في المفاوضات الأمنية الاستراتيجية يجب الحذر من خداع المصطلحات. ان امتلاك قدرة هجومية فاعلة هو اقصر طريق الى الردع اي الى منع اي عدوان. انه، في العمق، موقف دفاعي. وفي المقابل، ان امتلاك قدرة دفاعية فاعلة يزيل الخوف من اي اعتداء، ويعطل القدرة الرادعة للطرف المقابل، ويشجع على المبادأة في توجيه ضربة اولى طالما لا خوف من رد فعل. انه، في العمق، موقف هجومي. لقد كان هذا هو منطق الهندسة الأمنية التي حكمت العالم بعد الحرب العالمية الثانية ووفرت لأوروبا اطول فترة سلام في تاريخها الدموي المديد. ان الخوف من التدمير الشامل والمتبادل بين المعسكرين هو الذي جعل الحرب "باردة". ومن هنا "غرابة" الاتفاق الموقع بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في 1972. فهو يمنع الدولتين من بناء ترسانة صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية، ويجعل كلاً منهما في خطر الابادة، ويحرمهما حق الدفاع المشروع عن النفس، ويؤدي، تبعاً لذلك، الى تقييد صارم لاحتمال الضربة الأولى. وبما انه لا حرب من دون ضربة اولى فلا حرب على الاطلاق. حاول رونالد ريغان، في الثمانينات، الخروج من هذه الهندسة الأمنية عبر مشروعه المعروف ب"حرب النجوم". وكان القصد بناء درع فضائي يحمي اميركا من هجوم سوفياتي محتمل. او، على الأقل، كانت هذه هي الذريعة. ولذلك لم يكن غريباً ان يجد الكثيرون في هذا البرنامج تحريراً للولايات المتحدة من خطر الرد السوفياتي فيصبح بامكانها توجيه الضربة الأولى و... الاخيرة. سقط المشروع لأسباب كثيرة وبدا ان السجال حوله انتهى مع سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه. انتهت "الحرب الباردة" ووجدت واشنطن نفسها محرومة من "عدو". ولكن، منذ ذلك الوقت وتعبير "الدول المارقة" يشق طريقه ومعه التحذير من "اسلحة الدمار الشامل"، وتكنولوجيا الصواريخ الباليستية، الخ... وهكذا وجدت ادارة بيل كلينتون نفسها متحمسة لصيغة متواضعة من "حرب النجوم". متواضعة الانتشار الأرض والبحر من دون الفضاء، ومتواضعة الاهداف ضد اسلحة محتملة تملكها "الدول المارقة". وانتهت ولايتا كلينتون من دون اطلاق البرنامج نظراً الى ان التجارب الاخيرة على الصواريخ فشلت وأكدت ان هوة تكنولوجية عميقة تفصل بين مستوى التطور العلمي الراهن وبين هذا "الطموح". ثم جاء جورج بوش ليعلن خطة اكثر اتساعاً من فكرة سلفه استعادة الفضاء جزئياً، وتوسيع المعنيين بالدفاع الى الحلفاء والاصدقاء، وليزركشها بادعاء انه سيحاور الآخرين في شأنها. ان وضع الجوانب التكنولوجية والمالية جانباً يقود الى التركيز على الآثار المحتملة لوضع خطة بوش موضع التطبيق. فهي ستقود الى تجديد سباق تسلح على صعيد عالمي بعد التحرر من اتفاق 1972، وخلافاً للزعم بأنها تريد اخذ انتهاء "الحرب الباردة" في الاعتبار. غير ان الأهم من ذلك هو ان القواعد التي حكمت المرحلة السابقة لن تتغير. فما يسمى "نظام الدفاع الصاروخي" هو، في الحقيقة، نظام تحرير القوة الاميركية من اي وازع واعطاء واشنطن حق التوسع في تفسير مصالحها الوطنية التي تقتضي تدخلاً مسلحاً.