انتشر تعبير الروشنة بين الشباب المصري منذ سنوات مثل "يللا نروشن" أو "خليك شاب روش" أو "روشن نفسك" في كل مكان وسيطرت "الروشنة" على مظاهر الحياة للشاب الصغير في الملبس والمأكل والحديث. ولم تعرف "الروشنة" التمييز بين الجنسين، فالجميع "يروشن" بل أن الفتيات نافسن الشباب في مظاهر الروشنة. وتقفز الاسئلة الى الأذهان، ما معنى الروشنة؟ وهل سببها الفراغ لدى الشباب؟ وهل يمارس كل الشباب الروشنة؟ وهل لها حدود؟ وأين الكبار من الشباب الروش؟ هل يتواصل معه؟ أم يزيد الفجوة بين الأجيال؟ يقول يسري فرغلي 23 سنة: الروشنة لها معنيان، كأسلوب حياة هي تعني اللامبالاة. وعدم الاهتمام بما يحدث حولنا. ويقول فرغلي إن الشباب يلجأ الى الروشنة ليس بسبب الفراغ، ولكنه أصبح أسلوب حياة لدى كثيرين، حتى الكلمات والأساليب تغيرت، وكلمة روشنة أكبر دليل على ذلك. اختفت العبارات التقليدية مثل: سنشتري ملابس جديدة أو نخرج لتناول وجبة واصبحت كلمة "نروشن" الاسهل والأسرع. وهي تُشعر الشباب انهم يملكون لغة خاصة بهم لا يفهمها سواهم، لغة بعيدة من الكبار وحياتهم وأسلوبهم وتحكمهم. ويضيف فرغلي: "الروشنة بكل مظاهرها ليست جديدة على المجتمع، هي فقط تطور لتعبيرات وكلمات اخرى، ففي أواخر الستينات والسبعينات كانت توجد فئة مشابهة بعباراتها ولغتها، صحيح انها كانت أقوى في أوساط الأثرياء لكنها كانت موجودة. الفتيات ايضاً يروشِّن، ويتصرفن من منطلق ان لا فارق بين الفتى والفتاة". واذا كانت الفتيات ينافسن في إثبات وجودهن في عالم الروشنة، فإن كلا الجنسين يتنافسن في البدع المروشنة، والتي تطل علينا يومياً وأحدث التقاليع "الحفلة البيئة" أو "بيئة بارتي". وكلمة "بيئة" من الكلمات المنتشرة بين الشباب ومعناها "دون المستوى"!! المهم في هذه الحفلة البيئة، وهي غالباً ما تكون على أسطح أحد المنازل القديمة، وتكون فيها الأطعمة رخيصة وشعبية، والملابس قديمة ورثة ويبدو الشباب الأثرياء وكأنهم فقراء... فالفقر أصبح روشنة أيضاً. وحجة الشباب في ذلك أنهم سئموا الحفلات الباذخة والصاخبة الحافلة بأفخر أنواع الطعام ولهذا قرروا أن ينعموا بالتغيير، وأنهم أحرار في ما يفعلون، طالما أنهم لا يؤذون أحداً. ويطرح ذلك التبرير سؤالاً مهماً، هل بات الشباب تواقون الى كسر القيود بأي طريقة لنيل الحرية المفقودة؟ والإجابة هي "نعم" هذا ما يؤكده استاذ التربية الدكتور محمد سليم الذي يقول: "يمل المراهق من سلطة الاسرة، ويبحث عن وسائل تخلصه منها. فالمراهقة بداية سن الاستقلال، فتزيد الرغبة في اثبات الذات، والبحث عن معنى وهدف للحياة بعيداً من السلطة الأسرية، ونحن لا نحاول أن نجعل من تلك السلطة وسيلة اتصال بيننا وبين ابنائنا، ولكننا نتخذها وسيلة من وسائل القهر والكبت وفرض الرأي من دون مناقشة. والروشنة ما هي إلا حال اغتراب عن الواقع المحيط بالشباب. وتزيد حال الاغتراب إذا كان هناك تناقض بين الواقع الملموس وبين ما يشاهدونه على الشاشة الساحرة "التلفزيون" الذي بات مرآة لكل بلاد العالم". ياسمين 16 سنة طالبة في مدرسة أجنبية خاصة تتساءل: لماذا تتعجبون من أسلوبنا في الحياة، نحن نعيش حياتنا يوماً بيوم. لماذا نفكر في المشاكل؟ المشكلة الوحيدة لدينا هي وقت الفراغ، ولهذا نبحث عن أي شيء "نروشن" به وقتنا، وفي الحقيقة انا اتمتع بوجودي بين اصدقائي أكثر من الوقت الذي أمضيه مع أسرتي!! كلام وحديث الكبار كله أوامر ونواه ونصائح، وكأنهم ملائكة لا يخطئون! وخلاص اتعودت إن أي أحد يكلمني من الكبار بالاسلوب ده "احلق له". وهي تبادر بتفسير عبارة "أحلق له" وتقول: تعني اسمع ولا اناقش، واتظاهر بأنني أوافقه في الرأي، حتى لا يطول الجدل والنقاش بيننا، ولماذا اضيع وقتي في مناقشة لن تجدي؟ شريف يوسف 24 سنة يقول: "الروشنة دي إن الواحد يعمل عملاً غير مألوف، ملابس وتصرفات، لا سيما إذا كان الشخص سعيداً. فنجتمع في سيارة واحد منا، ونشغل جهاز التسجيل بصوت عال، ونخرج في نزهة بعيداً من الاهل. والروشنة تختلف من طبقة الى اخرى، كل طبقة في المجتمع لها أسلوب والحقيقة أنا في رأيي إن المرحلة العمرية اللي بيمر فيها الانسان تحدد اسلوب استمتاعه بالحياة. ففي سن المراهقة كان تفكيري مختلفاً تماماً اهتمامي كان في الملابس، والخروج والسينما وكل شيء جديد، ومراهقو اليوم يعانون فراغاً قاتلاً". أحمد مبارك يعمل معد برامج 24 سنة يقول: "الروشنة هي التمرد على الواقع. فالشباب ضائع، لا سيما الطبقة المتوسطة الحائرة بين الطبقتين الدنيا والعليا. الروشنة، منتشرة بين ابناء الطبقة العليا الذين يشعرون أن كل شيء متاح لهم بسهولة، وبين ابناء الطبقة الدنيا التي تسعى الى تقليد الطبقة العليا، وتتطلع دائماً الى سلوكيات تلك الطبقة وتحاول تقليدها من دون وعي أو تفكير". ويستطرد: "المظاهر والمادة تطغى على المجتمع، ولهذا ظهرت الروشنة التي يعتبرها البعض مظهراً من مظاهر الحياة لدى علية القوم. لكنها في رأيي نابعة من الابتعاد عن الدين، والطريق الذي يجب على الانسان ان يلتزم به، فالرجولة معناها لدى الشباب الروشنة ان يكون له أكثر من صديقة او ان يطيل شعره مثل الفنان الفلاني، او يرتدي ملابس غريبة او يتحدث بأسلوب فج، هذه هي الرجولة". وليد اسماعيل 27 سنة يقول: "أعمل منذ سنوات، وتزوجت قبل شهرين، لكني شاب روش والروشنة موضة هي كلمة على لسان الكل، مثلها مثل الوجبات السريعة وملابس الجينز، لأن كل جيل يحاول ان يرسم لنفسه صورة مميزة وصورتنا هي الروشنة. صحيح اننا نسمع عن شباب يتعدون حدودهم في إمتاع انفسهم بالمخدرات والسهر والخمور، لكن هذه ليست القاعدة". سهى طالبة في إحدى كليات القمة - كما يطلقون عليها - "تقول: "كلمة روشنة اصبحت عادية، صحيح أنني لم أفكر في معناها من قبل، لكن اعتقد أنها تعني التمرد على كل القيود وعلى أي رقابة. وفي مجتمعنا نضع الفتيات والشباب في قوالب. فالفتاة المحترمة لا تخرج بعد التاسعة ليلاً، لماذا؟ ما دخل الاحترام في السهر وما علاقة احترام الفتاة بالخروج مع أصحابها". استاذ علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية الدكتور احمد المجدوب يقول قبل أن نتحدث عن ظاهرة الروشنة علينا ان نعرف أصل الكلمة. فالروشنة ارتبطت بكلمة "فلان مرووش" أي انه يقترب من البلاهة. وعدم القدرة على التفكير الدقيق، ولذلك ارتبط هذا التعبير بمدمني المخدرات، فيقولون مثلاً عن المتعاطي انه اصبح "متروشن" اي أنه صار فاقداً لأهليته. ويضيف: "التعبير الذي يستخدمه الشباب، وأعتقد أن معظمهم في سن المراهقة فهو تعبير عن رفض القيود المفروضة عليهم من جانب الاسرة، ورغبة في اثبات الذات ولفت الانظار، لا سيما أنهم لا يجدون عملاً آخر يقومون به. الشباب في الخارج يتركون بيوت اسرهم في السادسة عشرة من عمرهم ولكنهم يبدأون حياتهم، ويعملون، ويعتمدون على أنفسهم اما عندنا فهذا لا يحدث ولهذا يلجأ الشباب للروشنة، إضافة الى ان هناك فجوة كبيرة بين ما يقدم في الاعلام من نماذج للاقتداء بها، فالقدوة حالياً هي لاعب الكرة، والمغني، أولئك وحدهم يقودون أفخر السيارات ويرتدون أفخر الثياب ولكن هل القدوة عالم أو باحث أو طبيب لا!! وتلك مشكلة". ويؤكد المجدوب "ان الشباب مظلوم، ومجني عليه، ونحن الجناة، فأولئك زرعتنا التي زرعناها، وعلينا أن نتقبل مرارتها، وعدم نضجها". استشاري الأمراض النفسية الدكتور هاني السبكي يقول: الروشنة هي صورة التمرد لدى الشباب، تتضح معالمها في فترة المراهقة، وتزداد حدتها كلما شعر الابناء بالانفصال عن أسرهم، وعدم وجود صلة تفاهم بينهم وبين الآباء وتلك هي المشكلة. لقد لخص المثل المصري العلاقة بين الآباء والابناء في عبارة بليغة تقول: "إن كبر ابنك خاويه" والمؤاخاة معناها الصداقة والصبر والاهتمام والرعاية والحب. واعتقد أن الجيل الحالي يفتقد كل هذا، فهو جيل منعزل يصنع خبراته وتجاربه بنفسه من دون مشاركة، وكثيرة هي الحالات التي تأتي الي طالبة المساعدة في حل مشكلات العلاقة بين الآباء والابناء. ببساطة أولادنا بحاجة لمن يهتم بهم، لا من يحدثهم بالاسلوب نفسه في كل مرة يتحدث فيها معهم، ويسخر منهم ومن أحلامهم". ويؤكد السبكي ان لا مانع في ان يبحث الابناء عن المتعة المشروعة والمحددة بقيمنا الدينية والاجتماعية، لكن كل الخوف ان تصبح تلك الروشنة عادة تلتصق بالسلوك ولهذا يجب أن نعلم ابناءنا كيفية الاستفادة من اوقات الفراغ. وهذا يحتاج الى الكثير من القيم أهمها احترام الذات والآخرين وان نتقبل حقيقة مهمة، وهي أنه بحكم العصر والتكنولوجيا يدرك الابناء قيماً لا نعرفها. "بيئة بارتي" على أحد سطوح مصر القديمة قررت "الحياة" أن تقتحم هذا العالم الغريب، وتدخل "تلك الحفلة البيئية" كما يسموها أولئك الشباب "بيئة بارتي"، بعد أن سمعنا منهم، قررنا أن نرى بأعيننا ما حكوه لنا. المكان في عمارة سكنية في أحد الشوارع الشعبية المتفرعة من ميدان الجيزة، صعدنا الدرج الى السطح حيث تقام الحفلة، واستقبلنا الشاب الذي دعانا، وتأكد أننا لا نحمل أي كاميرا للتصوير، وقال: لسنا خائفين، لكن البعض يحب أن