جاء الفرج للإخوان من أخيهم رجب طيب أردوغان، لم يهتبلوا الفرصة، وإنما «ثبتوا» على موقفهم القديم على رغم أن الجمهور كان مستعداً، فالرجل بطل شعبي في مصر، ناجح في بلاده وزعيم إسلامي محل للثقة، فلماذا أصروا على مواقفهم التقليدية التي ستضيّق عليهم اختياراتهم وهم مقبلون على أكبر تحدٍّ يواجههم منذ تأسيس جماعتهم? من الواضح أن قادتهم ما زالوا يعيشون في العهد القديم، ولم يكملوا عملية التحول للتوافق مع الزمن الجديد؟ الحديث هنا عن تصريح أردوغان الشهير لمنى الشاذلي في برنامجها التلفزيوني «العاشرة مساء»: «الدولة يمكن أن تكون علمانية، ولكن ليس بالضرورة أن يكون قادتها علمانيين» أو شيءٌ حول ذلك، إذ قيل إن المترجم لم يكن دقيقاً، لكن المؤكد أن أردوغان كرر التفريق بين علمانية الدولة والفرد، وهو يخاطب جمهوراً مماثلاً في تونس وطرابلس، ما يعني أنه مقتنع بما قال، ومصر عليه، ومدرك بأن هذه المسألة مطروحة بقوة في بلاد الربيع العربي، بل إنه سعيد بهذا المفهوم الذي أعفاه وهو «ولي الأمر» في تركيا من أن يحكم في الناس بمقتضى الشريعة، فعذره معه وهو «أن الدولة علمانية» بينما للأفراد الحرية في اختيار حرامهم وحلالهم. الإخوان رفضوا هذا التصريح بحدة وبسرعة قبل أن يبادرهم «علماني» مثل يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء السابق ليقول لهم «أهو أردوغان بتاعكم يقول بالدولة المدنية، بل ذهب أكثر من ذلك إلى تفضيله علمانية الدولة». كان في تصريح أردوغان فرج للإخوان، وهم مقبلون على الحكم أصالة أو شراكة في مصر المستقبل، وهي حالة من الواضح أنهم لم يستوعبوها أو يستعدوا لها طوال تاريخهم الذي سيكمل المئة عام بعد سنوات قليلة، حتى في زمن عزهم أواخر الأربعينات، لم يكونوا قريبين من الحكم مثلما هم اليوم. من ينتقد الإخوان يصفهم بأنهم «طلاب حكم»، ولكن من يتتبع تاريخهم سيلحظ أنهم كانوا دوماً يفضلون أن يتصدى غيرهم للحكم، فيكتفون بموقع النصير والمؤيد. تمنى مؤسسهم حسن البنا، أن يكون الملك فاروق ذلك الرجل، وتحالفوا في بداية ثورة يوليو مع عبدالناصر والضباط الأحرار حتى اعتقد العامة أنها ثورة الإخوان. سأتطرف وأقول إنهم في الحقيقة يخشون الحكم وتولي المسؤولية المباشرة لوجلهم من تبعات الحكم. فشلهم سيكون فشلاً للمشروع الإسلامي الذي طالما دعوا إليه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنهم يخشون أن يعجزوا عن إقامة الدولة الإسلامية بحلالها وحرامها وحدودها وشرعها, ومعهم حق في ذلك عندما تكون الدولة دينية، لكن أردوغان أعطاهم الحل، وهو من هو كزعيم ناجح يفوز في كل انتخابات يخوضها، في حالة لم يسبق لتركيا أن شهدت مثلها منذ تأسست كجمهورية حديثة، يصوت له المؤمن المتدين لدينه، وغير المتدين لنجاحه في توفير حياة أفضل له. هرب أردوغان المتدين إلى الحل الذي قاله لمنى الشاذلي: «إن الدولة علمانية ولكنني أنا غير علماني». الفارق بينه وبين أقرانه من قادة الإخوان، أنه عاش كل المراحل، الشاب الإسلامي الثوري الحالم بكل شيء، الخطيب في المساجد، دخل السجن، تدرج في أحزاب ملهمه ومعلمه نجم الدين أربكان، عاش الانتصارات ورأى الهزائم والطعن في الظهر. أزعم أن التحول المهم الذي حصل