المقدمة التقليدية لمقال عن تركيا هي إطراء التعددية في المجتمع التركي، وصورة السافرة في جينز برفقة المحجبة بمنديلها الأنيق، ولكن هذا خبر قديم عندما كان الإسلام يعترك مع الحداثة ليستعيد مكانه أو بعضه في المجتمع الحديث. الآن زمن انتصار الإسلام المعتدل والديموقراطية، وكل ذلك رأيته قبل أيام في إسطنبول. دعيت لحضور حوار حول الطاقة وتأثير سعر برميل النفط. ماذا لو ارتفع برميل نفط جنوناً إلى 200 دولار أو انحدر إلى 30 دولاراً؟ ومن حق تركيا أن تناقش أمراً كهذا، فاقتصادها الأسرع نمواً في أوروبا يعتمد تماماً على نفط جيرانها، والذي ينتقل أيضاً عبر أرضها وبحرها إلى بقية أوروبا. ولكني انتهيت بعده إلى مؤتمر آخر موضوعه «التحول من الديكتاتورية إلى الديموقراطية في العالم العربي»، وفيه تجلت تباشير صعود الإسلام والديموقراطية. المؤتمر نظّم برعاية مكتب رئيس الوزراء للأبحاث ومركز الوليد بن طلال للحوار بين الإسلام والمسيحية مع حضور كبير لممثلين عن الاتحاد الأوروبي. الملاحظة الأهم أن القوى الممثلة للعالم العربي كانت الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة» التونسية وعبدالمنعم أبو الفتوح مرشح «الإخوان» (غير الرسمي) لرئاسة مصر، واقرأ ما شئت بين سطور الأسماء السابقة فنحن في زمن التحولات. «الزعيمان» كانا يتمتعان بحراسة رسمية واهتمام شديد، ولا بد أنهما حظيا بلقاء ولو سريعاً برئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، ربما خلال تقديم العزاء بوالدته التي توفيت الأسبوع الماضي. على هامش المؤتمر سمعت عن الخبرات التي تقدمها أنقرة للقوة الإسلامية الصاعدة كالتدريب على الحملات الانتخابية وإجراء استبيانات الرأي. هل ثمة مال يجري؟ لا أدري ولكن «المسلمين إخوة» فلا يستبعد شيء وتركيا باتت غنية وقادرة. كل ما سبق مجرد «بروفة» للعالم العربي الجديد وتركيا الجديدة في تعاملها مع الشرق الأوسط. الباحث الروسي في شؤون النفط الكسندر داينكن والذي كان شريكي في استقراء حال العالم عندما يصعد برميل النفط إلى 200 دولار أو ينهار إلى 30 دولاراً قال لي «من الواضح أن الحكومة التركية اختارت أن تكون الرقم 1 في الشرق الأوسط على أن تكون الرقم الأخير في أوروبا». لا أعرف إذا كان الأتراك يوافقونه في ذلك، ولكن الرأي العام التركي غير منزعج من اهتمام حكومته بالعالم العربي على غير العادة، الإسلامي منهم سيرى في ذلك واجباً، بينما يرى غيره «الدولارات الحلال» كما يسميها معلق تركي ساخر. الكاتب التركي الشهير محمد علي بيرندي يرى أن تركيا استفادت أكثر وهي تتصرف ك «ولد شقي» يعاند أميركا، ويحقر إسرائيل ويتدخل في كل مكان، أكثر مما استفادت من الزمن الماضي عندما كانت «ولداً لطيفاً» يسمع كلام أميركا ويحارب مع «الناتو» بحماسة من دون أن يطرح أي سؤال. إنه خليط بين الفخر والاعتداد بالنفس، فالأتراك الذين صدمهم التحول من قوة عظمى إلى مجرد دولة متوسطة يحتاجون هذه المشاعر، ولكن الأهم منها هو قصة النجاح المتمثلة في أرقام الاقتصاد التي يستعرضها عليهم اردوغان بين حين وآخر ويشعرون بها مباشرة في اقتصادهم. أعرف تركيا جيداً، وتابعت التحولات الكبيرة فيها منذ التسعينات عندما أخذ نجم الإسلاميين يسطع فيها وتحديداً حزب «الرفاه» وزعيمه الراحل أربكان. شباب طموح من حوله أبرزهم رجب طيب اردوغان وعبدالله غل اللذان اقتسما اليوم قيادة البلاد. كنت كثير التردد على تركيا. كانت قوية بالمقارنة مع غيرها من دول الشرق الأوسط ولكنها لم تكن بمثل قوتها اليوم. كنت أركز وقتها على التحولات داخل تركيا، والتي كانت تصطدم بمعارضة علمانية شرسة مدعومة من الجيش. مرات قليلة ظهرت تركيا التاريخية المهتمة بعالمنا، والتي يحلو تسميتها بالعثمانية. كتبت تقريراً نشر في «الحياة» عن مؤتمر إسلامي رعاه أربكان تمثلت فيه مختلف الدول العربية والإسلامية، بالطبع كان اغلبهم من زعماء وأبناء الحركات الإسلامية. عنونته «مجلس المبعوثين ينعقد مجدداً في اسطنبول». لم يعجب ذلك الشيوخ العرب حول أربكان. كانوا يريدون إدارة أمورهم بالكتمان. أي كتمان؟ انتهى أربكان وحزبه بشبه انقلاب بعد سنوات قليلة. اليوم يتحرك وريثه اردوغان بل يستعرض اهتمامه بالإسلاميين في العالم العربي أمام كاميرات التلفزيون، فحرص أن يخصهم بلقاء وهو يزور مصر وتونس، أما في ليبيا فهم في كل مكان فلم يخص أحداً بزيارة. اهتمام اردوغان الملحوظ والمثير للجدل بالعالم الإسلامي طبيعي لشاب نشأ في الحركة الإسلامية، وإن خرج «الباشبكان» عن دائرة الحركة لطمأنة القوى العلمانية التركية، ولكنه بعدما استقر له الوضع وأصبح الزعيم الأقوى والأطول أمدا منذ تأسيس الجمهورية وبات كتاب الأعمدة يسمونه – بلؤم - «السلطان»، حنّ إليها والى خطابها بفضل التحولات في العالم العربي وعودته هذه مبررة. في سنوات ما قبل «الربيع العربي» كان يتعامل مع الواقع حتى لو كان ذلك الواقع لشخص يحتقره مثل معمر القذافي، وآخرين كان مستعداً أن يتعامل معهم لمصلحة تركيا و «دولاراتهم الحلال» مثل نجاد ومبارك وبشار، وبالطبع المملكة ودول الخليج التي لم تتغير علاقته بها قبل وبعد «ربيع العرب». من الواضح أن ثمة علاقات جديدة ستتشكل في المنطقة بين تركيا والقوة الإسلامية الصاعدة فيها، وسيتمتع اردوغان بموقع قيادي في هذه العلاقة. لن يقبل القوى الإسلامية كما هي بل بات ينصحها ويوجهها. آخرها كانت نصيحته الشهيرة ل «إخوان» مصر أن: اقبلوا العلمانية ولا تكونوا علمانيين. ربما يستدعي بعضاً من تجربته مع معلمه الراحل اربكان فمعظم قادة الحركات الإسلامية لا يزالون «اربكانيين». المؤتمر الذي أشرت إليه في بداية المقال لن يكون الأخير بل أوكل اردوغان لمستشاره إبراهيم كلين الاستمرار في التواصل مع القوى الإسلامية في المنطقة لترتيب أوضاعها ونقل تجربة حزبه الناجحة إليها. الدور المقبل لأردوغان هو الحرب على «الفكر المتطرف» المولد للإرهاب المنسوب للإسلام كما يؤكد صحافي رافقه في رحلته الأخيرة لجنوب إفريقيا، فلقد عبر عن استيائه الشديد من العملية الإرهابية التي نفذتها حركة «الشباب» الإسلامية، والتي كان من ضحاياها طلبة صوماليون كانوا يمتحنون للحصول على منح دراسية لتركيا. الملاحظ كما نقل الصحافي سميح ايدز أن اردوغان صب جام غضبه ليس على حركة «الشباب» وإنما على الصامتين عن إدانة الإرهاب «إذا كنت تقول إن الإرهاب ليس من الإسلام، فعليك إذاً أن تعلن ذلك علانية في كل مكان في العالم ومن غير المقبول من رجال الدين التحدث عن هذا الموضوع (الإرهاب) على فترات متباعدة». إنه يريد دفع العلماء إلى فعل المزيد وبالتالي وجّه إدارة الأديان في الحكومة للإعداد لمؤتمر يبحث الموضوع. من الواضح أن روحاً جديدة تلبست الرجل أو استعاد روحاً سابقة، إذ يسترسل قائلاً: «أعلم أن هناك دوائر معينة ستضيق من هذه التصريحات، ولكن من لا يملك الشجاعة أن يتقدم فلا يتحدث باسم الإسلام». ولم يذكر الصحافي من كان اردوغان يقصد بتصريحه هذا. التحول الثالث لأردوغان هو نحو مصر، فكما يقول أحدهم «إنها حبه الجديد.. ربما سورية ستأتي بعدها»، فهناك معلومات أنه وجه بجعلها وتحديداً الأزهر قبلة الطلبة الأتراك من خريجي المعاهد الدينية، مع اهتمام ملحوظ من لدنه بالأزهر والذي حرص على زيارته في رحلته الأخيرة لمصر. إذاً، الصورة الأخيرة التي ننتظرها هي اردوغان يخطب من على منبر الأزهر. بالطبع لن يحصل ذلك قبل ظهور نتائج الانتخابات المصرية في نيسان (أبريل) المقبل.