقود الى "تصميم أكبر من أجل إرساء السلام". واضاف امام البرلمان البلجيكي والدموع في عينيه: "كان قريباً جداً مني" ووفاته "خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني". ونعى بيان صادر عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وحركة "فتح" الحسيني، وقال ان "الشعب الفلسطيني خسر قائداً من أبرز قادته ومناضليه... كان دائماً رجل المواقف ورجل الافعال والمدافع عن القدس الشريف الى آخر يوم في حياته". كذلك نعته الجاليات الفلسطينية في اوروبا. وفي لبنان، حمل مسؤول حركة "فتح" سلطان ابو العينين الكويت مسؤولية مباشرة في وفاة الحسيني، وقال: "لا نعفي دولة الكويت من المسؤولية المباشرة لوفاة شهيدنا ونحملها المسؤولية عن كل التصريحات الاستفزازية التي أصابت شهيدنا واصابت كل شعبنا الفلسطيني". وطالب بفتح تحقيق في ملابسات وفاته. وابدى رئيس المكتب السياسي ل"حركة المقاومة الاسلامية" حماس خالد مشعل أسفه لوفاة الحسيني، وقال انه رغم "اختلافنا السياسي يبقى مناضلاً وعاش في الداخل وابن عائلة مشهود لها بالنضال". واعتبر رئيس الوزراء الاردني علي ابو الراغب وفاة الحسيني "خسارة كبيرة" وقال انه "سيبقى رمزاً للنضال الوطني". وبعث الرئيس زين العابدين بن علي برقية تعزية الى عرفات عبر فيها عن "بالغ الأسى والتأثر... وأخلص المواساة". وقال العاهل الاردني الملك عبدالله في برقية تعزية الى عرفات ان الحسيني كان يدافع عن "عروبة القدس". واعرب وزير الخارجية المصري احمد ماهر امس عن شعوره بالصدمة، مضيفاً ان الرئيس حسني مبارك أبدى تأثراً شديداً عندما علم بوفاة الحسيني، وقال: "إننا في مصر نكن تقديراً كبيراً للفقيد وللدور الذي كان يضطلع به بالنسبة الى القدس والمكانة التي يحتلها في قلوبنا جميعاً". كذلك بعث أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وولي العهد الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني برقيتي تعزية ومواساة لعرفات في وفاة الحسيني. كما نعى الامين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى الى الامتين العربية والاسلامية فقدان الحسيني. وقال إنه كان مكافحاً ومناضلاً في سبيل قضية القدس وحقوق الشعب الفلسطيني. واعربت لندن عن "صدمتها" لوفاة الحسيني، وقالت انها "خسارة كبيرة للفلسطينيين وعملية السلام". كذلك وصف الرئيس جاك شيراك في رسالة تعزية الحسيني بأنه "شخصية بارزة ومحترمة"، وقال انه "تمسك بحزم بمدينته وبالرمز الذي مثله بيت الشرق، يترك لدى فرنسا صورة رجل عزم وحوار وتسامح". وعبر المبعوث الاوروبي لعملية السلام في الشرق الاوسط ميغيل انخيل موراتينوس الحسيني عن "الألم العميق" لوفاة الحسيني ووصفه ب"الرفيق القديم في النضال في مساعي السلام... والمصالحة"، مشدداً على "ذكائه ونزاهته". وفي أول رد فعل اسرائيلي على وفاة الحسيني، قال زعيم المعارضة اليسارية، زعيم حزب ميريتس يوسي ساريد للاذاعة الاسرائيلية: "ان الشعب الفلسطيني خسر في الحسيني أحد أفضل أبنائه".