إذا كان المقرّر الخاص في الأممالمتحدة حول التعذيب خوان مندير صرّح منذ أيام قليلة، أنّ الاكتظاظ في السجون يشبه نوعاً من سوء المعاملة وحتّى التعذيب، فلبنان هو حتماً من الدول التي تنطبق عليها هذه المقولة. والأرقام هي أكبر دليل على ذلك، ففي سجون تصل قدرتها الاستيعابية إلى 2800 سجين فقط، هناك 5343 سجيناً يعيشون حالة رديئة من الازدحام والاكتظاظ وفق المعطيات المتوافرة من قبل وزارة العدل في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، ما يعني أنّ الرقم ارتفع بالتأكيد والأزمة قد زادت حدّة من دون تسجيل أي مبادرة تهدف إلى حلّ هذه المشكلة التي تخطّت الخطوط الحمر كلّها. وعلى رغم أهمية الأرقام، فهي لا تعكس حقيقة الصورة من داخل السجون، حيث يعيش ثمانية أو عشرة مساجين أحياناً في زنزانة كانت معدّة في البداية لشخص واحد وينامون على فرش صغيرة متلاصقة فيما يتشاركون بحمّام صغير تنبعث منه الروائح الكريهة، ولا يمتنعون أبداً عن التدخين ما يجعل الأجواء موبوءة بامتياز. وإذا كان الوضع مزرياً جداً في سجن رومية المركزي، فهو يسوء أكثر في السجون الأخرى، مثل سجن بربر الخازن للنساء حيث تُحبَس السجينات في زنزانات صغيرة ومظلمة لا تدخلها أشعّة الشمس، من دون أي فرز للجرائم المتنوّعة. والمشهد الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان هو ما يحدث في سجن الأمن العام الموجود تحت جسر العدلية في العاصمة بيروت، حيث توجد أقفاص حديدية «يُحشَر» فيها مئات الموقوفين من جنسيات أجنبية، على رغم أنّها لا تسع إلا للعشرات فقط. والأمر ذاته يتكرّر سواء في سجون البقاع أو الجنوب أو في سجن طرابلس. مخطّطات مع وقف التنفيذ يتّفق المسؤولون السياسيون في لبنان على خطورة الوضع في السجون اللبنانية من ناحية الاكتظاظ والازدحام، لكن من دون أن يؤدي هذا التوافق إلى تسجيل تقدّم لافت على صعيد معالجة المسألة. فوزير العدل في حكومة تصريف الأعمال شكيب قرطباوي أكّد تخطّي السجون الخطوطَ الحمر بالنسبة إلى سعتها من المساجين، ودعا إلى دراسة موضوع التوقيف الاحتياطي والنظر في إمكان تعديل السياسة الجنائية المتّبعة على مستوى النيابات العامة وقضاة التحقيق. كذلك سبق للنائب غسّان مخيبر من تكتّل التغيير والإصلاح أن قدّم توصياته لإصلاح السجون في لبنان، إلى لجنة حقوق الإنسان النيابية. إلا أنّ النتيجة حتّى الآن هي الالتزام بوضعية الانتظار ريثما يتأمّن التمويل لبناء ثلاثة سجون جديدة وتأهيل سجن رومية المركزي، علماً أنّ مجلس الوزراء كان أقرّ مخطّط السجون في 25 تموز (يوليو) 2012 بقيمة 250 مليون دولار. وهنا تبرز قضية أخرى لا تزال في يدي المدّعي العام المالي وترتبط بصرف الحكومة مبلغ 13 مليون دولار لترميم المبنى «د» في سجن رومية المركزي بهدف نقل عدد من السجناء إليه للتخفيف من الاكتظاظ، لكنّ الأموال هدرت بمعظمها ولم تنفّذ البنود المتفّق عليها في دفتر الشروط بين الحكومة والشركة المتعهّدة لأعمال التأهيل. اقتراحات ضرورية كلّ هذه المشاكل والهموم التي تحاول الحكومات المتتالية التملّص منها خلال السنوات الأخيرة تتحمّلها يومياً الجمعيات الأهلية والمنظّمات المدنية العاملة في السجن المركزي والسجون الأخرى، وفي مقدمها «جمعية عدل ورحمة» التي تعمل عن قرب مع السجناء وتحاول تأمين التأهيل المهني والصحّي والاجتماعي لهم. وفي لقاء مع صحيفة «الحياة» شرح رئيس الجمعية الأب هادي العيا أبعاد مشكلة الاكتظاظ والازدحام في السجون اللبنانية. فالنقطة الأساسية التي يشير إليها ترتبط بالبنية التحتية للسجون غير القادرة على تحمّل هذا الضغط من ناحية عدد المساجين، فلا الزنزانات معدّة لاستيعاب أكثر من سجين واحد وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحمّامات. كما أنّ هناك بعداً خطراً آخر للاكتظاظ وهو انتشار ظاهرة التحرّش الجنسي والأمراض المعدية بين المساجين. ولفت العيا إلى أنّ مشكلة الازدحام تصبح خطرة أكثر، حين يُجمع المساجين ذوو الجرائم المختلفة في مكان واحد، فيمكن سائقاً صدم شخصاً على