له كان أثناء سنوات رئاسته بلدية إسطنبول، هناك كان عليه أن يتعامل مع الواقع، مع حقيقة الحكم، بقوانينه العلمانية التي تسمح حتى بالحرام، تعلم كيف يستخدم القانون العلماني لتطبيق أكبر قدر من القانون الإلهي، إنه يعرف الشريعة وأحكامها فهو خريج مدرسة الأئمة والخطباء، بل كان يوماً إمام مسجد، تعامل مع كل سكان المدينة، المتدين وغير المتدين، الفساد، الرشوة، المافيا، البنوك، وأصحاب المال والنفوذ، الجيش والأتاتوركية المتطرفة. في بلدية إسطنبول تعرف حتى على العالم الخارجي، على أوروبا وسياستها ورجالها، عرف أنها ليست شراً مطلقاً، ونجح في إسطنبول، لكن نجاحه الأكبر أنه قاد التحول بين شباب الحركة الإسلامية التركية على رغم هيمنة الخوجة أربكان وشخصيته الطاغية وفضله عليهم الذي لا ينكرونه. رأيت مرة أردوغان يقبل يد الخوجة باحترام شديد في إستاد رياضي وسط حشد هائل من أنصار حزب الرفاه بعد انتصاره في الانتخابات أوائل التسعينات، فأدركت بعدها كم كان صعباً عليه أن يقود ثورته الداخلية على شيخه ومعلمه، والتي أنقذ بها الحركة الإسلامية التركية. هذا التحول الذي يحتاجه قادة الإخوان. لنتخيل السيناريو التالي، تجرى الانتخابات في مصر نهاية العام الحالي، يفوز حزبهم «الحرية والعدالة» بحصة طيبة من الأصوات تجعلهم شركاء في أية حكومة ويكون من نصيبهم وزارة السياحة، ذلك أن وفدياً خبيثاً يصر أن يتسلموها، فما ستكون أولويات وزير السياحة الإخواني؟ إضافة مزيد من الملابس على جسد سائحة بريطانية على شواطئ شرم الشيخ، أم مزيد من الوظائف للشباب المصري العاطل؟ منطق أردوغان يقول إنها الوظائف، فبتوفيرها سيفوز الإخوان ووزيرهم في الانتخابات مرة أخرى، أما لو كان الأمر غير ذلك وخسر بضعة آلاف من المصريين وظائفهم في قطاع السياحة، فهؤلاء ومعهم الأحزاب المنافسة للإخوان سيتذكرون ذلك أكثر من منظر بريطانية محتشمة على رمال شرم الشيخ. إنه اختيار صعب على إخواني متدين، نشأ مطالباً بإقامة دولة الإسلام «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم لكم في أرضكم». رأى الإسلام وأحكامه مستهدفة دوماً، من الغرب بل حتى من أهله المتغربين، قرأ في سنوات تكوينه عن خطط الغرب في تدمير الإسلام بيد أبنائه، وسمع من شيوخه عن اجتماع فايد الذي قيل أن سفراء أوروبيين اجتمعوا لتدبير خطة للقضاء على الإخوان عام 1948. يؤمن أن سياسة المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر للحرب على الإسلام في مصر مستمرة. في منتصف عمره انشغل بمواجهة الشيوعية والإلحاد وجرأتهم على الدين، أصبح بعدها مطارداً معتقلاً، نشأت من حوله ثقافة وفقه وفكر تشكلت في المعتقلات وتحت التعذيب، خرج من السجن خصماً لحكم لا يريده، وطبقة سياسية تكيد له في رزقه ومعاشه، ثم فجأة وجد نفسه حراً، بل كل من حوله حر مثله، بنصر لم يصنعه، وبشروط لم يضعها. مشكلته أن الديموقراطية تلزمه بالحكم إذا فاز بلعبتها، فماذا هو فاعل؟ لقد قدم له أخوه التركي الحل، لكنه لم يستوعبه، ربما يفعل بعد أن يمر بما مر عليه ذلك التركي المنتشي بنجاحاته وانتصاراته، إنه يملك النظرية ولكن لا يملك التجربة. لكنها ستأتي، بالتأكيد ستأتي. * كاتب سعودي. [email protected]