يفسر كل شيء كما يحلو له، وقد يقال إننا فرع من "عبدة الشيطان" ولسنا كذلك، نحن شباب يحاول البحث عن اشياء جديدة وممتعة، ولا نضر أحداً، ونعيش الحياة بأسلوبنا الخاص. الحفلة كلها شباب من الجنسين ومن كل الأعمار، تظهر سحابة دخان تخيم على المكان، ولا صوت يعلو على صوت آلة التسجيل التي تنبعث منها موسيقى وغناءً شعبياً كلماته لا معنى لها ولا علاقة بينها. والجميع تظهر عليه علامات الفرح واللامبالاة. الجميع يرتدي ملابس مهلهلة قديمة، وأغلب الموجودين يدخن، فتيات وشباب، والفارق الوحيد هو أن هذه السيجارة قد تكون سيجارة بانجو. حقيبة ملابس اقتربنا من احدى الفتيات، عمرها لا يزيد على 23 سنة جميلة الملامح جذابة، لها الكثير من الاصدقاء في المكان، تصلح أن تكون قائدة، كانت ترتدي فستاناً بسيطاً كما لو كان لإحدى الخادمات، وتركت لشعرها العنان، لم تضع أي مساحيق على وجهها، وكانت ترتدي حذاء "كاوتشوك"، هي حاصلة على ليسانس آداب، قسم اللغة الانكليزية، ولكنها لا ترغب في العمل، لأنها ليست في حاجة الى المال. والدها يعمل في التجارة والأعمال الحرة، انفصل عن والدتها مذ كان عمرها 7 سنوات، اعتادت أن تنتقل بين منزل ابيها وأمها التي تزوجت بآخر، والدها ايضاً تزوج واستقل في شقة أخرى مع زوجته وتركها تعيش مع مربيتها منعاً للمشكلات، وحاول تعويضها بالمال، وهو لا يرفض أياً من طلباتها. تعرفت في النادي الى أولئك الاصدقاء، "كلهم دماغ كبيرة" و"مكبرو الجمجمة" أي لا يعيرون بالاً للمشكلات، "كل يوم نفكر حنعمل إيه"، وتقول عن الحفلة إنها محاولة للخروج عن اطار الرسميات، وإن الملابس الجميلة كثيراً ما تخفي اشخاصاً لا ضمير لهم. أثناء حديثنا مع هذه الشابة علت أصوات ضحكات في زاوية أخرى من المكان وجدنا أن بقية "الشلة" وقد اخذوا يصفقون لأحد زملائهم وهو يرقص بلدي مثل "أولاد البلد"، وبعد وقت قليل فتح بوفيه الطعام وأبرز محتوياته أصناف الكشري الشعبية، راح أحدهم ويرتدي تي شيرت بهتت ألوانها، وسروال جينز فيه رقعة كبيرة، يلتهم طبق الكشري، ولكن حين تنظر إليه، تشعر انه غريب عن المكان، فعمره 19 عاماً، وهو وسيم الملامح مهندم الشعر، يتحدث بهدوء يقارب الحزن. قال: "لا أريد أن اتكلم مع أحد لست حالاً للدراسة أنا إنسان طبيعي لدي مشكلات لكني لست معقداً". ويبدو أن غالبية المشاركين في "بيئة بارتي" يحوطهم الفراغ ويغلفهم الاهمال، كأنهم يعيشون في سجون باردة لا يحتل فيها الحب أي مساحة، كلهم شباب يبحث عن ذاته وعمن يهتم به ويستمع له. ولكن من هو صاحب هذا المكان؟ وكيف تعرّف الى أولئك الشباب؟ يقول شاب اسمه محمد: أعيش في غرفة على هذا السطح، ومن حقي الانتفاع بالسطح بالتبعية، وأنا الفقير الوحيد من الموجودين، أتعرف إلى اصدقائي الاغنياء في الجامعة، أرحب بأي شخص يزورني في البيت، وفي يوم تساءلت إحدى الصديقات أين نذهب الليلة، فدعوتهم لزيارتي هنا فجاؤوا واشترينا الفول والفلافل واستمعنا الى الموسيقى، وكانت جلسة جميلة، سرعان ما تحولت الى عادة.