الطريق أن ينتهي به الأمر مع مجرم من الدرجة الأولى، وهذا ما يتناقض تماماً مع مبدأ الإصلاح وإعادة تأهيل السجين ليعود إلى المجتمع. ويصف العيا ما يحدث في السجون اللبنانية أنّه تطبيق لمبدأ «القوي يأكل الضعيف» بسبب الدعم السياسي والمالي المتوافر لبعض المساجين، فيما يبقى آخرون خاضعين لتسلّطهم. وهذا ما يشيع الفوضى في السجون، تماماً كما يحدث اليوم من ناحية المتاجرة بالمخدرات وغيرها من الممنوعات داخل السجن ذاته. أمّا الحلول فموجودة وفق العيا، وأولها انتقال إدارة السجون من وزارة الداخلية إلى العدل، ليس لتغيير الإدارة فحسب، إنما لتصبح السجون مكاناً لإعادة التأهيل وليس مركزاً أمنياً. كما يطالب العيا بأن يكون هناك قوى أمنية مختصّة ومدرّبة على حماية السجون والتعامل مع المساجين مع تأمين موازنة خاصة بالسجون لتطويرها وتحسين بنيتها، إضافة إلى أهمية عزل التأثير السياسي عن القرارات المتّخذة داخل السجون. لكن ذلك لن يكون كافياً لحلّ مشكلة السجون، إذا لم تتكامل الخطوات السابقة مع إعادة النظر في العقوبات وتعامل القضاء مع المحكومين أو المشبوهين، وفق العيا. فحسب رأيه، ليس ضرورياً أبداً أن يدخل كلّ شخص ارتكب جنحة أو جريمة معيّنة إلى السجن، إنما هناك عقوبات أخرى باتت موجودة في مختلف بلدان العالم كالخدمة الاجتماعية والعمل ضمن إطار البلديات. ولتحقيق ذلك، هناك حاجة لتطوير ثقافة سجنية قائمة على حسن إدارة العقوبات وإعادة تأهيل السجين بدل زيادة جرعة الإجرام لديه كما هو واقع السجون في لبنان حالياً. إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب حين يُطرح موضوع اكتظاظ السجون في لبنان يكتسب أبعاداً سياسية ومالية وأمنية، إلا أنّ الناحية الإنسانية تبقى الأكثر بعداً من الأضواء. وأكثر من يستطيع تقديم شهادته في هذا المجال هم المساجين السابقون الذين ذاقوا طعم المرّ، وعرفوا المعنى الحقيقي للاكتظاظ والازدحام في السجون اللبنانية. فالسجين السابق علاء خ. يطلع «الحياة» على تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها المساجين، ويقول: «في السجن إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب... خصوصاً حين تعيش مع عشرة مساجين آخرين في غرفة لا تكفي إلا لشخص واحد». ويضيف أنّ المشكلة الأكبر التي واجهها هي وجوده مع مجرمين من الدرجة الأولى، على رغم أنه متهم بسرقة محلّ تجاري، ما يُعتبر جنحة، وهذا ما يؤدي بنظره إلى انتشار الفساد في الزنزانات حيث تصبح المخدّرات مثلاً خبزاً يومياً يتسلّى به المساجين. ويؤكد علاء أن التحرش الجنسي ظاهرة منتشرة جداً في داخل السجن، خصوصاً خلال الليل، بما أنّ أياً من المساجين لا يتمتّع بمساحة خاصة له، إنما ينامون «رأس كعب» أي أنهم متلاصقون جداً، ما يدفع ببعضهم إلى المبادرة بالتحرّش ويصعب على الضعيف مقاومة ذلك «لأنه يدفع الثمن غالياً» كما يقول علاء. وحينما نسأله عن دور القوى الأمنية في مواجهة هذا الواقع ومنعه، يضحك علاء للفكرة، لأنه يرى أنها «جزء من الفساد»، بل إن بعضهم مروّجون له، خصوصاً أنّ رواتبهم زهيدة، ما يزيد من تأثير الإغراءات التي يقدّمها لهم رجال المافيات والعصابات. كما تصدر الشكوى من هذه القضية وغيرها أيضاً عن أهالي المساجين الحاليين الذين يرون أولادهم وهم يواجهون أشكال الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، فيدخلون السجن ليؤدبوا ويخرجوا مبرمجين بعقلية إجرامية من الدرجة الأولى أو مرضى يدفعون فاتورة جريمتهم من صحّتهم، فبحسب أمّ أحد المساجين، عليا ن.، يؤدي الاكتظاظ إلى انتشار مرض الإيدز في شكل مخيف في السجن، ولا إجراءات فعّالة تتخذ في هذا الشأن. كما أنّ أدنى شروط الإنسانية غير متوافرة من ناحية الإقامة بحسب عليا، فالجدران تتآكل تحت تأثير الرطوبة، والصراصير وغيرها من الحشرات منتشرة في الأمكنة ما يزيد من مخاطر الأوبئة. وتصف عن لسان ابنها الحال الرهيبة التي تسود السجن حين يعلن مساجين التمرّد أو يشطبون أنفسهم، خصوصاً أنّ «القصاص» غالباً ما يشملهم جميعاً ويزيد من حرمانهم.